مقدمة بقلم يسرى
الغنوشي:
هذا المقال كتبه والدي قبل أسبوعين اثنين تبياناً للوضع الراهن في
تونس. كما أراد والدي شرح الجهود التي تبذلها المعارضة لاستعادة
الديمقراطية وتقديم ما لديها من اقتراحات لحل الأزمة الاقتصادية والسياسية التي تعصف بتونس. ولكنه الآن، وتارة أخرى، وقد بلغ من العمر واحداً وثمانين عاماً، يقبع وراء القضبان داخل السجن، بعد أن تعرض للاعتقال قبل أكثر من أسبوع بتهم ملفقة تدعي أنه متآمر على الدولة. حصل ذلك قبل عيد الفطر بثلاثة أيام فقط. لا تزال كلماته في محلها ولم تزل مناشداته تكتسب أهمية متزايدة.
مقال راشد الغنوشي زعيم حزب النهضة ورئيس البرلمان التونسي المنتخب منذ 2019:
لم آلُ جهداً خلال العقود الستة الماضية في الالتزام بمبدأ بريكليس الذي يقول إن الحرية يحصل عليها أولئك الذين لديهم الشجاعة للدفاع عنها. ونظراً لأنني قضيت وقتاً طويلاً مغيباً في زنازين الطغاة فإنني أعلم يقيناً كم هي الديمقراطية مهمة، ولماذا ينبغي أن يُدافع عنها بكل شيء ثمين. بعد أن ناضلت في سبيل الحرية والتعددية السياسية في بلدي على مدي أربعين عاماً، لست على استعداد للتوقف عن ذلك الآن.
بعد ثورة 2011 غدت تونس رمزاً للأمل في المنطقة العربية، بل وفي العالم. إلا أن الجهد المضني الذي بذل في بناء الديمقراطية منذ ذلك الحين تعرض للهدم خلال الواحد والعشرين شهراً الماضية على أيدي الرئيس
قيس سعيد، الذي استولى على كل السلطات في الخامس والعشرين من يوليو / تموز 2021. والتزاماً بمبادئي كان لابد أن أصدع بالحق في وجه هذا الانقلاب منذ وقوعه وحتى الآن.
على الرغم من محاولات التواصل مع قيس سعيد مرات عديدة من أجل إنقاذ بلدنا من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي زج البلاد فيها، إلا أن رده باستمرار تمثل في اعتقال وسجن وشيطنة المعارضة، بما في ذلك أعضاء حزبي الديمقراطي المسلم، النهضة. كما نال العديد من شخصيات المعارضة السياسية ومن الصحفيين والقضاة وقادة المجتمع المدني ورجال الأعمال الكثير من التضييق، بما في ذلك الفصل التعسفي والتقديم للمحاكمة بتهم ملفقة.
رفعت ضدي وضد أفراد من أسرتي أمام القضاء عشر قضايا ملفقة، وتعرضت لعدد كبير من ساعات التحقيق، وأمضيت الكثير من أيامي داخل المحاكم، والتي بعد أن تم ضرب استقلالية القضاء، لم يعد يأمن أحد على نفسه من التعرض للإيقاف والاعتقال.
خلال الشهور القليلة الماضية، بُذلت جهود مضنية من قبل شخصيات وأحزاب المعارضة ومن قبل قيادات المجتمع المدني لوضع حلول ناجعة للأزمة الحالية.
سياسياً، تضمنت تلك الحلول مقترحات لاستعادة المؤسسات الديمقراطية الشرعية التي تم حلها أو تقويضها، ومقترحات لتعديل دستور 2014 من أجل معالجة بعض ما اعتراه من علل، وتمكين المحكمة الدستورية من أجل قطع الطريق على أي شخص لديه نزعات استبدادية والحيلولة دون تمكنه من العبث بدستورنا مرة أخرى.
