جيل الشباب الحالي مزهو بثقافته الإلكترونية، وقد يكون الواحد منهم
عاجزا عن الحصول على أكثر من خمسة على عشرين في اختبار التعبير/ الإنشاء، ولكن
وعندما يتعلق الأمر بشيء يخص الهاتف الذكي أو الكمبيوتر ينفتح صنبور حلقومه وتتدفق
منه مفردات من شاكلة: تحميل / تنزيل / أبليكيشن / لوكيشن / أبغريد / غيغابايت / تك
توك / انستغرام، فتهتف إن كنت من الجيل الديناصوري في سرك: اللهم إن كان سحرا فأبطله.
ولو سألت من يتباهون من شبابنا بمعرفتهم بدهاليز هواتف آيفون
وغالاكسي وهواوي وغيرها عن الشيخ محمد عبده، لهتفوا في ما يشبه الإجماع: ومتى اعتزل
الغناء حتى صيرتموه شيخا؟ وبين كل مائة منهم يعرفون عدد الشعيرات في حاجبي المطرب
عمرو دياب، قد تجد خمسة يعرفون عمرو بن العاص. فما يحدث هو أن التطبيقات العجيبة
التي صارت أجهزة الاتصال توفرها، لهت جيلا كاملا عن اكتساب المعرفة من مظانها،
وحسبان أن تناتيف المعلومات التي يتلقونها على مدار الساعة عبر منصات واتساب
وتويتر وأنستغرام درر نفيسة، بينما التجارب تعلم العاقل التعامل مع الكثير مما
يتواتر عبر منصات التواصل الاجتماعي بمقتضى "إذا جاءكم فاسق بنبأ...."
أما التأثير السلبي الكارثي لتلك التطبيقات فهو أنه لم يؤد فقط إلى
العزوف عن القراءة الجادة، بل عطل قدرات الملايين على الكتابة، وبالأحرى على تهجئة
الكلمات، فما إن تبدأ في كتابة كلمة على شاشة أحد تلك الأجهزة الموصومة بالذكاء
حتى يتولى الجهاز الإتيان ببقية حروفها، وقد يكون الناتج غير الكلمة المنشودة،
ولكن إذا كان عودك اللغوي ضعيفا فقد تكون ممن يحسبون أن الكمبيوتر لا يأتيه الباطل
من جوفه، ويعتبرون الكلمات التي يقترحها غوغل مثالا للكمال اللغوي.
وإدمان التعامل مع منصات التواصل لم يعد وقفا على جيل الشباب، بل إن
كبار السن أيضا صاروا يمارسون عبرها الأنس وتقصي الأحوال ومطالعة طريف الأحداث،
فانصرفوا بدورهم أيضا عن القراءة والكتابة، وعندما يحدث ذلك في العالم العربي، حيث
نحو 96 مليون من سكانه يعانون من الأمية (بينما المتوسط العالمي للأمية 13%)، تتضح
جسامة المَصاب.
جاء في نتائج استطلاع للرأي أجرته "ياهو" قبل نحو سبع
سنوات أن ربع سكان العالم العربي لا يقرؤون كتباً بهدف المتعة الشخصية، أو لا
يقرؤون أبداً. أما من يمارسون القراءة فمن بينهم عدد كبير يفضل الروايات
الرومانسية أو البوليسية، وهي ضرب من الأدب لا يتطلب الكثير من الحذق وإعمال الفكر
في نظر كثير من النقاد، وهذا ما جنته القنوات التلفزيونية على شرائح واسعة من
المشاهدين العرب.
بظهور القنوات الفضائية، انصرف كثيرون عن وسائل التسلية الأخرى، ومن
بينها القراءة. وهل القراءة تسلية؟ نعم فإذا لم تجدها مسلية فستنصرف عنها، المناهج
المدرسية المطلوب استذكارها للنجاح في الامتحان تفتقر إلى عنصر التسلية، ولهذا
يتبخر معظم ما درسناه كطلاب بعد جرس نهاية الامتحانات بأسبوعين أو ثلاثة. فما لم
تجد فيما تقرأه عنصر الإمتاع، فإنك لن تهضمه أو تواصل قراءته، وهناك من يجد متعة
في قراءة نظرية آينشتاين، وهناك من قرأ كتب الشيخ ابن تيمية كلها سبع مرات ويجد في
كل مرة متعة جديدة، وهناك من يستمتع بقراءة كتب الرياضيات.
