يوجد في الأساس وصفان متضاربان لسلسلة الأحداث التي أدّت إلى الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط/ فبراير 2022. أحد الوصفين ـ وهو الرواية الموالية لروسيا ـ يصف هذا الغزو كردّ فعل من طرف موسكو على ثلاثة عقود من الزحف الغربي بقيادة الولايات المتحدة داخل مجال الهيمنة الروسية السابق، وذلك في سياق المساعي التي تبذلها الولايات المتحدة لتوطيد هيمنة عالمية أحادية القطب.
وقد رأت
روسيا في الجولتين الرئيسيتين لتوسيع حلف الناتو شرقا إجراءات معادية واستفزازية، خاصة وأن روسيا نفسها لم تُدعَ أبدا للانضمام إلى الحلف الذي كان سبب وجوده الأصلي مواجهتها بعد
الحرب العالمية الثانية. فقد تمّ تكريس بولندا والمجر والجمهورية التشيكية دولا أعضاء في الناتو في عام 1999 على خلفية أول حرب قادتها الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب الباردة متجاوزة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومنتهكة بذلك القانون الدولي، ألا وهي حرب كوسوفو.
ثم في عام 2004، جرى دمج ست دول أخرى في الناتو من تلك التي كانت روسيا تسيطر عليها سابقا (إلى جانب دولة سابعة كانت بالأصل جزءا من يوغوسلافيا). بل وشملت دول البلطيق الثلاث، وهي من جمهوريات الاتحاد السوفييتي الدفين. أما الخلفية هذه المرة، فكانت غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة، الذي كان قد بدأ في العام السابق متجاوزا مجلس الأمن الدولي مرة أخرى في انتهاك جديد للقانون الدولي.
حتى لو افترضنا أن بوتين كان يعتقد أن قسما كبيرا من الأوكرانيين سيرحّب بما أصرّ على تسميته «العملية الخاصة» كان عليه أن يلغيها ويسحب قواته حالما اتضح أنه كان مخطئا
هذا وكان جورج دبليو بوش قد ألغى في العام السابق، ومن طرف واحد، معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية بما أثار استياء موسكو الشديد. لذا، عندما أصرّ الرئيس الأمريكي على ضمّ جورجيا وأوكرانيا إلى الناتو في قمة الحلف المنعقدة في بوخارست في عام 2008، شعر فلاديمير
بوتين في حاجة إلى التحرك قبل أن تجد روسيا نفسها متاخِمة لدول منتمية إلى الناتو المعادي لها على خط حدودي بالغ الطول. وكانت النتيجة ما حصل في جورجيا في عام 2008 وفي أوكرانيا في عام 2014. ثم أمر بوتين بغزو أوكرانيا في محاولة (فاشلة) لتحقيق «تغيير النظام» فيها مثلما سعت وراءه الولايات المتحدة في العراق وأخفقت.
أما الوصف المعاكس ـ وهو رواية أنصار الناتو ـ فهو يصوّر الغزو الروسي لأوكرانيا على أنه وليد أوهام العظمة لدى بوتين وطموحه لإعادة تشكيل المجال الإمبراطوري لروسيا القيصرية والاتحاد السوفييتي. والحال أن بوتين، منذ أن أصبح رئيسا لروسيا في مطلع القرن، زاد تدريجيا من تركيز السلطة بين يديه وأصبح أكثر فأكثر سلطوية. وقد تسارعت هذه العملية إثر عودته إلى الرئاسة في عام 2012، بعد فترة انتقالية جرى خلالها استبداله رسميا في هذا المنصب بدميتري ميدفيديف، مع استمراره في إدارة الأمور من مقعد رئيس الوزراء. وإذ واجه معارضة كبيرة لعودته إلى الرئاسة، شعر بوتين أنه مهدّد بحدوث «ثورة ملوّنة» ضد حكمه بحفز من الغرب.
