قدَّمنا تعريفنا لهذا المثقَّف، بنفي صفات المنْبَتّ وخصائصه، بما أن
المثقف الأصيل "مثقف
عضوي"، لا يمكن أن يوجد بغير مجتمعه، ولا يُمكن أن تتبلور رسالته بغير إدراكه
لأزمة هذا المجتمع. وإذا كان مثقفنا الرباني هذا إنسانا يُدرِكُ التناقُضات
الاجتماعية، ويُدرِك العوامل المسببة لهذا التناقُض، کما يعي احتياجات الجيل
والعصر، وهو المسؤول عن كشف طريق الخلاص للمجتمع، ليُخرِجهُ من وضع الشرك المأزوم،
ويُعين له الحلول والقيم؛ فإنه لا يضطلع بهذه الرسالة الإلهية إذ يعكس مجتمعه كأنه
مرآة، ويدور معه أينما دار. فإنما يستعمل معرفته بهذا المجتمع وأمراضه في علاجه
وتحسين مناعته، وهو في ذلك رائد سبَّاق لا يتوخَّى سلفاً يسلُك طريقه بالضرورة؛ إذ
رائده استشراف ما لا يُبصره المجتمع مما ينبغي أن يكون، فيعتقده، ثم يُبشر به،
ويحدوه إليه. وهو في فعله هذا مُفعمٌ بالسياسة، حتى إنها تصير مكوناً لصيقاً
بفعله وتصوره التوحيدي، بيد أنه لا يختزل وجوده وجهوده في السياسي البراني بالمعنى
الحديث، ولا يدور حوله، ولا يُقيد أفق حركته بالواقع السياسي المريض. ومن ثم، فهو
وإن كان كائناً سياسيّاً بالسليقة وبناء على خارطة الاهتمامات الفطرية، إلا أنه
ليس عبداً للواقع السياسي الحديث ولا لأفقه الضيق، ولا لمألوف مبانيه المشوَّهة
وأدواته الفاسدة.
هذا المثقَّف الذي
اختصَّه الله تعالى بخصائص تُعينه على الاضطلاع بدور النبوة في مجتمعه، لا يُمكن
أن يختزل وجوده في اقتباس أعمال الغربيين وترجمتها، والتي لا تتفق مع واقعه؛ إذ أن
جوهر مهمته في الحياة ومسؤوليته الوجودية هي تلمُّس روح مجتمعه وثقافته، واستكشاف
أبعادها، واستخراج مكنونها وتنقيته؛ وذلك بوصفها الباعثة للحياة في المجتمع وفي
شعور الجماهير. وهو إذ يرسخ بُنيان نسقه الفكري- الحركي على أساس هذه الثقافة،
وبمادَّة من معرفة الغايات التي يتعيَّن على هذا المجتمع أن يتغيَّاها، ليبلُغ
مأمنه في الدنيا والآخرة؛ فإنه يجتهد لنقل ما استشعره من مألوف الأزمات والعلل
الاجتماعية، من برودة مجرى الحياة اليومي المعتاد إلى حرارة وعي المجتمع وشعوره،
ليكسر نعومة العادة بحدَّة الإدراك؛ فيشرع مجتمعه -المستنير بما فتح الله به عليه-
في الحركة، ويجد المثقف في المجتمع نفسه عوناً على استنقاذه وهدايته.
هذا المثقَّف الذي اختصَّه الله تعالى بخصائص تُعينه على الاضطلاع بدور النبوة في مجتمعه، لا يُمكن أن يختزل وجوده في اقتباس أعمال الغربيين وترجمتها، والتي لا تتفق مع واقعه؛ إذ أن جوهر مهمته في الحياة ومسؤوليته الوجودية هي تلمُّس روح مجتمعه وثقافته، واستكشاف أبعادها، واستخراج مكنونها وتنقيته؛ وذلك بوصفها الباعثة للحياة في المجتمع وفي شعور الجماهير
ونحن نُلخِّص مهمة المثقف
الأصيل -في استنقاذ مجتمعه- في متتالية من ثلاث مراحل دائريَّة، لا تكاد
تنتهي في طورها الأول حتى تتكرر، وذلك بكرور الأيام وتعاقُب الأجيال.
