في الثالث من ربيع الثاني 1431هـ، الموافق 19 آذار/
مارس 2010م،
تولى فضيلة الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب مشيخة
الأزهر الشريف، ويا لها من ذكرى
تستحق الاحتفاء، لشرف المنصب، وشرف متقلده، فهو الشريف نَسَباً إذ ينتسب إلى سيدنا
الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وهو الشريف مقاما بما حازه من محبة عموم
المصريين الذين يحتمون بالأزهر إذا التبست عليهم أقضية دينهم.
كان
مَقدِم الشيخ الطيب إلى المشيخة مقرونا باستقلاله عن الحزب الوطني، فقدّم استقالته
من لجنة السياسات التي كانت تمسك بمقاليد النظام السياسي أواخر عهد مبارك، وأعلن
أنه فعل ذلك لكي لا يرتبط منصب شيخ الأزهر بالسلطة، ومن حينها اجتهد الشيخ في أن
يكون الأزهر مستقلا عن "الصراع السياسي"، صحيح أنه تأثر في أوقات، لكنها
لم تكن السمة الأساسية للمؤسسة في عهده، و"الحسنات يُذهبن السيئات"،
وحسناته عديدة، وأعظمها رفضه الاستجابة للسلطة الحالية الباطشة في أمور دينية عدة
منها مسألة
الطلاق الشفهي.
اجتهد الشيخ في أن يكون الأزهر مستقلا عن "الصراع السياسي"، صحيح أنه تأثر في أوقات، لكنها لم تكن السمة الأساسية للمؤسسة في عهده، و"الحسنات يُذهبن السيئات"، وحسناته عديدة، وأعظمها رفضه الاستجابة للسلطة الحالية الباطشة في أمور دينية عدة منها مسألة الطلاق الشفهي
"عقدت
هيئة كبار العلماء عدَّة اجتماعاتٍ خلالَ الشهور الماضية لبحثِ عدد من القضايا
الاجتماعية المعاصرة؛ ومنها حكم الطلاق الشفويِّ، وأثره الشرعي، (...) وانتهى
الرأي في هذا المجلس بإجماع العلماء على اختلاف مذاهبهم وتخصُّصاتهم إلى القرارات
الشرعية التالية: أولاً: وقوع الطلاق الشفوي المستوفي أركانَه وشروطَه، والصادر من
الزوج عن أهلية وإرادة واعية وبالألفاظ الشرعية الدالة على الطلاق، وهو ما استقرَّ
عليه المسلمون منذ عهد النبيِّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وحتى يوم الناس هذا، دونَ
اشتراط إشهاد أو توثيق".
كانت
هذه الكلمات الصادة في يوم الأحد 8 من جمادى الأولى 1438هـ الموافق 5 من شباط/ فبراير
2017م، بمثابة مفاجأة للجميع؛ فللمرة الأولى ترفض مؤسسة محلية توجيها علنيا من
الدكتاتور، وخرجت عناوين محلية على غير العادة في وسائل الإعلام، ومنها "هيئة
كبار العلماء ترفض طلب
السيسي وتقر بوقوع الطلاق الشفهي"، وهذا تعبير مناسب
عما أحدثه البيان من رفض صريح، ولم يكتفِ أعضاء الهيئة بمجرد الرفض، بل انتقلوا
إلى مناقشة الدعوى وفسادها، فجاء في البيان:
"وترى
هيئة كبار العلماء أنَّ ظاهرةَ شيوع الطلاق لا يقضي عليها اشتراط الإشهاد أو
التوثيق، لأن الزوجَ المستخفَّ بأمر الطلاق لا يُعيِيه أن يذهب للمأذون أو القاضي
لتوثيق طلاقه (...) وأنَّ العلاج الصحيح لهذه الظاهرة يكون في رعاية الشباب
وحمايتهم من المخدرات بكلِّ أنواعها، وتثقيفهم عن طريق أجهزة الإعلام المختلفة،
والفن الهادف (...) كما تُناشِد الهيئةُ جميعَ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها
الحذَر من
الفتاوى الشاذَّة التي يُنادي بها البعض، حتى لو كان بعضُهم من
المنتسِبين للأزهر؛ لأنَّ الأخذَ بهذه الفتاوى الشاذَّة يُوقِع المسلمين في
الحُرمة. وتهيب الهيئة بكلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ التزام الفتاوى الصادرة عن هيئة كبار العلماء،
والاستمساك بما استقرَّت عليه الأمَّةُ؛ صوناً للأسرة من الانزلاق إلى العيش الحرام".