حتى لو افترضنا أن بوتين كان يعتقد أن قسما كبيرا من الأوكرانيين سيرحّب بما أصرّ على تسميته «العملية الخاصة» كان عليه أن يلغيها ويسحب قواته حالما اتضح أنه كان مخطئا فغزا شبه جزيرة القرم وضمّها من أجل تعزيز شعبيته، مدركا أن هذا الضمّ سوف يحظى بتأييد شعبي واسع في روسيا. وقد أدّى نجاحه في هذا المسعى والاعتدال النسبي لرد الفعل الغربي، فضلا عن تأثير عزلته الذاتية التي طال أمدها خوفا من الإصابة بكوفيد-19، أدّت هذه الأمور إلى توخّيه دغدغة جديدة للمشاعر القومية الروسية من خلال إخضاع أوكرانيا برمّتها. فحاول تحقيق ذلك بغزوها، وفشل فشلا ذريعا بسبب مقاومة الأوكرانيين التي فاقت كل التوقعات.
أي من هاتين الروايتين صحيح؟ الجواب الموضوعي عن هذا السؤال هو: كلاهما. كلاهما صحيح ولا تناقض بينهما بتاتا، بل تكامل تام. ويرجع الأمر إلى أن سلوك واشنطن بعد انتهاء الحرب الباردة وفّر أقوى تحريض على نمو النزعة الانتقامية الروسية التي جاء فلاديمير بوتين إلى الحكم يجسّدها.
والحال أنه هو نفسه نتاج مباشر لما سمّي «العلاج بالصدمة» أي السياسة الاقتصادية الكارثية التي رعتها الولايات المتحدة في روسيا في تسعينيات القرن المنصرم، ولا بدّ من أن يبقى في البال أن تعيينه رئيسا لروسيا تمّ بقرار من الرجل ذاته الذي دعمته واشنطن في تقويضه للديمقراطية في موسكو في عام 1993، ألا وهو بوريس يلتسين.
أين يتركنا الإقرار بالمجموعتين السابقتين من الحقائق فيما يتعلق بالحرب الجارية؟ لا شك في أن المسؤولية الرئيسية في المأساة الحالية تقع على عاتق روسيا: فقد كان غزوها لأوكرانيا بلا سبب مباشر ومتعمّدا بشكل علني. وحتى لو افترضنا أن بوتين كان يعتقد أن قسما كبيرا من الأوكرانيين سيرحّب بما أصرّ على تسميته «العملية الخاصة» كان عليه أن يلغيها ويسحب قواته حالما اتضح أنه كان مخطئا، بدلا من الغرق في مستنقع دموي وحرب مدمّرة في شرق أوكرانيا. لذا ينبغي أن تسحب روسيا كافة قواتها إلى حيث كانت قبل 24 فبراير/ شباط 2022.
أما بالنسبة لشبه جزيرة القرم وتلك الأجزاء من شرق أوكرانيا التي كانت تسيطر عليها منذ عام 2014 القوات المناهضة لكييف والمدعومة من موسكو، فيجب تسوية وضعها بالوسائل السلمية والديمقراطية، أي من خلال استفتاءات لتقرير المصير تنظّمها هيئة مفوضة من الأمم المتحدة، مع نشر قوات دولية في الأراضي المتنازع عليها.
أما واشنطن فلا بدّ من أن تكف عن تأجيج النار في العلاقات الدولية بسلوكها المتغطرس والمتسلّط. بل عليها أن تكون أول دولة تلتزم بميثاق الأمم المتحدة ـ وهو مجموعة القواعد التي تمّت صياغتها في عام 1945 على أراضيها، في مدينة سان فرانسيسكو تحديدا، وتحت إشرافها. فلا يستطيع العالم أن يتحمل حربا عالمية جديدة من أجل إعادة الالتزام بهذه القواعد. ولا بدّ من إنهاء الحرب الباردة الجديدة، التي أطلقتها واشنطن بعد مرور أقل من عقد على نهاية الحرب الباردة الأولى، قبل أن تؤدي إلى فناء البشرية.