أخذ مصطلح
الوحدة منحى عقائديا ووجوديا في الذهنية الشعبية العربية،
لأسباب متعلقة بالفهم الديني لمفردات مثل "اعتصموا"، أو غياب نظرية
سياسية عربية متماسكة، حيث جير مصطلح الوحدة في ذهن الحاكم المستبد إلى النموذج
المركزي رغم تعارضه مع منطق التاريخ، ومنطق المصلحة والواقع.
حاول النظام السياسي العربي إنتاج نموذج مركزي للوحدة في مصر وسوريا،
واليمن، أو تكتلات كان يتمنى أن يذهب إلى وحدة سياسية مصلحية كما في مجلس
التعاون الخليجي، أو مجلس التعاون العربي،
أو التكتل المغربي، وجميعها للأسف فشلت أو في طريقها للفشل، حيث أن مشكلة التمركز
حول السلطة والمال، والعجز عن إنتاج معادلة سياسية إبداعية، تخلق التوازن في
التمثيل التشاركي في الحكم، إضافة إلى أنها جميعها تأسست في نظام سياسي متخلف
سياسيا على مستوى الفكر والمؤسسات، ما زالت تحمد وتقدس بحمد الحاكم الذي يرى الوحدة إلحاقا
إضافيا لنفوذه السياسي والمالي، وبالتالي كان طبيعيا أن تذهب كل هذه المحاولات إلى
خانة الفشل، فالفشل في بناء دولة على أسس قانونية ودستورية وحقوقية ينزع في
النهاية إلى الاستبداد، وبروز شركاء مشاكسين كل يرى في ذاته المخول الإلهي في
الحكم والوحدة.
في ٢٢ من أيار (مايو) قاد
الرئيس المخلوع علي صالح سيارته نحو عدن عاصمة الجنوب الديمقراطية الشعبية آنذاك،
رفقة العديد من الوزراء والنواب، متجاوزا براميل التشطير السياسي معلنا مع رفيقه
في إعلان الوحدة وصانعها علي سالم البيض، إعلان الوحدة
اليمنية، وولادة يمن جديد،
وكيان جديد إسمه "الجمهورية اليمنية"، حشد لها كل المعززات التاريخية
والاجتماعية والدينية والسياسية وحولت إلى مقدس وثابت بصيغتها المركزية المرسومة
في ذهن الحاكم.
دخلت الوحدة اليمنية في منعطفات تاريخية متعددة، بداية من عام ١٩٩٠،
ما سمي بمعركة الدستور، وهي معركة حشد لها كل أدوات النصر والنجاح، كان الإسلام
وهوية التشريع جوهر المعركة، على حساب القواعد الدستورية التي تنظم الدولة
واستقلالية السلطات وتحد من نفوذ السلطة التنفيذية وعلى رأسها علي صالح، وتؤسس
لنظام يمنح استبداد الحاكم، فشل اليمنيون في الاتفاق على الخطوط العامة للدولة
المدنية، وذهبوا إلى القتال في عام ١٩٩٤، وتحركت الرغبة في الإلحاق والضم والكسب
الشخصي، حضر الدين والتاريخ في هذا الصراع وغاب الفكر السياسي، لم تكن الوحدة الجغرافية في الذهن السياسي
اليمني للنخب الحاكمة آنذاك إلا حقلا جديدا من حقول النفوذ والفساد.
كانت الوحدة تحمل بذور مشروع وطني حضاري كبير قادر على العبور باليمن
نحو المستقبل، وتأسيس مداميك سياسية متينة لبناء قواعدها، لكن للأسف الجميع لم يغادر عقلية الغنيمة، والغنيمة هنا الاكتفاء
بتحقيق نجاح دون القدرة على إدارة ديناميكيته فيبدأ الدخول في حالة استهلاك ذاتي،
فتح النظام السياسي اليمني جراحات الماضي بكل أوجاعه دون مشروع عبور تصالحي
وانتقالي يقود اليمن إلى بر الأمان.
لم تكن الديمقراطية التي مارسها اليمنيون سوى عنوان خارج كتاب الحاكم،
الخارجي هو المعني بها، لم ترسخ في المناهج الدراسية، ممارسات الحياة العامة إلا
بقيود أو وصاية، بينما ظلت الحقيقة المرة هي ما قاله صالح يوماً "أنا الدستور
والدستور أنا"، كان الرقص على الثعابين تعبيرا عن حالة الفهلوة السياسية التي
يفرضها صالح على النخب السياسية والشعبية مجردة من القيم الأخلاقية والثوابت
الوطنية، وهو سلوك لم تستطع المشاريع التي يفتخر بها علي صالح حقيقة هشاشة الدولة،
فاتجه نحو الجيش لحمايته وتغيير عقيدته وتقسيمه على أفراد عائلته في نفس الوقت
اجتهد لتحطيم القوات التي منحت آخرين من عائلته قوة "الفرقة الأولى
مدرع" كما حطم من قبل القوات الجنوبية.
كان منطقيا أن تصل الديمقراطية الصالحية وأحزابها التعساء الذين ظلوا
يمارسون دور القرد الراقص لأجل الفتات من المناصب، إلى حالة انسداد سياسي كبير، كما دفع سلوك صالح
الانتهازي مع الوحدة ووحدته الورقية إلى أزمة قادت إلى الحراك الجنوبي وانعدام الثقة
السياسية مع مكونات المجتمع المدني وخاصة من الشباب، فتراكمت مع حروب صعدة، وتفجرت
مع هبوب رياح الربيع العربي إلى ثورة فبراير عام ٢٠١١.