وأولى هذه
المراحل هي استخراج الأصول الدينية والثقافية الأصيلة، الدافعة لحركة المجتمع،
وتنقيتها، وإزالة ما علق بها من أسباب الجمود والانحطاط والشرك؛ لتستعيد مقدرتها
على توليد الحركة تارة أخرى. وهي مهمة يلزم معها استعادة ارتباط الجماهير بهذه
الأصول، بإعادة صياغتها في صورة قيم أخلاقية واقعيَّة فعَّالة؛ فإن الحاضن
الاجتماعي هو عصب الإحياء ومركب التجديد.
أما
ثاني المراحل فهي تجريد طواغيت الملأ من قواهم المعنويَّة، التي كرَّسوا بها الشرك وعبادة الواقع
-ترسيخاً لهيمنتهم- وذلك بتقويض سيطرتهم على الوعي ومقولاتهم التخديرية؛ بانتزاع
أسلحة الدين والثقافة التي يستعملونها لتقويض الدين الحق نفسه والهيمنة على ثقافة
المجتمع؛ ليتسنى لهم التسلُّط فوقه. وهذه المرحلة ترسيخ لما قبلها واستكمال
للمتتالية؛ إذ تُعيد الحركة إلى ساحة الدين وتُحرره من طواغيت الإنس بعد أن
حرَّرته من طواغيت الفكر الجامد، ليعود طاقة تتجدَّد بها الحياة وتزكو. فإذا آلت
الحركة إلى
المرحلة الثالثة؛ تكاثف نشاطها في نقل كافَّة هذه العلل
والأزمات، جنباً إلى جنب مع رؤى علاجها؛ من مسيرة المجتمع اليومية التي يغفل فيها -بضوضاء
حركته المشوَّشة- عن تفاصيل أزمته، إلى ضمير المجتمع ووعيه؛ تأسيساً لحركة الإحياء
بوصفها صيرورة مُتجددة، يمتزج فيها التجدُّد الفكري بالتحرُّر الحركي؛ استعادة
للمعارف النبويَّة الشريفة، التي يستعيد بها المجتمع مقدرته الاجتهادية ثانية؛ فينفر
لاستخراج طاقته المحتبَسَة، ثائراً على انحطاط واقعه ومتخلصاً من تدهوره بالشرك؛
فيُعيد مركبه التاريخي إلى الصراط المستقيم.
وإذا كان الغرب المشرِك
يعتدي بتسمية المشتَغِل بالعلوم الطبيعية الماديَّة "عالماً"، ويُرسخ
هذه الرؤية الكونية المشرِكة بجعل هذا "العالِم" حادياً إلى اللذة
والإخلاد إلى الأرض، ثم بربط "العلم" بشهوات الدنيا و"الجهاد"
في سبيلها، وجعل ذروة سنام هذا "الجهاد" هي استكشاف أسباب التسلُّط
المادي والراحة والدعة، وتكريس التوجُّه إليهم؛ فإن المثقف الرباني الأصيل هو
العالم الحق، الذي يهدي إلى الحقائق الكُبرى، وذلك بوصفه وريثاً للنبوَّة في
مجتمعه.
