في كانون الثاني (يناير) من العام 1993، زرتُ مخيم المبعدين في مرج
الزهور في البقاع الغربي في لبنان، ونمتُ ليلةً في المخيم، وأجريتُ العديد من
المقابلات.. وبعد صلاة الظهر والعصر (جمعاً وقصراً)، توافق أن أقام المبعدون
احتفالاً مليئاً بالأناشيد والأهازيج والدبكة، تبين لي لاحقاً أنه جاء فرحاً بقرار
مجلس الأمن بوجوب عودتهم إلى ديارهم في 17/1/1993.. تخللها خطبة لخطيب المسجد
الأقصى الشيخ حامد البيتاوي، وقصيدة من شيخ جليل لم أكن أعرفه قبل ذلك الوقت
(جهلاً مني)، حيث طالب المبعدون الشيخ "أبو فؤاد" بقصيدة من قصائده،
فقام خطيب المسجد الأقصى الشيخ محمد فؤاد أبو زيد، وفضّ ورقة فيها قصيدة
"طازجة" عن الإبعاد بعنوان "صرخة مبعد"، وقرأها في تلك الحفلة
الشعبية.
لقد كان من القِلّة الذين أصدروا ديوان شعر في ذلك المخيم، واتفق مع
أحد الناشرين، الذي أصدر مجموعة شعرية تضم قصائده التي كتبها في المخيم بعنوان
(نبضات قلب من مرج الزهور). وقد تتالت زياراتي للمخيم الذي صار رمزاً نضالياً، ثم
تاريخياً، من رموز القضية
الفلسطينية.
الشيخ محمد فؤاد أبو زيد يلقي قصائده المنافحة عن هوية فلسطين
إذ لم يكن هذا الشيخ، رجلاً واحداً في عمل واحد، بل كان خطيب المسجد
الأقصى، وأحد مؤسسي الحركة الإسلامية في فلسطين، ومفتي جنين، وعضو رابطة علماء
فلسطين، وعضو مجلس الفتوى الأعلى، ورمزا من رموز الدعوة والاصلاح، ومؤسس عدد من
صناديق الزكاة في الضفة الغربية..
حياته
ولد الشيخ محمد فؤاد أبو زيد في بلدة قباطية عام 1934، وقد كان والده
مزارعاً، لكنه أحب العلم والعلماء مما أثر في حياة ولده العلمية. فالتحق شاعرنا
بمدرسة قباطية الابتدائية ودرس فيها حتى عام 1948. ثم تابع دراسته وأنهى دراسته
الثانوية المعروفة بالماتريك، matriculation فاستوفى المتطلبات الضرورية للالتحاق بالجامعة.
بعد ذلك انتقل شاعرنا إلى الأزهر الشريف في القاهرة لدراسة العلم
الشرعي عام 1952، وتابع دراسته الشرعية في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، وحصل
فيها على دبلوم في الشريعة عام 1954. لكنه بسبب مشاركته في نشاطات المعارضة
لاتفاقية السلطة المصرية مع البريطانيين، اعتقلته السلطات المصرية، وتعرض للتعذيب
الشديد، حتى فقد السمع في إحدى أذنيه. وعندما أفرج عنه أُخبِر أنه غير مرغوب به في
مصر.
عاد إلى فلسطين، وتوجه للالتحاق بجامعة دمشق وتخصص في العلوم الشرعية
حيث نال منها البكالوريوس في الشريعة عام 1960، ودرس في دمشق على عدد من العلماء
منهم الشيخ مصطفى السباعي، والشيخ مصطفى الزرقا.
عمل الشيخ أبو زيد في مجال الدعوة في مدن وقرى الضفة قبل النكسة، ثم
امتدّ نشاطه فكان من أوائل الذين نشروا الدعوة في الداخل الفلسطيني خصوصاً في
المثلث والجليل، ونشط في مجال الإصلاح وفض النزاعات العشائرية والتنظيمية والتحكيم
في مختلف الأحداث على مستوى محافظة جنين. وشارك في لجنة أموال الزكاة لمحافظة
جنين. واختير عضواً في الهيئة الإسلامية العليا في القدس وفي مجلس الإفتاء
الفلسطيني الأعلى.
عمل مدرساً إثر تخرجه في كلية الشريعة التابعة لوزارة الأوقاف
الأردنية في عمان، ثم في وزارة التربية والتعليم مدة 15 سنة. بدأها في المدرسة
الثانوية الشرعية في مدينة عمان، لمدة ثلاث سنوات، ثم درّس في مدرستي مأدبا
الثانوية وجنين الثانوية حتى عام 1971، ومدرسة قباطية الثانوية حتى عام 1977. وفي
هذا العام تولى إدارة أوقاف نابلس، ثم إدارة أوقاف جنين حتى عام 1996، وتولى
الإفتاء في محافظة حنين.
لكن أبرز ما كان يعتز به هو عمله خلال السنوات الطويلة واعظاً
ومدرساً وموجهاً للأئمة والوعّاظ وخطيباً في المسجد الأقصى المبارك.
كتب الشيخ العديد من المقالات في المجلات الدينية، وألقى المحاضرات،
وشارك في الندوات في المؤسسات التعليمية والاجتماعية والرياضية.
أمضى الشيخ أبو فؤاد أكثر من ستة أعوام في سجون الاحتلال، وقد أُبعد
خلالها إلى لبنان في 17/12/1992 مع 416 آخرين، ومكث في مخيم المبعدين في مرج
الزهور عاماً كاملاً برز خلاله كأحد قادة المخيم، حيث انتخب ضمن اللجنة القيادية،
وأدى دوره وبذل خبرته في توجيه المبعدين في مختلف المسائل.
عندما عاد الشيخ
الشاعر من مرج الزهور لم يتوقف عن العمل في فلسطين،
فتولى عدة مناصب عليا. وتابع الشيخ عمله السابق قبل اعتقاله في إمامة مسجد النمر
في جنين، وكان نجم الاحتفالات والمناسبات الدينية والوطنية، وقد جمعه في هذا
المسجد في الثمانينيات لقاء مع الدكتور محمد صيام، رئيس الجامعة الإسلامية بغزة،
وفي ذلك اللقاء ألقى قصيدة قوية كانت بعنوان "قم يا صلاح الدين إن بني العروبة
نائمون".
توفي الشيخ العالم المجاهد الشاعر محمد فؤاد عبد الرحمن أبو زيد في
يوم الأحد في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2011 ودفن في جنين.
أعماله
لم يجمع شاعرنا قصائده التي سبقت الإبعاد عام 1992، ولكنه جمع قصائده
التي نظمها في أثنائه في ديوان "نبضات قلب في مرج الزهور" الذي نشر فيه
خمس عشرة قصيدة. رتّبه ونشره المرحوم جمال عبيدة مدير دار الرشاد اللبنانية. وفيما
يلي إحدى قصائده في مرج الزهور:
حان الرحيل..
حان الرحيل فإن أهلي ظامئون لعودتي
قلبي هناك..
قلبي هناك..
قلبي هناك معلق ليلاً نهار
وقلوب كل المبعدين من الديار
كل القلوب هناك مع أهلٍ لنا..
ومساجد محزونة حنت لنا..
ومدارس ومؤسسات الخير تشكو بعدنا..
والجامعات تئنُّ من إبعادنا..
زيتوننا وتيننا ونخلنا، أعنابنا ولوزنا..
سهولنا ودْياننا.. جبالنا..
والطفل باب الدار، يرقب عودنا..
والطفل يمسح دمعه عند الغروب.. لِبُعدنا