نشرت مجلة "
ناشيونال إنترست" الأمريكية تقريرا، بيّنت فيه كيف خططت
الصين منذ وقت طويل للتقارب بين المملكة العربية
السعودية وإيران.
وقالت المجلة، في تقريرها الذي ترجمته "
عربي21"، إن الصين لعبت مؤخرًا دور الوسيط في تقارب العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران -اللتين تعدّان خصمين إقليميين رئيسيين منذ سنة 1979. وقد نصّ الاتفاق بين البلدين على استعادة العلاقات الدبلوماسية، وإعادة فتح سفاراتهما في غضون شهرين، ناهيك عن وضع خطط لإحياء اتفاقية أمنية قديمة واتفاقية أخرى للتعاون في مجال التجارة والتكنولوجيا.
وذكرت المجلة أن هذا الاتفاق مثّل مفاجأة، وأثار جدلا كبيرا بين المعلقين، إلا أن وساطة بكين الناجحة بين طهران والرياض تندرج بشكل مناسب ضمن الجهود الدبلوماسية الصينية في الشرق الأوسط على مدى العقود العديدة الماضية. منذ أن نما إنتاجها الصناعي في أواخر التسعينيات، أضحت بكين تعتمد بشكل متنام على مصادر الطاقة في الشرق الأوسط لدعم اقتصادها الآخذ في النمو بسرعة، وعززت بشكل مطرد حضورها في المنطقة.
عززت الصين بنشاط التجارة والاستثمار مع اللاعبين الرئيسيين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، لاسيما بعد إعلان الرئيس الصيني شي جين بينغ عن مبادرة الحزام والطريق في سنة 2013. وتظهر الأحداث الأخيرة أن أهداف الصين في المنطقة بعيدة كل البعد عن كونها تجارية فقط، وذلك حسب مزاعم العديد من المراقبين، إذ إن التحديات الاقتصادية التي تواجهها بكين في الشرق الأوسط دفعتها إلى الاضطلاع بأدوار سياسية ودبلوماسية وعسكرية أوسع لحماية مصالحها.
وفي كتابها "صعود الصين في الجنوب العالمي"، وضّحت الخبيرة الصينية دون مورفي كيف سعت بكين إلى صياغة مجالات نفوذ بديلة بشكل تدريجي وتحدي النظام الذي تقوده الولايات المتحدة في المنطقة. وقد استغلت الصين نفوذها على شركائها في مبادرة الحزام والطريق لتعزيز مطالبها الإقليمية في بحر الصين الجنوبي والشرقي وإسكات الأصوات الناقدة لحملاتها القمعية في شينجيانغ.
وأشارت المجلة إلى أن الركائز الأساسية الأخرى لاستراتيجية الصين الإقليمية الرامية للتوسط في النزاعات زادت من حجم نفوذها على خصوم الولايات المتحدة وحلفائها على حدٍ سواء. وتصوير بكين لنفسها على أنها "فاعل مسؤول"، والتزامها بمبدأ "عدم التدخل" في الشؤون الداخلية للدول الشريكة أكسب رئيسها شي جين بينغ زخما كبيرًا بين القادة الذين ضاقوا ذرعًا بمواعظ الغرب حول حقوق الإنسان.
وأوضحت المجلة أن الكثيرين يدعون أن توازن سياسة بكين في علاقاتها مع الخصوم الإقليميين، مثل المملكة العربية السعودية وإيران، من شأنه أن يحول دون أن تصبح القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، حيث يزعمون أن الولايات المتحدة وحدها القادرة على توفير الحماية الكاملة لإسرائيل ودول الخليج من عدوان طهران.
لكن على عكس التوقعات، مكّنت البراعة الدبلوماسية لشي، والأصوات المنادية بخفض التدخل العسكري الأمريكي، وغزو بكين الناجح لسوق الطائرات المسيرة في الشرق الأوسط، الصين من زيادة نفوذها على كل من الرياض وطهران، مع تراجع نفوذ واشنطن بشكل مطرد. فبدلاً من اللجوء إلى الولايات المتحدة للرد على
إيران، يمكن للاتفاق الأخير أن يشجع الدول العربية على تهدئة التوترات مع الجمهورية الإسلامية بمساعدة بكين، مقابل تعزيز المبادلات التجارية والاستثمارات مع الصين.
ونوهت المجلة بأن الوجود الأمني الأمريكي في الخليج العربي قد يتعرض للخطر في نهاية المطاف، إذ تستغل الصين الفرص الجديدة لتعزيز موطئ قدمها الاقتصادي والسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومن المرجح أن تستخدم بكين استراتيجية نشر البنية التحتية المادية والرقمية الصينية لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة، أي من خلال الموانئ المدنية "ذات الاستخدام المزدوج" والتكنولوجيا التي يمكن أن تخدم قدرات جمع المعلومات الاستخباراتية لجيش التحرير الشعبي، بالإضافة إلى تقديم تدريبات عسكرية وبحرية مشتركة وتعزيز مبيعات الأسلحة.