وإذا كان "العالِم"
الزائف يزعم أن هذا التردي هو الواقع، وعلينا العمل على "تطوير" أسباب
استمتاعنا به لنحيا حياة مترفة؛ فإن العالم الحق (المثقف الرباني) يتمسَّك بما
ينبغي أن يكون عليه الواقع، فما حياتنا إلا سيرٌ إليه سبحانه ابتغاء مرضاته. إن
المشتغل بالعلوم الطبيعية يكاد يُمسك -إن صدق- مصباحاً يُنير به حركة أفقيَّة على
الأرض، أما المثقف فيجب أن يُرشدنا إلى سلوك الطريق الذي يعرج بنا من دياجير الأرض
إلى نور السماوات والأرض. لهذا، قد يتلاعب الطواغيت بالعالم الحائر في دورانه على
سطح هذه الأرض، ويوظفونه هو وعلمه لخدمتهم؛ أما العالم الحق فإن جهاده في السلوك
ينجيه بإذن الله من شياطين الإنس والجن، ويصرفهم عن طريقه.
المشتغل بالعلوم الطبيعية يكاد يُمسك -إن صدق- مصباحاً يُنير به حركة أفقيَّة على الأرض، أما المثقف فيجب أن يُرشدنا إلى سلوك الطريق الذي يعرج بنا من دياجير الأرض إلى نور السماوات والأرض. لهذا، قد يتلاعب الطواغيت بالعالم الحائر في دورانه على سطح هذه الأرض، ويوظفونه هو وعلمه لخدمتهم؛ أما العالم الحق فإن جهاده في السلوك ينجيه بإذن الله من شياطين الإنس والجن، ويصرفهم عن طريقه
هذا المثقَّف الأصيل، أو
المثقف العضوي، أو العالم الرباني، أو من ألهم فهماً عن الله؛ يجب أن يتحلَّى
بعدد من الخصائص التي تُعينه على الاضطلاع بمهمته الشاقَّة، وقد جرَّدنا منها
ثلاثاً لا غنى له عنها.
أولى هذه الخصائص هي الرؤية الواضحة لما هو كائن
وما ينبغي أن يكون، ولا نقصد بذلك إدراك الجزئيات والتفاصيل الإجرائية، وإنما
إبصار الكليات
القيمية والأخلاقيَّة التأسيسية، ومقدرته على إعادة حركة الواقع
ليصُب مسارها في تحقيق هذه الرؤية. وهذا يلزمه التحلي بخصلتين قد تبدوان
مُتناقضتين: شدَّة الالتزام بقيمه، وشدَّة المرونة في اختيار الطرائق والإجراءات
التي يُمكن بها تنزيل هذه القيم، شرط ألا تُفضي المرونة في هذه التفاصيل التقنية
إلى تشويش الرؤية نفسها، وإنما يتعيَّن أن تصب في تعزيزها على المدى الطويل.
أما
ثاني هذه الخصائص فتنبني على الأولى، وخلاصتها مقدرة الرائد/ المثقف/ العالم على شق طرق جديدة غير
مطروقة، تُفتَح لها فتحاً بتقواه والتزامه الأخلاقي. وشق هذه الطرق تلزمه جسارة
شديدة لا ريب، لا في اتخاذ القرار وتحمُّل المسؤولية فحسب، وإنما في التمييز
ابتداء بين الهوى/ الغواية/ الضلال والهداية/ الفتح/ الإلهام. إن الجسارة اللازمة
في هذه المرحلة/ الخصيصة جسارة في مواجهة النفس قبل أن تكون جسارة في مواجهة
الواقع. فإذا منَّ الله على هذا العابِد باجتياز المرحلتين السابقتين، اللتين
تُمثلان خصيصتين شخصيتين كذلك؛ فسيصير مطلوباً منه المُكث طويلاً عند الخصيصة/
المرحلة
الثالثة، أي رياضة نفسه على إدارة الواقع الذي يحدو مجتمعه إليه، وأول ما يجب
أن يستعد له هو إدارة الإخفاق والهزيمة، والاستعداد بالمعيَّة الإلهيَّة ليستطيع
التعافي منهما. وهذا ما لا يُمكن أن يتأتى لمؤمن إلا بأن يتيقَّن أن ما أصابه لم
يكن ليخطئه، وأن ما أصابه فبما كسبت يداه، وأن ثمرة كل عمل ونتيجة كل سعي موكولة
إلى مولاه جل في عُلاه، وأنه تعبَّده بالسعي والجهاد فحسب، أما الثمرة فأمرها
موكول مُطلقاً إلى المشيئة الطليقة لمن لا يُسأل عما يفعل، جل شأنه.
