كان تزوير الشهادات الدراسية واحدا من أبرز ظواهر ما بعد 2003 في
العراق، والغريب أن
مجلس النواب العراقي حاول مرارا التغطية على هذه الظاهرة من خلال شمول مزوري الشهادات الأكاديمية، بقانون العفو العام، بل إنه أصدر قانونا عام 2020 يرتبط بمعادلة الشهادات، يتيح «التغطية» على تزوير الشهادات العليا نفسها!
في السياق نفسه، اتُهم أحد أعضاء مجلس النواب الجديد بتزوير شهادته الدراسية عام 2018، وسبّب ذلك لغطا صدر على إثره كتاب رسمي عن النائب المتهم بالتزوير بتاريخ 26 أيلول/ سبتمبر 2019 معنون إلى المفتش العام لوزارة التربية يطلب فيه تزويده بوثائق مصدقة لمراحل دراسته في وزارة التربية، ردا على الاتهامات الموجهة إليه.
وبالفعل يأتي الرد بكتاب موقع من المفتش العام لوزارة التربية بتاريخ 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 مرفق فيه نسخة من شهادة المرحلة الابتدائية، ونسخة من شهادة المرحلة المتوسطة/ امتحان خارجي، والأهم وثيقة تتعلق بالشهادة المتهم بتزويرها تثبت أنه «خريج معهد وحسب الوثيقة الصادرة بالرقم كذا وتحت رقم الكتاب كذا الصدر في 30 أيلول 2019». وكما هو واضح فإن كتاب المفتش العام يتحدث عن «صحة الوثائق» وأنها صادرة بشكل رسمي عن مديريات وزارة التربية!
لكنّ خلافا سياسيا بين زعيم حزب النائب المتهم بالتزوير و«عراب» وزارة التربية (الوزارات في العراق تتحول إلى إقطاعيات للفاعلين السياسيين عند تشكل الحكومات) جعل وزير التربية يصدر أمرا وزاريا بتاريخ 6 شباط 2020 بتشكيل لجنة تتولى التحقيق في موضوع تزوير الشهادة الدراسية للنائب المذكور!
وقد قدمت اللجنة التحقيقية تقريرها بتاريخ 26 شباط 2020 تؤكد فيه تزوير النائب لشهادته واتضح أنه من خريجي كلية الإمام الكاظم/ قسم القانون/ الدراسة المسائية في العام 2013 ـ 2014.
وأنه لم تتوفر الوثيقة التي اعتمدت لقبوله في تلك الكلية « بسبب تعرض الكلية لحريق عام 2014! وأن اللجنة تعذر عليها الحصول على وثيقة تخرجه من معهد الفنون الجميلة/ قسم الرسم/ الدراسة المسائية «لعدم وجودها في أوليات المعهد، حسب إفادة مدير معهد الفنون الجميلة! وأن المتهم بالتزوير قد قدم وثيقة بالرقم «كذا» في 14 كانون الثاني/ يناير 2015 بالرقم الامتحاني «كذا»/ خارجي «والتي تبين أنها غير صحيحة».
استنادا لقسم الامتحانات في المديرية العامة للتربية التي أكدت عدم وجود أي أولويات في الوثائق المحفوظة لديها! وأن المتهم بالتزوير قد استخدم تلك الوثيقة «غير الصحيحة» لغرض «منحه وثيقة تأييد تخرجه من معهد الفنون الجميلة ومفاتحة قسم الامتحانات في المديرية لتأييد صحة صدور تلك الوثيقة! وأن قسمي الإشراف الاختصاصي والامتحانات في المديرية العامة لتربية الكرخ الأولى بتشكيل لجنتين، الأولى تحقيقية بتاريخ 14 آب/ أغسطس 2018، والثانية تدقيقية بتاريخ 21 نيسان/ أبريل 2019، وقد أوصت اللجنتان بفتح صفحة قيد للمتهم بالتزوير بالاعتماد على الأولويات وافادات الموظفين، وأن اللجنتين قد خالفتا تعليمات المديرية العامة لتقويم الامتحانات، ولم تراعيا التناقض الحاصل في إفادة الموظف المسؤول عن شعبة الشهادات، وهو ما ترتب عليه فتح صفحة قيد جديدة للمتهم ومنحه وثيقة جديدة والتي اعتمدت فيما بعد لغرض الدراسة ومنحه وثيقة التخرج من المعهد المذكور! لتنتهي اللجنة إلى أنه «تولدت القناعة الكافية لدى اللجنة التحقيقية في ضوء ما تم ذكره أعلاه أن الطالب [اقرأ المتهم بالتزوير] محل البحث قد اصطنع محررا مزورا واستخدمه لغرض منحه وثيقة تخرج من معهد الفنون الجميلة»! ولتقرر التوصيات الآتية: أولا إبطال وثيقة تخرجه من الدراسة المتوسطة وعدم اعتمادها لأي غرض كان.
