قام الصندوق
القومي
اليهودي، وهو الذراع المالي والاستعماري الرئيس للحركة الصهيونية، والناشط
منذ إنشائه في الاستيلاء على الأراضي
الفلسطينية وطرد الفلسطينيين، بمقاضاة
الفلسطينيين مؤخرا؛ للحصول على تعويض مالي منهم، عقابا لهم على جرأتهم في مقاومة
نشاطاته الاستعمارية الاستيطانية.
فقد أقام الصندوق
القومي اليهودي ومعه عدد من الأمريكيين-
الإسرائيليين دعوى قضائية الأسبوع الماضي
ضد "الحملة الأمريكية من أجل حقوق الفلسطينيين"، يطالب فيها بتعويضات
مالية بسبب دعم الحملة لحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات أو "بي
دي إس"، وهي حركة غير عنفية أقامها المجتمع المدني، زاعمين أن الحركة هي
"واجهة للجماعات الإرهابية".
تسعى دعوى الصندوق القومي اليهودي للحصول على تعويض من "الحملة الأمريكية لحقوق الفلسطينيين"، نتيجة دعم الأخيرة لحركة "أوقفوا الصندوق القومي اليهودي"، التي تحتج على الأنشطة العنصرية والاستعمارية للصندوق. تعتمد هذه القضية في مرجعيتها القانونية على قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي.
وعلى نفس القدر
من الأهمية، تسعى دعوى الصندوق القومي اليهودي للحصول على تعويض من "الحملة
الأمريكية لحقوق الفلسطينيين"، نتيجة دعم الأخيرة لحركة "أوقفوا الصندوق
القومي اليهودي"، التي تحتج على الأنشطة العنصرية والاستعمارية للصندوق. تعتمد
هذه القضية في مرجعيتها القانونية على قانون مكافحة الإرهاب الأمريكي، "الذي
يسمح لضحايا الهجمات التي تقوم بها الجماعات المصنفة كمنظمات إرهابية أجنبية من
قبل حكومة الولايات المتحدة، برفع دعوى قضائية للحصول على تعويضات في المحاكم
الأمريكية". وكانت محكمة فيدرالية قد رفضت الدعوى في عام 2021 لعدم وجود أدلة،
ولكن رغم ذلك، استأنف الصندوق القومي اليهودي قرار المحكمة الأسبوع الماضي.
كانت الحركة
الصهيونية، التي تأسست عام 1897 بهدف التخطيط لاستعمار فلسطين من قبل اليهود، بحاجة
إلى أذرع مالية بسرعة لتنفيذ خطتها. وفي عام 1899، أنشأت "الصندوق اليهودي
الاستعماري"، الذي أنشأ بدوره فرعا في فلسطين في عام 1902 أطلق عليه اسم "البنك
الأنغلو- فلسطيني". وبالإضافة إلى ذلك، أنشأت المنظمة الصهيونية "الصندوق
القومي اليهودي" في عام 1901، ثم في عام 1908 تم إنشاء "شركة تنمية
الأراضي الفلسطينية" التابعة للصندوق، التي شرعت في طرد الفلاحين الفلسطينيين
من أراضيهم، من خلال الحصول على أراض من السلطات العثمانية وملاك أراض غائبين كبار مقيمين
في بيروت ودمشق والقاهرة.
كانت المهمة
الرئيسة للصندوق القومي اليهودي، هي جمع التبرعات من المجتمعات اليهودية؛ لغرض
الاستيلاء على أرض الفلسطينيين، وهو نشاط رئيس يتواصل حتى وقتنا الحاضر. وقد تم
تكليف منظمة فرعية أخرى تابعة للصندوق، تسمى "هيمانوتا"، في السنوات
الأخيرة لتنفيذ صفقات شراء أراض في الضفة الغربية مشكوك في شرعيتها القانونية.
وقد
أدت السياسة الاستعمارية العنصرية المعادية للفلسطينيين التي انتهجتها الحركة
الصهيونية والصندوق القومي اليهودي إلى اختيار آرثر روبين، وهو يهودي ألماني مولود
في مقاطعة بوزين، وكان عضوا في الصندوق القومي، لقيادة جهود الصندوق في الاستيلاء
على الأراضي في فلسطين. وقد أصبح دور روبين، الذي تصور نفسه على أنه عالم أعراق،
والذي كان يحمل آراء عنصرية، بما في ذلك إزاء اليهود وما أسماه بـ"الأنواع
اليهودية" العرقية، مركزيا للجهود الاستعمارية الصهيونية في فلسطين. وقد كانت
بوزن، التي ولد فيها روبين، مقاطعة ذات أغلبية بولندية واقعة تحت الاحتلال
الألماني، الذي حوّلها إلى مستعمرة استيطانية ألمانية.
