لا يتعلق الصراع على مستقبل
القدس بالدين فحسب، أي المطالبات بالحقوق التاريخية في الأماكن المقدسة أو من يحق له الصلاة في موضع ما وفي وقت ما. بل الأمر يتعلق أيضاً بالسلطة، أي استعراض إسرائيل المستمر للقوة، بينما يحاول
الفلسطينيون انتزاع جزء من السيطرة على حياتهم.
ويمكن النظر إلى هذا الصراع عبر عدسات كثيرة، لكن لا رؤية أوضح من تلك التي تقدمها قصة مدينتين فلسطينيتين - القدس الشرقية والخليل - والصلات التي تربط مصيرهما. ففي عام 1994، بعد أن قام مستوطن إسرائيلي متطرف، «باروخ جولدشتاين»، بقتل 29 مصلياً فلسطينياً في الحرم الإبراهيمي في
الخليل، فرض الإسرائيليون إجراءات قمعية كثيرة أثرت بشكل خاص على الخليل والقدس. وزعم الإسرائيليون أن الإجراءات أريد بها درء انتقام فلسطيني محتمل رداً على المجزرة.
لقد ارتكب إسرائيلي جريمة ودفع الفلسطينيون الثمن. وطُرد من منازلهم فلسطينيون يعيشون بالقرب من بضع مئات من مستوطنين إسرائيليين احتلوا بشكل غير مشروع مبانٍ في شارع الشهداء بالخليل.
ونشر الجيش الإسرائيلي أكثر من 1000 جندي مدججين بالسلاح وأغلق شوارع رئيسية مما أدى إلى إغلاق السوق فعلياً. والشوارع التي كانت تغص ذات يوم بالآلاف من سكان الخليل، يتجولون ويتسوقون، أصبحت خاوية على عروشها. وأدى هذا إلى توترات ومشاق في الخليل، بالإضافة إلى انهيار الرخاء الاقتصادي للفلسطينيين في البلدات والقرى المجاورة. ولحماية مستوطني «كريات أربعة» القريبة، أقام الجيش الإسرائيلي حواجز كثيرة وأغلق الكثير من الطرق الجانبية.
وأصبح عبور نقاط التفتيش عبثياً. فقد أُجبر العرب الذين يقودون سياراتهم من القرى المجاورة على الوقوف خارج أحد الحواجز ثم السير إلى الحاجز التالي، على بعد 50 مترا لاستقلال سيارة أجرة إلى الخليل من هناك.
وأصبحت الحياة اليومية في الخليل عبارة عن أعمال شغب من المستوطنين، وتفريغ المتاجر العربية، وضرب الشرطة للفلسطينيين، وإغلاق البلدة القديمة وتدمير اقتصادها ومضايقات وضغط يومي. وفي هذه الأثناء، سيطر الإسرائيليون على الحرم الإبراهيمي تماماً، وقسموا مساحته، بشكل غير متساو، إلى قسمين، أحدهما لليهود والآخر للمسلمين.
وتمتع اليهود بحرية الوصول نسبياً إلى الحرم، بينما يُجبر الفلسطينيون على الانتظار في طوابير مهينة والمرور عبر نقاط تفتيش كثيرة. في المناسبات ذات الأهمية الدينية لليهودية، دأب الإسرائيليون على إغلاق المسجد ومحيطه أمام الفلسطينيين.
وفي الآونة الأخيرة، أعلنت إسرائيل عن خطط للاستيلاء على الأراضي المحيطة بالمسجد لبناء مصعد لتوفير الوصول للمصلين اليهود. ومصير القدس ومصير الخليل متلاحمان لسببين. أولاً، كجزء من الإجراءات «الوقائية» التي اتخذت بعد جريمة جولدشتاين، عزلت إسرائيل القدس الشرقية تماما عن بقية الضفة الغربية، وهذا أدى إلى عواقب اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وحتى نفسية عميقة للسكان الفلسطينيين في القدس الشرقية.
وما تطلق عليه إسرائيل القدس الشرقية يشمل في الواقع مساحة كبيرة من الضفة الغربية تتضمن 28 قرية فلسطينية، وهي منطقة حضرية تمثل مركزاً إقليمياً منتعشاً يتسوق ويعمل فيه الفلسطينيون ويذهبون إلى المسارح ويحصلون على الرعاية الطبية والخدمات الاجتماعية. لقد كان مركزاً منتعشاً وأصبح الآن مغلقاً. وأدى غياب الوظائف والفرص للشباب الفلسطيني في القدس إلى إثارة التشاؤم واليأس. وفصل الإغلاق قلب فلسطين عن سائر جسده.
وكما هو الحال في الخليل، فقد الفلسطينيون في القدس السيطرة على حياتهم ومستقبلهم وأملهم. وبعد أن شهدنا زيادة بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي وهدم المنازل كجزء من جهود إسرائيل لتهويد المدينة، تحول فقدان الأمل إلى استياء وضجر. وهناك مكان واحد، ووحيد، يشعر فيه الفلسطينيون بدرجة ما من مظاهر السيطرة هو الحرم الشريف والمسجد الأقصى.
وهذا هو السبب الثاني لارتباط مصير المدينتين. ونظراً للأعداد المتزايدة من الإسرائيليين المتمتعين بحراسة مشددة الذين يغزون منطقة الحرم، فإن أعمال التحريض التي ترافق هذه «الزيارات»، والنية المعلنة للمتطرفين الإسرائيليين للسيطرة على المنطقة، يشعر الفلسطينيون بالتهديد العميق. ورد فعلهم ليس نابعاً من معاداة السامية، كما يدعي الوزير ايتمار بن جفير، العضو البارز في الحكومة الإسرائيلية الحالية. بل نابع من الخوف من وقوع ما حدث للحرم الإبراهيمي في الأقصى. وهذا لا يمكنهم تحمله. من المؤكد أنها قضية دينية، لكنها في جوهرها تتعلق بحاجتهم إلى حماية السيطرة الوحيدة التي بقيت لهم.
(الاتحاد الإمارتية)