حب القراءة شديد "العدوى"، فكلما رأى الصغار كبار أفراد العائلة يمضون الوقت في القراءة، انتقل إليهم ذلك "الحب"، كما يشير تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أهمية استماع الصغار إلى حوارات حول مواضيع جادة، لأن ذلك يسهم في تشكيل عقولهم وميولهم.
لهت التلفزة الفضائية جيلا كاملا عن القراءة، ثم جاء الإنترنت فتدنت
شعبية الكتاب الورقي، واللهو ليس كله سيئا، فالنفس بحاجة إلى بعض اللهو والترويح،
ولا شك في أن التلفزيون هو أهم أداة تنوير منذ اختراع الطباعة. وله القدرة على
توصيل المعلومة التي قد تكسبها من كتاب في ساعتين في خمس دقائق. ولكن العبرة هي
"ماذا تشاهد؟" على الشاشة: همك الأساسي والوحيد هو المسلسلات الدرامية؟
مرحبا بك في "محو الأمية"! كل علاقتك بالتلفزيون هي الأغاني؟ ليس هذا
دليلا على حبك للموسيقى فعاشق الموسيقى الحقيقي يفضل سماعها على شريط أو قرص صوتي،
بينما أنت تريد رؤية من يؤدي الأغنية ربما أكثر من رغبتك في الاستماع إليها.
أجرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، دراسة شملت 31 دولة صناعية،
لتقصي مستويات تلاميذ المدارس وميلهم وحبهم للقراءة، وأكدت نتيجة الدراسة أن
المتفوقين في القراءة والكتابة، هم الذين نشأوا في بيوت بها كتب أو مكتبات منزلية،
ومن ثم قالت الدراسة إن أبناء الأسر الفقيرة الذين لا سبيل أمامهم لتزجية الوقت
سوى بالقراءة، أقل أمية هجائية من أبناء الأغنياء الذين تتوفر لهم أدوات ترفيه
تجعلهم ينصرفون عن القراءة، (الأمية الهجائية أو الألف ـ بائية، مصطلح سكّه
التربويون alphabetical literacy وله معان واسعة، يهمني منها هنا
"عدم القدرة على القراءة والكتابة بكفاءة")؛ ولا يعني ذلك بأي حال
أن أبناء الفقراء أكثر تفوقاً من أبناء الأغنياء في الأكاديميات عموماً، فتوفّر
وسائل الراحة يجعل الغني متفرغاً لدراسته بينما يجاهد الطالب الفقير لترقيع
أوضاعه، وقد لا تتوفر له القهوة والعصير ـ دعك من كابوتشينو وموكاتشينو والباتشينو
التي يقال إنها تعطي الجسم طاقة وحيوية، (علما يا مثقفين يا بتوع ستار باكس أن
الباتشينو ليس مشروبا بل ممثل هوليوودي).
حب القراءة شديد "العدوى"، فكلما رأى الصغار كبار أفراد
العائلة يمضون الوقت في القراءة، انتقل إليهم ذلك "الحب"، كما يشير
تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أهمية استماع الصغار إلى حوارات حول
مواضيع جادة، لأن ذلك يسهم في تشكيل عقولهم وميولهم. وبالمقابل فإن التحدث أمام العيال عن كيف أضاع
كدرمة ضربة جزاء، وعدم قدرة خالتو كراوية على الطبخ، واتساخ منزل زرزوريا، وهيافة
عمو جرير، وإفلاس تجارة عمو الفرزدق، يجعل الأطفال مفلسين فكرياً وميالين إلى
النميمة وتوافه الأمور.
ولا معنى للشكوى من عزوف جيل الشباب عن القراءة طالما جيل الآباء لا
يقرأ، أو يعتقد أن قيام البنت أو الولد بأداء الواجبات المدرسية بانتظام يكفي،
ويقوم مقام "القراءة" والتثقف، ولا يكفي أيضاً أن يصيح الأب: إيش أسوي فيكم؟ وفرت لكم كل شيء، وما في شيء ناقص عندكم. عندكم
البلاي ستيشن والجيم بوي والكتب والكمبيوتر وهذا وش تسمونه؟ ليش تشترون شيء
"باد"؟
لا يا سيدي، ما ينقصهم هو القدوة، فاجلس بينهم ممسكاً بكتاب وناقشهم
في محتوياته أو اقترح عليهم كتباً معينة تكون أنت قد قرأتها، ولتكن البداية
بتشجيعهم على قراءة المجلات والصحف اليومية لتكون منصات انطلاق إلى عالم الكتب
الحقيقي.