كان تزوير الشهادات الدراسية واحدا من أبرز ظواهر ما بعد 2003 في العراق، والغريب أن مجلس النواب العراقي حاول مرارا التغطية على هذه الظاهرة من خلال شمول مزوري الشهادات الأكاديمية، بقانون العفو العام.
ثانيا إلغاء توصيات اللجنتين التحقيقيتين وما ترتب عليهما من إجراءات لاحقة ومن ضمنها فتح صفحة قيد للمتهم ومنحه وثيقة بموجبها وعدم اعتمادها لأي غرض كان. ثالثا إشعار وزارة التعليم العالي إلغاء تخرج المتهم من قسم القانون الدراسة المسائية، وإشعار رئاسة مجلس الوزراء/ ديوان الوقف الشيعي بإلغاء وثيقة تخرجه. رابعا تحريك الشكوى الجزائية ضد المتهم بتهمة استخدام محرر مزور أمام جهات رسمية. ثم أخيرا تقديم مقترح تشكيل لجنة تحقيقية تتولى التحقيق في المخالفات!
وقد تضمن التقرير صورا عن الوثائق المزورة، والوثائق الأخرى التي بنيت على تلك الوثائق المزورة، كما تضمن توقيع أعضاء لجنة التحقيق، وهامش للوزير بتاريخ 27 شباط 2020 يقول: «أصادق أصوليا على توصيات ومقترحات اللجنة التحقيقية»! وفي 6 أيار 2020 حصلت حكومة الكاظمي على ثقة مجلس النواب، وتولى وزارة التربية وزير ينتمي للحزب نفسه الذي يضم النائب المتهم بالتزوير، وقد تغاضت الوزارة عن واقعة
التزوير التي أثبتتها اللجنة التحقيقية، وعن مصادقة الوزير السابق على نتائجه، ومع أن تقرير اللجنة التحقيقية نُشر في وسائل الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي، لم يصدر عن وزارة التربية أي تعليق حول ذلك! وليكتمل المشهد الهزلي، فقد فاز النائب المتهم بالتزوير في انتخابات مجلس النواب لعام 2021، وانتخب «رئيسا للجنة النزاهة»! ولم يعترض على ذلك سوى النائب المستقل باسم خشان الذي أصدر كتابا بتاريخ 2 شباط، موجها إلى وزارة التربية يطالب فيه بالتحقيق في تزوير وثائق رسمية تتعلق بالنائب المتهم، وأعاد فتح القضية من جديد!
لكن وزير التربية سارع إلى إصدار كتاب من وزارة التربية بتاريخ 20 شباط، وبتوقيعه شخصيا، يقول فيه إن ثمة لجنة تحقيقية قد تشكلت بموجب أمر وزاري بتاريخ 7 أيار 2020، أي بعد يوم واحد فقط من أداء وزارة الكاظمي لليمين الدستورية، وهذا يعني في اليوم الأول لتسلم الوزير منصبه، ليكون أمر تشكيل هذه اللجنة التحقيقية، أول أمر ربما يتخذه الوزير الجديد الذي ينتمي إلى حزب النائب المتهم بالتزوير، وهو ما يفضح محاولته للتغطية على تقرير اللجنة التحقيقية الأولى التي أثبتت التزوير! ويقول الكتاب أيضا ان نتائج لجنة التحقيق الأخيرة، والتي تنكر التزوير، قد عرضت نتائجها على القضاء العراقي لوجود دعوى قضائية ضد المتهم بالتزوير بتاريخ 18 آب 2020، ودعوى ثانية بتاريخ 22 حزيران 2022، وأن قرارا قضائيا صدر برفض الشكوى وغلق الدعوى غلقا نهائيا لثبوت صحة الشهادة العائدة للمتهم، من دون أن نعرف لماذا تأخر القضاء سنتين كاملتين ليصدر قرارا!
وقد أنهى الوزير كتابه بالقول: «فإن الوزارة ليس لديها ما تضيفه على ما جاء بالقرارات القضائية، وواقع الطالب [اقرأ المتهم] الثابت بسلامة خط سيره الدراسي وصحة الوثائق الدراسية»!
إن الهوة التي يسقط فيها العراق اليوم لا قرار لها، هكذا يشارك وزيران للتربية، وفي وزارتين متتاليتين، بالتدليس على وثائق مزورة لصالح نائب أثبتت لجنة تحقيقية، وبالوثائق واقعة تزويره، وشارك في هذا التواطؤ مجلس النواب نفسه!