الكتاب: "الاقتصاد السياسي: مقاربة مقارنة"
الكاتب: باري كلارك
ترجمة: عدنان حسن
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى 2022
(624 صفحة من القطع الكبير)
اليوم في مطلع القرن الحادي والعشرين، مازالت المؤلفات التي تنتقد
النظام الاقتصادي
العالمي الراهن ـ النيوليبرالية المظفرة ـ والسلطة المتزايدة
للأسواق، قليلة، بل إننا شهدنا في جميع البلدان الرأسمالية المتقدمة كيف أن أرباب العمل وكبار الموظفين الدوليين كما المثقفين أصحاب
الحضور الإعلامي والصحافيين الألمعيين، يمتدحون نظام العولمة الرأسمالية،
والاقتصاد الجديد.
وقد جاء هذا المديح في سياق إنتشار اللغة الكونية الجديدة، التي ترفض
توجيه نقد صريح وواضح إلى النيوليبرالية، أو الرأسمالية الجديدة، والطبقات المالكة
للثروة، والاستغلال والسيطرة والتفاوت الاجتماعي، باعتبارها مفاهيم أعيد النظر فيها بشكل قاطع بحجة بطلانها أو وقاحتها المفترضة،
نتيجة هيمنة إمبريالية رمزية قبل كل شىء متمثلة في الخطاب النيوليبرالي المنتصر.
وما يزيد مفاعيل قوة وضرر
هذا الخطاب أن من يشيعه ليس فقط دعاة الثورة النيوليبرالية الذين يريدون تحت غطاء
"التحديث" إعادة صنع العالم بالقضاء على المكتسبات الإجتماعية
والاقتصادية الناتجة عن مئة عام من النضالات الإجتماعية والتي باتت توصف كأنها
تقاليد قديمة أو معوقات في وجه الرأسمالية الجديدة, بل أيضا منتجون ثقافيون من اليسار مازالت غالبيتهم تعتبر نفسها تقدمية،
لكنها محبطة مع إنهيار تجربة "الإشتراكية المشيدة " في الإتحاد
السوفياتي, التي بد ت صالحة في مرحلة ما من القرن العشرين.
في هذا الكتاب الجديد الذي يحمل العنوان التالي: "الاقتصاد
السياسي ـ مقاربة مقارنة، المتكون من مقدمة وستة عشرة فصلاً، وخاتمة، يعالج فيه
الكاتب باري كلارك، موضوع الاقتصاد السياسي بوصفه علمًا قائمًا بذاته،يربط السياسة
بالاقتصاد،ويدرس نشأته وتاريخه وتطوره ومؤسسيه ومدارسه ومذاهبه.
فالليبرالية الكلاسيكية، في مطالبتها بتفتيت الوحدة العضوية للمجتمع
القروسطي، قد أعلت شأن السوق على حساب الحكومة والجماعة، لقد اقترحت هذه
الأيديولوجيا أن تضمن السوق السلوك الفردي العقلاني بجعل المصلحة الشخصية المادية
منسجمة مع صالح المجتمع، فالحكومة سوف تُختزل إلى دور الحَكَم، فتحمي حقوق الملكية
وتفرض تنفيذ العقود، إن ما يفشل الليبراليون الكلاسيكيون في فهمه هو أن الحكومة
القوية والجماعات النابضة بالحياة هما ضروريان لإبقاء الأسواق تعمل بسلاسة، وبدون
ضوابط ومعايير أخلاقية، فإن السلوك الهادف إلى تحقيق المصلحة الشخصية يدمر
الأسواق، وعندما تكون الحكومة مريضة، تنشأ المافيات والميليشيات عندما يحاول
المواطنون أن يؤمِّنوا من خلال العمل الجماعي ما لا يستطيعون الحصول عليه فردياً،
وعندما تكون الجماعة ضعيفة، فإن المجتمع اللاأخلاقي يستولد النزاع والجريمة
والتقاضي، مما يجعل نشاطات الأعمال/ البزنس مكلفة وصعبة.
سهلت الرأسمالية تراكم الثروة الذي سيحرر البشر من مشقة العمل الحقير ويسمح لهم بالتركيز على اللذات الأسمى للتعبير الفكري والفني
وبالمقابل، يشدد الراديكاليون والمحافظون على دور الجماعة، لكنهما
كانا في الماضي يريان الأسواق بوصفها تقسيمية وتمزيقية لكل من الجماعة والحكومة،
فمنذ الحرب العالمية الثانية، اقترب المحافظون أكثر من الليبرالية الكلاسيكية
بقبول الأسواق وانتقاد الحكومة، وتطور الراديكاليون أيضاً، معبرين عن الاهتمام
بالأسواق، لكنهم ظلوا مشككين بالحكومات في المجتمعات الرأسمالية، مع ذلك، ظل
المنظوران الأيديولوجيان كلاهما هامشيين في المجتمعات الغربية بسبب معارضتهما
للأسواق وللحكومة.