وفيما يتعلق بالاقتصاد، طور الخبراء داخل المعارضة برنامجاً إصلاحياً والذي يمكن تكليف حكومة جديدة بتنفيذه تكون أولويتها الأولى إنقاذ البلاد من الانهيار.
وبينما كانت خارطة طريقٍ يتم اعدادها، تشتمل على إجراءات عملية، على وشك أن تعرض على الشعب، تم استهداف الزعماء السياسيين المشاركين في وضعها بحملة جديدة من الاعتقالات. ما من شك في أن قيس سعيد عازم على تعطيل أي مسار نحو الأمام وتدمير أي بدائل ممكنة للنظام السلطوي الذي أقامه.
ها نحن نرى تداعيات الأزمة تتجلى يوماً بعد يوم في تونس، ومن ذلك الدفع بالآلاف من التونسيين كل شهر نحو محاولة خوض عباب البحر المتوسط للوصول بشكل غير شرعي إلى أوروبا، وما ينجم عن ذلك من فقد الكثيرين منهم لحياتهم بشكل مأساوي. وزاد من المأساة وفاقم من الشعور باليأس والإحباط ما نقل عن قيس سعيد من حديث نال فيه من المهاجرين الأفارقة السود ومن ترويج لنظرية "الإحلال العظيم".
والمأساة هي أن رئيساً وصل إلى السلطة عبر عملية ديمقراطية حرة يعمل حالياً على تدميرها. ولقد بات الشعب التونسي يدرك الآن أن خطاب سعيد الشعبوي والتحريضي لا يقدم حلولاً. ففي الانتخابات التي نظمها لإنتاج برلمان صوري أراده واجهة له لم يشارك في الاقتراع سوى ما نسبته 8.8 بالمائة ممن يحق لهم التصويت. وبات جلياً منذ الانقلاب ليس فقط أن قيس سعيد عاجز عن توفير الاستقرار في البلاد، ولكن أيضاً أنه غدى احد اهم المصادر الرئيسية للمشاكل التي تعاني منها البلاد. أمّا تصوير الأزمة في تونس كما لو كانت اقتصادية بحتة يمكن حلها عبر الاقتراض من الخارج فلن يؤدي الى الاستقرار.
إن السبيل الوحيد لإنقاذ تونس هو الدخول في حوار وطني يشارك فيه جميع الأطراف الاجتماعية والسياسية.
وذلك ما فعلناه من قبل في عام 2013، ولا أدل على ذلك من أن منظمات المجتمع المدني التونسية التي قادت الحوار حينذاك، وأعادت البلاد إلى الانتخابات الحرة والنزيهة، مُنحت جائزة نوبل للسلام في عام 2015.
إن إعادة بناء الإجماع والتوافق الوطني من خلال الحوار هو السبيل الوحيد لإنهاء الأزمة الحالية، ونجاح تونس لا تقتصر أهميته على التونسيين، بل إن وجود نموذج ناجح يقوم على الحكم الرشيد والرخاء الاقتصادي من شأنه أن يهزم الخطاب المتطرف الذي يروج لصدام الحضارات بين الإسلام والديمقراطية الغربية، وما بين الإسلام وحقوق الإنسان.
إنني على ثقة تامة بأن التونسيين سوف ينهضون ثانية لمعارضة الدكتاتورية سلمياً ومن ثم لإعادة بناء نظامهم الديمقراطي. ولكن عليهم هذه المرة أيضاً أن يضعوا صمامات أمان تحول دون الانتكاس مجدداً. وعندما ننجح في ذلك، سوف يتردد اسم تونس في الأخبار حول العالم تارة أخرى كنموذج وقدوة تحتذى لبلد ديمقراطي مسلم، لا كبلد يتجه نحو حافة الانهيار والفشل الاقتصادي.
في الوقت الذي تعود فيه الأنظمة الاستبدادية إلى السلطة في كثير من أرجاء العالم، يحدوني الأمل في مستقبل لشعبنا يخلو من الاستبداد.
(واشنطن بوست)