نشرت منصة "
نتفليكس" (
Netflix) العالمية إعلانها
الترويجي لفيلمها الوثائقي المقرر عرضه الشهر المقبل عن إحدى أشهر النساء اللاتي
حكمن
مصر، لكنها كالعادة صنعت جدلا من نوع خاص أثار غضب المصريين ومخاوفهم بشأن
حضارة أجدادهم القدماء.
شركة الترفيه الأمريكية التي أسسها
"ريد هاستنغز"، و"مارك راندولف" عام 1997 في كاليفورنيا،
بالولايات المتحدة الأمريكية، لا تخلو أعمالها من إثارة الجدل والجنس.
"غزو أفريقيا"
الشبكة العالمية، التي تضم وفق إعلانها
في 21 كانون الثاني/ يناير الماضي، نحو 230 مليون مشترك في العالم، تنوي تقديم
سلسلة تتناول فيها القارة الأفريقية السوق الواعدة بالنسبة لها تحت عنوان
"نساء قويات في أفريقيا".
نتفليكس، تستهل تلك السلسلة بفيلمها
الوثائقي عن الملكة
كليوباترا السابعة آخر ملوك الأسرة المقدونية التي حكمت مصر
منذ وفاة الإسكندر الأكبر عام 323 قبل الميلاد، وحتى احتلال الرومان لمصر.
لكن
الشبكة وفي تحدث مثير لمشاعر
المصريين واليونانيين على حد سواء تقوم بتقديم تلك السيدة اليونانية الأصل والتي
حكمت مصر نحو 21 عاما، ببشرة سوداء وشعر أجعد كالأفارقة، ما اعتبره خبراء في
الآثار ومؤرخون تحدثوا لـ"عربي21"، تزييفا للتاريخ.
المثير، أن تقديم نتفليكس كليوباترا
بهذه الصورة المخالفة حتى لما تبقى من آثارها، يأتي في الوقت الذي تتابع فيه بعض
الدعاوى التي تزعم أن تاريخ مصر القديم يعود إلى أصول أفريقية خاصة من حركة
"الأفروسنتريك" (Afrocentrism).
ويزعم أنصار نظرية
الـ"أفروسنتريك" أو المركزية الأفريقية أن ملوك مصر القديمة هم الأفارقة
السود وأن سكان مصر المعاصرين أحفاد مستعمرين أتو لاحقا، وهو ما يرد عليه الأثريون
المصريون بالنفي، ويثبتون كذبه بنشر صور لبشرة ملوك مصر ونسائهم البيضاء.
ويأتي تقديم المنصة العالمية
لوثائقي الملكة كليوباترا، بالتزامن مع إعلانها الأربعاء الماضي، عزمها توسيع
أنشطتها بقارة أفريقيا، بعد نجاحها الكبير، خاصة في مسلسل "الدم والماء"،
في جنوب أفريقيا عام 2020، واستثمارها نحو 180 مليون دولار لإنتاج أعمال سينمائية
للقارة وبينها في مصر منذ 2016.
وأثار الإعلان التشويقي غضب الكثيرين
في مصر، وحتى في اليونان، مطالبين بوقف عرض العمل، وبينهم الباحث المصري في الآثار
اليونانية والرومانية حسين دقيل، والباحث اليوناني في التاريخ بول أنتونوبولوس.
"محاولات يائسة"
وفي حديثه لـ"عربي21"، اعتبر
المؤرخ والأكاديمي المصري وأستاذ التاريخ الدكتور عاصم الدسوقي، أن تقديم نتفليكس
إحدى أشهر ملكات مصر بصورة مغايرة للتاريخ المعروف هو تزييف مقصود، وله
أهداف خطيرة.
الدسوقي، ذهب للقول إن "هذه
محاولات يائسة تقوم على الخطأ والتحريف في التاريخ بهدف إبعاد مصر عن العروبة
وإسقاط مقولة الأمة العربية والوحدة العربية، التي كانت ضمن أهداف الرئيس جمال
عبدالناصر".
"تشويه متعمد"
وفي رؤيته، قال الباحث والأكاديمي
المصري المتخصص في الآثار اليونانية والرومانية الدكتور حسين دقيل، إن "تقديم
الملكة كليوباترا بلون أسمر وشعر أجعد، ليس كذبا على التاريخ أو تدليسا للحقائق
فحسب، بل إنه تشويه متعمد للتاريخ".