لقد أصبحت الليبرالية الحديثة أيديولوجيا مهيمنة في الغرب باقتراحها
توازن الحكومة والسوق، والاتكال على كل هيكلية حكم على حدة لقمع عيوب الهيكلية
الأخرى، واستباق المنافع من قدرات الهيكليتين، مع ذلك تتجاهل الليبرالية الحديثة
الجماعة، والكثير من تشوشها يعزى إلى هذا التغاضي، ففي غياب الجماعات السليمة، لا
يمكن للحكومة والسوق أن تقوما بوظيفتيهما بشكل تآزري لحل عيوب كل منهما الأخرى،
على سبيل المثال، إن جهود الحكومة لتعزيز المساواة يقوضها الاحتيالُ والعبثُ،
والانتهازيةُ عندما يسعى الأفراد المعزولون إلى الخلاص من قوى السوق التنافسية.
مؤسسو الليبرالية الحديثة
من وجهة نظر الكاتب باري كلارك، تقع جذور الليبرالية الحديثة عميقة
في تراث الليبرالية الكلاسيكية، برغم إن أوائل المنظرين الليبراليين الكلاسيكيين
مثل جون لوك وآدم سميث قد عبروا عن تحفظاتهم حول الحكمة من الاعتماد الوحيد على
السوق لتنظيم المجتمع، فإن التزامهم بالحرية الفردية والملكية الخاصة قد حال دون
أي فعل مهم من قبل الحكومة. ومع ذلك، مع بروز التحديين الراديكالي والمحافظ
للرأسمالية، جاء وعي متزايد لكون سياسات عدم التدخل عاجزة عن توليد تأييد سياسي
واسع، رداً على هذه المشكلة، انبثقت الليبرالية الحديثة كتوليفة من عناصر جذابة من
المنظورات الأيديولوجية الموجودة، هذه الطبيعة الانتقائية والهجينة ساهمت مساهمة
كبيرة في مرونتها وتكيفها، كنتيجة لذلك، طغى الليبراليون الحديثون على مدى الكثير
من القرن العشرين عندما سعوا إلى رعاية العدالة الاجتماعية في حين يصونون الملكية
الخاصة والديمقراطية.
يقول الكاتب باري كلارك: "بدأ نقد الليبرالية الكلاسيكية مع
الجهود لدحض مفهومي القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية، فقد جادل الفيلسوف والمنظّر
القانوني الإنكليزي جيريمي بنثام في أن المنظرين الليبراليين الكلاسيكيين استعملوا
مصطلح "طبيعي" ببساطة لكي يدافعوا عن رؤيتهم الخاصة للمجتمع الصالح، لقد
سعى بنثام بدلاً من ذلك إلى تطوير أساس علمي لأجل النظرية الاجتماعية، فبنى
نظرياته على منظومة من الأخلاق تعرف باسم المنفعية (Utilitarianism). وفي
كتابه مدخل إلى مبادئ الأخلاق والتشريع (1789) "An Introduction to the Principles
of Morals and Legislation"،
زعم أن الألم واللذة هما المحددان الوحيدان للسلوك البشري والمحكان الوحيدان للحق
والباطل، بالنسبة إلى الفرد أو المجتمع ككل، فإن أفضل سبيل للفعل هو الذي يحقق
الحد الأعظمي من اللذة والحد الأدنى من الألم، برغم أن بنثام أقر باستحالة قياس
لذات أشخاص مختلفين والحساب الدقيق للتبعات الاجتماعية لسياسة بعينها، فقد اقترح
أن على السياسيين أن يتقدموا كما لو الحسابات يمكن إجراؤها، عندئذ فقط ستبنى
القرارات السياسية على تقدير موضوعي لتبعاتها(ص162).
لفهم دافع بنثام إلى استبدال القانون الطبيعي بالمنفعية، يجب أن نركز
على البيئة السياسية المتغيرة لإنكلترا أواخر القرن الثامن عشر، فقد اعتمد
الليبراليون الكلاسيكيون على عقيدتي القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية لدعم حججهم
ضد السلطة التعسفية للكنيسة والدولة، ومع ذلك، عندما كُسبت تلك المعركة، بدأ صراع
جديد بالنشوء بين العمال وأصحاب الملكية، مع تحول أسس النزاع السياسي، أصبحت عقيدة
الحقوق الطبيعية غير مقبولة بالنسبة إلى المدافعين عن الملكية الخاصة .