هذه الخصائص/ المراحل
تُكسب المثقف قوَّة إلهيَّة نافذة، مصدرها صدق الاعتصام؛ فلا يُبالي بما وقع،
وإنما يُقبِل على مصيره بصدر مفتوح، مضطلعاً بمسؤوليته؛ إذ أنه لا يرجو إلا وجه
ربه.
وقد كتب الحبيب علي
شريعتي، في آخر رسائله إلى ابنه إحسان؛ يقول:
"لا أعرف ماذا تُخبِّئ لي الأيام، وأي
دور كُتِب عليَّ في أداء رسالة الله العظيمة. لكنَّني واثق بأن لي دوراً لم أُتمه
بعد، وإلا فكيف لا زلت حيّاً أُرزَق...
إن حياتي عبارة عن مراحل شبيهة بالخُطط الخمسيَّة! فكُلَّما بدأت عملاً
مُعيَّناً، يَبلُغ أجله بعد خمس سنوات؛ فأبدأ مرحلة جديدة مما يُشبه الصفر...
أحمدُ الله على أني كابَدتُ كل تلك التجارب، وعانيتُ كل تلك النكسات
المتعاقبة، ولا يزال عودي صَلباً، بل ويكسوني جلدٌ سميك؛ يغطي هذا الجسد ويحميه! إن
بعض عُلماء النفس يقولون إن الجيل الواحد لا يتحمَّلُ أكثر من هزيمة واحدة. وها
أنا ذا أَعُدُّ نفسي للهزيمة السادسة أو السابعة. الهزيمة أو النصر؛ لا فارق عندنا.
إنه أمر له أهميته البالغة عند التُجار والرياضيين، ومحترفي السياسة، أما نحن؛
فالمهم عندنا هو أداء رسالة الله، وقيامنا بواجبنا تحت كل الظروف، وفي مواجهة كل
الاحتمالات. فإذا انتصرنا؛ نسأل الله أن يَقينا شر الغرور، والنزوع إلى الظُلم
والجنوح إلى اضطهاد الآخرين. وإذا هُزِمنا؛ نسأل الله أن يقينا الذُلَّ والهوان
والخنوع.
إن الجهاد في سبيل الحقيقة والحرية، ومن أجل فلاحِ الإنسان؛ لهو أعظم
سعادة. وإن إخلاصي لهذا الكفاح، وتكريس حياتي للخلق؛ يُخفِّف عني شعوري بالتقصير
في نواحٍ أخرى، إذ لم أستطع أن أكون زوجاً أو أباً على الوجه المرجو!
وأحياناً يعتريني القلق؛ إذ أخشى أن تَضطَّهد السلطة أطفالي الصغار،
ووالدي الشيخ المريض. لكن مهما حدث؛ فهو في سبيل الله. والمرء حينما يتَّخذُ لنفسه
سبيلاً؛ فإن عليه الاستعداد لكافَّة الاحتمالات، والسير إلى نهاية طريقه حازِماً
قاطعاً مثل وحيد القرن!
فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً(1)؛ فإن ما نضطلع به، وقد ملأتنا حرارة الإيمان والعاطفة؛
يلزمه نفسٌ طويلٌ، وطبعٌ صبور على الشدائد، كما يلزمه شدَّة إيمان وقوَّة تعصُّب؛
فاللهم هَبْنا ذلك ووفِّق خُطانا".
"وَلَا
يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ"(2)؛ فاللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده،
واغفر اللهم لنا وله.
__________
(1) سورة الروم؛ اﻵية رقم 30.
(2) سورة فاطر؛ اﻵية رقم 14.