وهذه
الجملة الأخيرة هي الكارثة التي تُرعب المعنيين بالمسألة الدينية، فالأنساب مَصونَة
في الدين بأغلظ المواثيق، وحِلُّها لا يجوز إلا من نفس جهة التغليظ، وهو الشارع
سبحانه وتعالى. لكن المصريين فوجئوا بأن مغتصب حكمهم أعلن بنفسه عن إفتاء ديني،
ولم يُرضِه قول "هيئة كبار العلماء"، أي أكبر وأنبه علماء الديار
المصرية من مختلف المذاهب الفقهية، ثم انبرى في جرأة فاجعة بقوله "إن كان في
المسألة إثم فأنا من يتحمله". وهو يُشبه في حُمقه قول المشركين للنبي
"اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم". والتشبيه هنا في الحماقة فقط لا في الإيمان والكفر؛ فهم إن
كانوا ذوي عقل لقالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك "فاهدنا"،
لكنهم طلبوا العذاب فنالوه، وهذا ذاهب العقل يُعارض قول كبار العلماء ثم يقول
بجرأة أمام صاحب الشريعة "أنا أحمل الإثم"، فلْيَنَلْه بجرأته وذهاب
عقله.
على
مدار تاريخ مصر كان الحاكم يدخل في مساحات الدين بالقهر فيما يرسِّخ سلطانه، ولا
يقرب القضايا التعبديَّة، فهذه المساحة لا تستدعي تدخل الحاكم وزيادة سخط المجتمع
ضده إذا كان مستبدا، لكن ما يقوم به صاحبنا تجاوز قدر المعقول والمنقول، ولا يمكن
حمله على مجرد الحُمْق والاستبداد، بل ما فعله يتعدى إلى منزلة الإفساد، وهو أخطر
ما يقوم به في كل المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية،
والإفساد الديني
يشمل معاش الناس ومعادهم، وتلك كارثة ما بعدها كارثة.
على مدار تاريخ مصر كان الحاكم يدخل في مساحات الدين بالقهر فيما يرسِّخ سلطانه، ولا يقرب القضايا التعبديَّة، فهذه المساحة لا تستدعي تدخل الحاكم وزيادة سخط المجتمع ضده إذا كان مستبدا، لكن ما يقوم به صاحبنا تجاوز قدر المعقول والمنقول، ولا يمكن حمله على مجرد الحُمْق والاستبداد، بل ما فعله يتعدى إلى منزلة الإفساد
في
رحلة الإفساد لدولة يوليو 2013، شاهدنا حرق كل الإعلاميين ولم يبق إعلامي يأخذ
مساحة قريبة من الناس كنوع من المواءمات كما كان يفعل سابقه في إدارته للدولة، وحرق
كل الساسة، وحرق كذلك كل الشيوخ المرتبطين بالسلطة، ولم يُبق أحدا إلا وكشف سريرته
وسَوْأته. فسابقوه كانوا مستبدين لكنهم يفهمون معنى دولة ومجتمع بقدر كبير، أما
الذي يزعم أنه قضى خمسين عاما ليفهم الدولة، فيبدو أن كثافة عقله لم تَكْفِها طول
العقود لفهم مجرد أبجديات الدولة، لا كيف تُدار.
في
الذكرى الثالثة عشرة من تولي الشيخ الطيب منصب مشيخة الأزهر الشريف، نهنئه ونتمنى
له دوام الصحة والعافية، ودوام الثبات على مبدئه، ونذكِّر الجميع بما قاله أعضاء
هيئة كبار العلماء في ختام بيانهم للأمة عن الطلاق الشفهي، فهي كلمات ترسم المسار
للعلماء والحكام على السواء:
"وتتمنَّى
هيئةُ كبار العلماء على مَن "يتساهلون" في فتاوى الطلاق، على خلاف إجماع
الفقهاء وما استقرَّ عليه المسلمون، أن يُؤدُّوا الأمانةَ في تَبلِيغ أحكامِ
الشريعةِ على وَجهِها الصحيح، وأن يَصرِفوا جُهودَهم إلى ما ينفعُ الناس ويُسهم في
حل مشكلاتهم على أرض الواقع؛ فليس الناس الآن في حاجةٍ إلى تغيير أحكام الطلاق، بقدر
ما هم في حاجةٍ إلى البحث عن وسائل تُيسِّرُ سُبُلَ العيش الكريم".