وبعد
برهة من وصوله إلى فلسطين في عام 1907 في رحلة موّلها الصندوق القومي اليهودي
لاستكشاف إمكانية الاستيطان اليهودي، كتب روبين إلى الصندوق قائلا: "أرى أن عمل
الصندوق القومي اليهودي مشابه لعمل لجنة الاستعمار [البروسية] التي تعمل في
[مقاطعتي] بوزين وغرب بروسيا [البولنديتين]. وسيقوم الصندوق القومي اليهودي بشراء الأراضي
متى عرضت من قبل غير اليهود، وسيقوم بدوره بعرضها لإعادة بيعها إما جزئيا أو كليا لليهود". وفي نفس العام، تم افتتاح مكتب الصندوق القومي اليهودي في فلسطين
برئاسة روبين.
وقد رأى روبين، الذي تبنى وجهات نظر معادية
للسامية، في الاستعمار الاستيطاني الصهيوني السبيل الوحيد لليهود ليكفوا عن كونهم
موضع ازدراء في نظره: "لا يعمل اليهود بسرور، ويجب أن يغيروا سُبل عيشهم
تدريجيا إلى الزراعة والحرف اليدوية؛ المعادون للسامية على حق عندما يتهمون
اليهود بشهوة غير طبيعية للربح". وقد واصل روبين نشاطاته "العلمية"
في تصوير اليهود فوتوغرافيا، وقياس حجم جماجمهم وتصنيف أنماطها، وجمع بصمات
أصابعهم من أجل تقسيمهم وتصنيفهم إلى أنواع عرقية مختلفة.
وقد سعى روبين وفقا للخطط التي وضعها عام 1908 للاستيطان الصهيوني، إلى إقامة أغلبية يهودية في أجزاء
معينة من فلسطين على مدار العشرين عاما التالية، من خلال هجرة مستمرة لـ10 آلاف يهودي
سنويا. وقد أنشأ شركة تنمية أراضي فلسطين في عام 1908، التي بموجب عملها، ووفقا لوثيقة تأسيسها، "ستتبنى الأساليب التي استخدمتها لجنة الاستعمار البروسية، المنخرطة في عملية الاستيطان [الألماني] في المقاطعات الشرقية [البولندية المحتلة]
لبروسيا". وفي عام 1911، اقترح روبين لأول مرة طرد الفلسطينيين الأصليين
لتسهيل عملية الاستيطان.
وقد استؤنفت
مقاومة الفلاحين الفلسطينيين، التي تجلت منذ بداية الاستعمار الصهيوني في منتصف
ثمانينيات القرن التاسع عشر، بعد قيام عائلة سرسق، وكانت من ملاك الأراضي الغائبين
المقيمين في بيروت والقاهرة، ببيع مساحات شاسعة من الأراضي في عام 1910 إلى
الصندوق القومي اليهودي. وقد أدت عملية البيع إلى طرد المزيد من مجتمعات الفلاحين
الفلسطينيين من الأراضي التي عملوا عليها لقرون لا تحصى، وهدم قراهم التي بنيت منذ
قرون. ولقد كانت عائلة سرسق قد اشترت الأراضي من الدولة العثمانية عام 1872 بعد صدور
القانون العثماني لعام 1858 الذي خصخص الأراضي. وقد كان لذلك أثر مأساوي على
الفلاحين، لا سيما فلاحي قرية الفولة، وهي إحدى القرى المستهدفة بالهدم. وكان روبين
قد أبرم الصفقة في بيروت، لكن فلاحي الفولة رفضوا أوامر الإخلاء. ولكن رغم
مقاومتهم، إلا أن السلطات العثمانية قامت بطرد الفلاحين قسرا في عام 1911 واعتقلت
الكثير منهم، كما قامت مليشيات حرس المستوطنات اليهودية بقتل فلاح فلسطيني.
ومنذ أوائل
عشرينيات القرن الماضي فما بعد، تحرك الصندوق القومي اليهودي في جولة تسوق لشراء
الأراضي الفلسطينية من ملاك الأراضي الغائبين المقيمين في بيروت والقاهرة، مما أدى
إلى تهجير آلاف الفلاحين، الذين انضموا بشكل متزايد إلى الانتفاضات والثورات ضد
المستوطنين ورعاتهم البريطانيين. وسيغدو الصراع على الأرض في قرية عفولة في منطقة
مرج ابن عامر -التي كانت تضم 22 قرية كان من المقرر إخلاؤها- نقطة انطلاق رئيسة
للمقاومة في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1924، إضافة إلى عملية تهجير البدو
الفلسطينيين من مراعيهم وأراضيهم الزراعية (حوالي 10 آلاف فدان) في منطقة وادي
الحوارث. وقد تأخر تهجير الأخيرين بسبب مقاومتهم ورفضهم مغادرة أراضيهم، وكذلك
نتيجة القضايا المعلقة في محاكم الانتداب، لكن البريطانيين تمكنوا من طردهم أخيرا في عام 1933.