دقيل، في حديثه لـ"عربي21"،
أضاف: "حتى لو أرادت نتفليكس تقديم كليوباترا كشخصية تاريخية مصرية؛ فإنها لم
تكن بهذا الشكل أصلا، والمصريون القدماء لم يكونوا بهذا الشكل الكامل من اللون
الأسمر مع احترامنا لكل صاحب بشرة سمراء".
ولفت إلى أن "كليوباترا لها
تماثيل باقية حتى اليوم تُظهرها بالبشرة البيضاء، حتى إنه يوجد رأس لها أو تمثال
نصفي في متحف ألتيس في برلين بألمانيا، مصنوع من الرخام أو الجرانيت الأبيض،
يظهرها بشعرها المعروف بنعومته وبشرتها البيضاء".
وأشار إلى "خطأ آخر يجرى ارتكابه
في حق كليوباترا ووقعت فيه أفلام سابقة، حيث إنهم يصورونها كامرأة غانية، في حين أنها
لم تكن بهذا الشكل المقزز الذي اشتهر عنها ولكنها كانت ملكة قوية".
وأوضح أن "كليوباترا جاءت بعد
أسرة بطلمية متدهورة في فترتها الأخيرة، وحاولت هي إعادة الأسرة إلى مكانتها،
ولكنها لم تتمكن بالطبع، وماتت ميتة لم تُعرف حقيقتها حتى الآن، هل هي منتحرة أم
مسمومة، أم ملدوغة؟".
وراح دقيل، في الدفاع عن كليوباترا
واصفا إياها بأنها "امرأة فطنة ذكية استخدمت سحرها وجاذبيتها في الوصول
للقادة الرومان، حتى إن أحد المؤرخين قال إنه كان لسحرها دور كبير في الوصول إلى الرجال".
وأضاف: "حتى المؤرخ الروماني في
القرن الأول الميلادي لوسيوس كاسيوس ديو، قال إنها من أجمل نساء العالم، لكن مؤرخا آخر قال إنها أجمل نساء العالم، وقال مؤرخ يوناني ثالث: تمنيت أن أستمع لصوتها
الجذاب ذي التأثير في مستمعيها".
"قوية.. لا خائنة"
وأكد البحث والأكاديمي المصري، أنها
"كانت تمتلك 14 لغة، وكانت قريبة جدا من المصريين، وأرادت إعادة قوة الحضارة
البطلمية التي تنتمي إليها وحكمت مصر نحو 3 قرون –من عام 305 قبل الميلاد حتى عام
30 قبل الميلاد- ولكنها لم تتمكن من ذلك بسبب خلافات داخل الأسرة، وبين القادة
الرومان الذين وصلت إليهم".
وأوضح أن "رغبتها كانت كبيرة في أن
تكون مصر القوة المالكة للدولة الرومانية"، نافيا ما طالها من اتهامات بأنها
"خائنة سمحت للرومان باحتلال مصر"، ورجح أنها "أرادت الوصول إلى القوة التي تجعل مصر تحكم الدولة الرومانية".
وذكر أن "من أجمل المشاهد
التاريخية مشهد موكبها عند ذهابها إلى روما في عصر يوليوس قيصر، حيث انبهر الرومان
بها وخرجوا لرؤية موكبها وشكلها وجمالها وسيطرتها على قلوب رجال الحكم في روما
حينها".
وبين أن "الشبكة لها وجود كبير في
أفريقيا حتى إنها صنعت لجنوب أفريقيا وحدها نحو 170 فيلما، وتقول إن لها وجودا كبيرا في غينيا وكينيا وجنوب أفريقيا ووظفت 12 ألف أفريقي عبر منصتها بالقارة".
وتساءل دقيل: "هل أرادت الوصول
أكثر للعمق الأفريقي، وأرادت أن تستخدم كليوباترا ضمن السلسلة التي تحمل عنوان
نساء قويات في أفريقيا؟"، مجيبا بقوله: "ربما وضعت هذه السلسلة لتتزلف
بها إلى القارة السمراء".
وفي نهاية حديثه انتقد "إرادة
البعض سلب حضارة معينة من أهلها أو محاولة سلب هوية أمة أو قوم من أصولهم أو
هويتهم"، معتبرا أن "هذه مشكلة قائمة ومن يفعل ذلك فهو يرتكب أخطاء بحق
تلك الشعوب والتاريخ والحضارة".
"رد فعل باهت"
والمثير أن رد الفعل المصري على عرض نتفليكس
للملكة كليوباترا بهذا الشكل لم يرق إلى أن يكون مصريا رسميا.