على النقيض من عقيدة الحقوق الطبيعية، قدمت المنفعية أساساً مرناً
وذرائعياً لأجل التدخل الحكومي، فقد كان أي إصلاح يؤدي إلى تبعات إيجابية لأجل
المجتمع ككل يعتبر مشروعاً، لقد زعم بنثام أن الحقوق تكرسها قوانين المجتمع وليس
قوانين الطبيعة، بالقوانين الجديدة، يمكن للحكومة بشكل شرعي أن تخلق أو تلغي بعض
حقوق الملكية طالما كانت القوانين تخدم المصلحة العامة، إن قطع كل الصلات بالقانون
الطبيعي والحقوق الطبيعية قد مكن الليبرالية الحديثة من أن تضمن حرية عمل واسعة
لأجل الحكومة.
إن الديمقراطية الكاملة، بالسماح لكل المواطنين بالمشاركة في صنع القرار الجماعي للمجتمع، سوف تمنح المواطنين إحساساً بقيمة الذات والكرامة، اللتان ستثيران، بدورهما، رغبتهم في أساليب حياة أكثر إنجازاً
ويتطرق الكاتب باري كلارك إلى المفكر جون ستيوارت ميل أحد الشخصيات
الفكرية الكبرى للقرن التاسع عشر، وكان والده، جيمس ميل، عالم اقتصاد بارزاً
أيضاً، وقرر، إلى جانب جيريمي بنثام، أن يستخدم ابنه كتجربة في تربية الكائن
البشري المثالي، فقد تم تعليم الصبي الصغير اللغة اليونانية وحساب التكامل
والتفاضل قبل أن يبلغ العاشرة من عمره، وألف الكتب المدرسية حين كان لا يزال
مراهقاً، مع ذلك، فإن هذا التدريب الفكري الصارم قد ترك جون ستيوارت غير مكتمل
عاطفياً وبدأ، عندما كان شاباً، بقراءة الكتابات الرومانتيكية لكولردج وكارلايل
ليستكشف الجانب غير الفكري من الحياة، من هذه النقطة فصاعداً، يعكس عمل ميل سعياً
إلى انتهاج طريق وسط بين العقلانية الحسابية لمنفعية بنثام وبين الثيمات الرومانتيكية
للاستبطان الروحي والتعبير العاطفي.
يقول الكاتب باري كلارك: "إن مساعي ميل لتوليف أفضل الأفكار
الليبرالية الكلاسيكية والمحافظة والراديكالية قد حدد الاتجاه العام للنشوء اللاحق
لليبرالية الحديثة، لقد دافع ميل عن قضية الحرية الفردية ومع ذلك فقد ثمَّن دور
"العقول المتفوقة" في تقديم الهداية والقيادة لأجل بقية المجتمع، ولقد
أيد حق الاقتراع الشامل، لكن فقط بشرط أن ينال المواطنون المتعلمون أصواتاً مضاعفة
بحيث يكون تأثيرهم على السيرورة السياسية أكبر، ففي كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي
(1848) أكد ميل أهمية حقوق الملكية الآمنة في تعزيز الازدهار الاقتصادي، مع أنه
أيضاً كان يفضل التجارب بالتعاونيات أملاً في أنها يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف
إلى شكل لا مركزي من الاشتراكية (ص166).
كان ميل يؤمن بأن الرأسمالية والديمقراطية، في حين كانتا تعانيان
العيوب، تخدمان وظائف جوهرية، فقد سهلت الرأسمالية تراكم الثروة الذي سيحرر البشر
من مشقة العمل الحقير ويسمح لهم بالتركيز على اللذات الأسمى للتعبير الفكري
والفني، إن الديمقراطية الكاملة، بالسماح لكل المواطنين بالمشاركة في صنع القرار
الجماعي للمجتمع، سوف تمنح المواطنين إحساساً بقيمة الذات والكرامة، اللتان
ستثيران، بدورهما، رغبتهم في أساليب حياة أكثر إنجازاً، لقد أقر ميل بأن التغيير
الاجتماعي سوف يستغرق وقتاً، لكن الحكومة يمكنها أن تسرع السيرورة بتأمين التعليم
العمومي ورعاية مساواة اجتماعية أكبر.
يتبع..