وقد توصل روبين في
عام 1931 إلى قناعة بأن هزيمة السكان الأصليين الفلسطينيين هي الطريقة الوحيدة لتأسيس
مستعمرة استيطانية يهودية، حيث قال مقولته الشهيرة: "ما يمكننا أن نحصل عليه
من العرب لسنا بحاجة إليه، وما نحتاجه لا يمكننا الحصول عليه" بالطرق
السلمية.
وبعد فترة قصيرة
من وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا في عام 1933، التقى روبين مع هانز غونثر،
أحد العلماء الألمان المعروفين والمروّج الرئيس للنظرية العرقية النازية. وكان روبين
من أكبر المعجبين بغونثر وبنظرياته، وكان قد أرسل له نسخا من كتاباته المنشورة
حول موضوع الأعراق. كما هدف لقاؤه مع غونثر أيضا إلى تسهيل المفاوضات بين
الصهاينة والنظام النازي، مما أدى إلى اتفاقية الترحيل (أو
"الترانسفير") الصهيونية النازية سيئة السمعة.
وبصفته عنصريا ملتزماً، لم يكن روبين متأثرا فحسب في آرائه عن اليهود بآراء المسيحيين الألمان
المعادين للسامية، الذين تأثّر النازيون بنظرياتهم، بل وفقا لكتاب المؤرخ
الإسرائيلي إيتان بلوم، فقد تأثرت النظريات العرقية الألمانية بشأن اليهود، التي
تم تبنيها لاحقا من قبل الحزب النازي، بنظريات روبين العرقية عن اليهود. وقد أصر روبين
على "النقاء العرقي" اليهودي كشرط أساس لنجاح المشروع الصهيوني، واعتقد
أن اليهود "السفارديم" كانوا ينتمون لعرق أقل منزلة من عرق اليهود
الأوروبيين (الأشكنازيم).
واصل الصندوق القومي اليهودي نشاطه الاستعماري من بعده بنفس القدر من الجدية؛ فقد سعى الصندوق إلى محو الجغرافيا الفلسطينية والوجود الفلسطيني على الأرض، ليس من خلال الاستعمار والاستيطان فحسب، بل أيضا من خلال إعادة تسمية المدن والقرى الفلسطينية، وهو ما سعى إلى القيام به قبل عام 1948.
وفي عام 1934، شعر
روبين بالصدمة إزاء اقتراح لتجنيد وجلب اليهود الإثيوبيين للمساعدة في الاستيطان
الصهيوني في فلسطين، فرفض الاقتراح وأصر على أن الإثيوبيين هم "زنوج منحطون،
اعتنقوا اليهودية بقوة السيف في القرن السادس قبل الميلاد، وليس لديهم صلة دم
باليهود [الأقحاح] ". وقد اعتبر روبين أن معظم اليهود الأوروبيين (الأشكنازيين)،
لكن ليس كلهم ينتمون إلى "الأجناس الهندو- جرمانية البيضاء".
وفي
حين استمرت أهمية دور روبين بصفته المسؤول الصهيوني الأكثر نفوذا في فلسطين حتى
وفاته عام 1943، فقد واصل الصندوق القومي اليهودي نشاطه الاستعماري من بعده بنفس
القدر من الجدية؛ فقد سعى الصندوق إلى محو الجغرافيا الفلسطينية والوجود الفلسطيني
على الأرض، ليس من خلال الاستعمار والاستيطان فحسب، بل أيضا من خلال إعادة تسمية
المدن والقرى الفلسطينية، وهو ما سعى إلى القيام به قبل عام 1948، من خلال
"لجنة أسماء الأماكن" التابعة للصندوق. وبعد عام 1948، تم استبدال هذه
اللجنة بـ"لجنة أسماء الأماكن في إسرائيل". وقد اقترحت اللجنتان (اللتان
كانتا صاحبتي السلطة في الموافقة على الأسماء)، جميع الأسماء الجديدة التي منُحت
للشوارع والبلدات والمدن المقامة فوق وطن الفلسطينيين المدمر.