وأكدت المجلة أن البيت الأبيض حاول تصوير الصفقة التي توسطت فيها الصين على أنها انتصار لمصالح الولايات المتحدة من أجل التقليل من أهميتها. وعلى الرغم من أن بكين تروّج لهذا الاتفاق على أنه إنجاز دبلوماسي كبير، فأنه لا يزال من الصعب قياس آثاره طويلة المدى على المشهد الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
من المحتمل أن السعودية تسعى من خلال التقارب مع طهران إلى حماية نفسها (أو على الأقل ربح بعض الوقت) من التداعيات المحتملة لامتلاك إيران المحتمل لسلاح نووي، وذلك بناء على ما ورد في بعض مطالب الرياض الأخيرة إلى الولايات المتحدة التي تقضي بدعم القدرات النووية السعودية مقابل اعتراف المملكة بإسرائيل. ومن المرجح أيضا أن السعودية تسعى لتحييد سلوكيات إيران العدوانية، لا سيما دعمها للجماعات الإقليمية الوكيلة مثل حزب الله والمتمردين الحوثيين في اليمن.
أما بالنسبة لإيران، فقد سعت على ضوء انتقادات المجتمع الدولي بشأن الحملات القمعية على الاحتجاجات المحلية، ودعم الحرب الروسية ضد أوكرانيا، والمخاوف من تحالف عربي إسرائيلي ضدها، إلى إضفاء طابع شرعي على نظامها ونفوذها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم العربي كله. وقد يكون الاتفاق مع المملكة العربية السعودية شريان حياة اقتصادي ودبلوماسي للنظام الإيراني، وبوابة محتملة لاتفاقيات مع الدول العربية الأخرى، كما يمكن أن يخدم مساعي إيران لإزاحة الولايات المتحدة عن عرشها تدريجيا كقوة خارجية مهيمنة في الخليج العربي.
وأكدت المجلة أنه حتى إذا ثبت أن هذا الاتفاق مجرد تحالف مؤقت بين الرياض وطهران، فإنه يشكل تحديا لسياسة واشنطن في الشرق الأوسط. أولاً، يمثل غياب أمريكا عن مثل هذا الاتفاق المهم انتكاسة لمكانتها في المنطقة وعلى الساحة الدولية. فعلى عكس ما حدث قبل بضع سنوات فقط، عندما توسطت في اتفاقات أبراهام، تُركت الولايات المتحدة تمامًا على الهامش من المفاوضات الأخيرة، وهي إشارة إلى الحلفاء والخصوم على حد سواء بأن هيمنة الولايات المتحدة ومصداقيتها في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد تراجعا بشكل ملحوظ منذ نهاية الحرب الباردة.
وأوضحت المجلة أن التقارب السعودي الإيراني قد يحث دولا أخرى على تخفيف الضغط الدبلوماسي والاقتصادي على الجمهورية الإسلامية بتحفظ. وتجدر الإشارة إلى أن السعودية تمتلك نفوذا كبيرا في العالم الإسلامي السني والعالم العربي، لا سيما بين دول الخليج، ويمكن لجيرانها وحلفائها تفسير تحركاتها على أنها ضوء أخضر لتحسين العلاقات مع إيران. فعلى سبيل المثال، ورد في الكثير من التقارير أن البحرين تتطلع إلى تطبيع العلاقات مع إيران، بينما أعربت طهران عن رغبتها في إصلاح العلاقات مع حلفاء المملكة الآخرين مثل مصر.
وبينما ادعى البعض أن توطيد الدول العربية علاقاتها مع إيران يمكن أن يخفض من حدة النزاعات الإقليمية الأخرى، مثل تلك التي تدور رحاها في اليمن وسوريا ولبنان، فإن هناك سببا وجيها للتشكيك في مصداقية هذه الحجة. فالنَزعات المعادية للولايات المتحدة والمطامع في قلب الوضع الراهن في الشرق الأوسط متجذرة بعمق في جوهر الجماعات الموالية لإيران مثل المتمردين الحوثيين وحزب الله. وحتى لو خففت إيران تدريجيًا من دعمها (علنيًا على الأقل) لوكلائها الإقليميين، فمن غير المرجح أن تُغير طبيعتها العدوانية.
وأضافت المجلة أنه في الوقت الذي يجب أن تحاول فيه واشنطن عزل إيران على المسرح العالمي لمحاولتها اغتيال المسؤولين الأمريكيين، وتوفير الأسلحة لروسيا، وقمع المتظاهرين، والتباطؤ في المفاوضات النووية، ربما تكون الجمهورية الإسلامية قد حصلت بدلاً من ذلك على شريان الحياة الرئيسي والشرعية الإقليمية المنشودة.
وفي الختام، أشارت المجلة إلى أن قدرة الصين على إبرام هذا الاتفاق بين اثنين من أهم اللاعبين في المنطقة شهادة على نفوذها المتنامي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ودلالة على طموحاتها المستقبلية في المنطقة وخارجها.