في وقت سابق، نتج عن الغضب الشعبي
المصري وقف عرض "ستاند أب" للكوميدي الأمريكي كيفين هارت، في القاهرة،
خاصة أنه أحد الذين يتبنون نظرية المركزية السوداء "الأفروسنتريك".
وحينها انتشر هاشتاغ بعنوان
"#الغاء_حفل_كيفن_هارت"، وتداول فيه نشطاء ما اعتبروه تصريحات عنصرية له
عن ملوك مصر القديمة، متهمينه بتزوير التاريخ المصري واعتناقه نظرية "الأفروسنتريك"،
مطالبينه بالاعتذار للمصريين.
وبعد قيام هارت بإنتاج وتقديم مسلسل
عبر "نتفليكس" بعنوان "دليل كيفين هارت إلى التاريخ الأسود"،
قال: "يجب أن نعلم أولادنا تاريخ الأفارقة السود الحقيقي عندما كانوا ملوكا
في مصر".
"نتفليكس دائما"
ومنذ ظهور نتفليكس في العالم العربي
عام 2016، وحالة الغضب العربي تتزايد مما تعرضه الشبكة العالمية التي تروج في
أغلب أعمالها للمثلية وللمشاهد الإباحية دون مراعاة لطبيعة المنطقة العربية
وتوجهاتها الدينية.
وأثار فيلم "أصحاب ولا أعز"
الذي عرضته شبكة نتفليكس في 20 كانون الثاني/ يناير 2022، للممثلة منى زكي، الكثير من
الجدل لما طرحه من حديث عن المثلية الجنسية وما عرضه من ألفاظ ومشاهد أثارت غضب
الكثيرين وانتقاداتهم للشبكة وأهدافها.
وفي أيلول/ سبتمبر 2020، أثار
فيلم بعنوان "طلب كود التفعيل" قدمته نتفليكس غضب المسلمين في
العالم، لعرضه قصة فتاة فرنسية مسلمة من أصول أفريقية في سن الـ11 عاما أجبرتها
عائلتها على ارتداء الحجاب ما دفعها للتمرد وتعلم الرقص.
"ليست الأولى"
لكن، واقعة نتفليكس ليست الأولى التي
يتعمد فيها الفن الغربي إظهار ملكات مصريات بلون أسمر، حيث إنه عام 1991، أظهر
فيديو كليب حمل اسم "Remember the Time"
للمغني الأمريكي الشهير مايكل جاكسون، الملكة المصرية نفرتيتي، والمحيطين بها من
المصريين القدماء بوجوه سمراء.
وهو ما لفتت إليه الصحفية إنجي مجدي، في
كانون الأول/ ديسمبر الماضي، وأشارت لخطورة دعوات "الأفروسنتريك"، التي
تزعم أن ملوك مصر القديمة هم من الأفارقة السود، وأن سكان مصر المعاصرين ليسوا من
أحفاد المصريين القدماء وأنهم جماعات غزاة أتوا إلى مصر من أوروبا وتركيا والجزيرة
العربية.
الكاتبة تحدثت عن مزاعم
"الأفروسنتريك"، وأكدت أنها ليست الوحيدة في هذا الإطار، مشيرة إلى
مزاعم بعض اليهود بأنهم من بنوا الأهرامات، ملمحة إلى زعم بعض المؤرخين من الأرمن
بأن الملكة نفرتيتي هي بالأصل أميرة أرمينية تزوجت حاكما مصريا قديما.
وقالت مجدي، إن الدراسات تشير إلى أن
أصل تلك الحركة يعود إلى نهاية القرن الـ19، وأسسها مثقفون أمريكيون من أصول
أفريقية (أفرو أميركان)، لتسليط الضوء على مساهمات الثقافات الأفريقية في تاريخ
العالم، معتبرة أنها قضية عادلة لكن في العقود اللاحقة انحرفت لتتخذ مسارا يعتدي
على حضارات الآخرين.
ورد عالم الآثار المصري الشهير زاهي
حواس على تلك المزاعم مرارا، قائلا خلال برنامج تلفزيوني محلي، أذيع في 2022، إن
"الأفارقة السود يستغلون جزءا من التاريخ لا علاقة له ببناء الحضارة المصرية
عندما حكم الكوش مصر في العصر المتأخر ولفترة وجيزة خلال مرحلة الأسرة الخامسة
والعشرين (746 قبل الميلاد إلى 653 قبل الميلاد)".