وبعد
إنشاء المستعمرة الاستيطانية، سنّت الحكومة الإسرائيلية "قانون وضع المنظمة
الصهيونية والوكالة اليهودية" في تشرين الثاني/ نوفمبر 1952. وقد حدد هذا
القانون المنظمة الصهيونية بصفتها الجهة المسؤولة عن "مشاريع الاستيطان في
الدولة"، وتم تفويضها لتنسيق "الأنشطة في إسرائيل للمؤسسات والمنظمات
اليهودية النشطة في.. تطوير واستيطان البلاد". وما كان إحدى المؤسسات
الرئيسة، ليس إلا الصندوق القومي اليهودي.
وبما
أن الوكالة اليهودية مدرجة في القانون إلى جانب الحركة الصهيونية والصندوق القومي
اليهودي، فإن
المنظمات اليهودية الثلاث، التي تلزمها لوائحها الداخلية بالاستعمار
اليهودي، أصبحت شريكة في سياسات إسرائيل العنصرية، التي تروّج لها جميعاً لصالح
"الأشخاص يهوديي العرق أو الدين أو الأصل". وقد تبع ذلك بعد عام صدور قانون
جديد يسمح بتأسيس "شركة الصندوق القومي اليهودي في إسرائيل"، حيث كان قد
تم تأسيس الصندوق القومي اليهودي الأقدم في بريطانيا عام 1907. وتم بموجب هذا
القانون الجديد السماح بنقل جميع ممتلكات وأصول الصندوق القومي اليهودي المملوكة
داخل حدود الدولة الجديدة إلى الشركة الإسرائيلية، في حين أن الشركة البريطانية استمرت
في الاحتفاظ بجميع الممتلكات التي تمتلكها في المناطق "العربية" خارج
حدود إسرائيل، أي في باقي فلسطين والأردن.
وقد
تم تمرير ثلاثة قوانين أخرى في عام 1960 -"القانون الأساسي: أراضي
إسرائيل"، و"قانون أراضي إسرائيل"، و"قانون إدارة أراضي
إسرائيل"- تضمن أن "إدارة أراضي إسرائيل" هي الجهة التي ستدير جميع
أراضي الدولة الإسرائيلية وأراضي الصندوق القومي اليهودي، بما يتماشى مع معايير
الصندوق القومي اليهودي التقييدية. ووفقا للقوانين الجديدة، فإن جميع هذه
الأراضي، التي تم الاستيلاء عليها من خلال مصادرة ممتلكات الشعب الفلسطيني، الذي تم
تهجيره قسرا من وطنه من خلال قانون أملاك الغائبين (1950) وقانون أملاك الدولة
(1951). وقد أصبح "أكثر من 90 في المائة من مساحة الدولة" محفوظا قانونيا لليهود حصريا (أي اليهود في أي مكان في العالم، وليس فقط المواطنين اليهود في
إسرائيل) "وإلى الأبد".
لا يمكن وصف هذه المفارقة المفجعة في أن هذه المنظمة التي تسببت (ولا تزال تتسبب) بالكثير من الألم والمعاناة للشعب الفلسطيني على مدى الأعوام الـ120 الماضية، تطالب اليوم بتعويضات مالية من ضحاياها عقاباً لهم على مقاومة سرقتها لأراضيهم وطردهم من منازلهم، إلا بأنها نمط من الباثولوجيا السادية التي لا ينتابها وخز الضمير بتاتاً
في
الواقع، أصبحت ما نسبته 92.6 في المائة من المساحة الكلية لدولة إسرائيل مخصصة
للاستخدام الحصري لليهود، للتأجير، أو السكن، أو العمل. وتنطبق هذه الشروط
العنصرية أيضا على الأراضي اليهودية المملوكة ملكية خاصة داخل الدولة. ويواصل
الصندوق القومي اليهودي جهوده اليوم مسلحا بهذه القوانين العنصرية الإسرائيلية،
بما في ذلك مساعيه الأخيرة لطرد الفلسطينيين من منازلهم في القدس الشرقية المحتلة
واستبدالهم بالمستوطنين اليهود.
لا يمكن وصف هذه المفارقة المفجعة في أن هذه المنظمة التي تسببت (ولا تزال تتسبب) بالكثير من الألم والمعاناة للشعب الفلسطيني على مدى الأعوام الـ120 الماضية، تطالب اليوم بتعويضات مالية من ضحاياها؛ عقابا لهم على مقاومة سرقتها لأراضيهم وطردهم من منازلهم، إلا بأنها نمط من الباثولوجيا السادية التي لا ينتابها وخز الضمير بتاتا، كما أنها ليست أقل من وقاحة استعمارية وعنصرية!