كانت الوحدة تحمل بذور مشروع وطني حضاري كبير قادر على العبور باليمن نحو المستقبل، وتأسيس مداميك سياسية متينة لبناء قواعدها، لكن للأسف الجميع لم يغادر عقلية الغنيمة، والغنيمة هنا الاكتفاء بتحقيق نجاح دون القدرة على إدارة ديناميكيته فيبدأ الدخول في حالة استهلاك ذاتي، فتح النظام السياسي اليمني جراحات الماضي بكل أوجاعه دون مشروع عبور تصالحي وانتقالي يقود اليمن إلى بر الأمان.
انفجرت ثورة ١١ أيار (مايو) كاستحقاق سياسي واجتماعي وحضاري طبيعي
لشعب يحمل بذور حلم حضاري وتتويجا لتفاعل ثقافي وسياسي كبير قادته النخب المستقلة
"الذين خرجوا عن قطيع
السياسة ولو كانوا منتمين لأحزابهم، عبر الصحف والقنوات
التي شكلت متنفسا سياسيا وثقافيا، سبق الثورة ترشح ابن شملان الجنوبي نقطة انعطاف
لهز الشجرة التي بدت راسخة كما عبر عنها السياسي اليمني "قحطان"، كسرت
حاجز الخوف وأوجدت الممكنات التي كانت مستحيلة، دفعها الربيع العربي خطوات نحو الأمام،
لتبدأ مرحلة جديدة من تاريخ اليمن السياسي انتهى بخروج صالح من السلطة وإنتاج
مخرجات الحوار الوطني.
حاول الحوار أن يضع كل قضايا اليمن على الطاولة، من صعدة إلى الجنوب،
إلى حلم الدولة المدنية، إلى اللامركزية النسبية التي بدت من خلال مشروع الأقاليم،
والسعي لمصالح سياسية واجتماعية عبر عدالة انتقالية قانونية، الذي يؤسس لمرحلة
جديدة محورها الوحدة اليمنية بناء على عقد اجتماعي جديد، يوزع الثروة والسلطة ويحد
من نفوذ السلاح والهيمنة على أسس عائلية، كانت مخرجات الحوار عنوانا متقدما لما
يفكر به اليمنيون ولما يطمحون إليه، وتأكد
أخيرا أن اليمنيين وضعوا أيديهم على الجراح التي أسست لدورات من العنف السياسي
والاقتتال على كرسي السلطة في عدن وصنعاء.
كان اليمنيون قاب قوسين أو أدنى من الذهاب إلى مستقبل جديد، يقوم على
أسس سياسية ومرجعية قانونية جديدة، ولن أكون مبالغا في القول إن نجاح اليمنيين في
تنفيذ مخرجات الحوار على الأرض، والذهاب إلى مرحلة جديدة، كان سيؤسس لنموذج يمكن أن
يشكل مخرجا لحالة الاقتتال والاحتقان في دول الربيع العربي، لكن هناك قوى داخلية وخارجية أقلقها النموذج
اليمني الذي يمكن أن يرى النور في ظل حالة تواصلية عالمية وميسرة يمكن أن يجعلها
محور تأثير للمنطقة بأكملها، واستباحت
مليشيا الحوثي صنعاء، وقضت على ما تبقى من مؤسسات كان يعول عليها في تنفيذ مخرجات
الحوار، وظهر تحالف الانتقام والتشفي صالح الحوثي ليعيد اليمن إلى ما قبل ١٠٠ سنة،
وفي الجنوب ركب عيدروس الزبيدي وفصيل الإمارات المطالب الحقوقية للجنوب، وتحول
بفضل المال والقوة والحماية إلى مشروع ترهل يصعب تأسيس أي بناء مستقلي عليه.
التحدي الأكبر اليوم أمام اليمن، يبدأ بالاعترف بكل وضوح بجذور
المشكلة المتمثلة في احتكار السلطة والثروة بيد عائلة أو جماعة في العاصمة وحرمان
بقية المحافظات في حقها في السلطة والثروة وإدارة شؤونها، إضافة إلى غياب أي
مصالحة يمنية سياسية اجتماعية حقيقية، حيث مارس الناس والطبقات السياسية التمحور
حول المنتصر، وهذا للأسف ظل يخفي تموجات سياسية واجتماعية وحكايات الفشل والإقصاء
التي مورست منذ ستينيات القرن الماضي.
تحولت المحافظات وعواصمها إلى قرى رتيبة بسبب تركز السلطة والثروة في
صنعاء، كان آباؤنا يعملون لسنوات طويلة خارج الوطن لأجل أن يصرفوا علينا أثناء
الذهاب إلى صنعاء، وصنعاء تمركزت حول مشيخات وأصحاب نفوذ، وقصور فساد، وتركت
لقدرها تواجه الإهمال، عاصمة اليمن بلا مجاري صرف صحي، وبلا مواصلات نقل عام، لم
تنتج المركزية السياسية سوى نخبة تافهة، تجيد الشحاذة السياسية المالية، وترى في
الدولة مشروعا للثراء الشخصي.
هذه النخب التي جاءت إلى صنعاء من الخارج سواء المليشيات القادمة من
خارج التاريخ، والنسق السياسي من صعدة، أو التي سلّحتها الإمارات باسم الانفصال، ما زالت تتحكم بقدرنا، وتتقدم الصفوف
تتغنى بالوطنية والوحدة والديمقراطية، في ظل غياب بل عجز النخب اليمنية التي أدمنت
العيش تحت عباءة الفساد والانتماء والموالاة للخارج، دون قدرة على إنتاج حالة إبداعية
توجد معادلة سياسية جديدة تحت مظلة الوحدة اللامركزية.
يجب أن نواجه أصحاب مشاريع الحكم باسم النبوة شمالا أو الشعور
بالممثل الأوحد للجنوب برؤية شعبية لها حواملها القانونية والحقوقية، ونمنح
المحافظات حقها الطبيعي في الثروة والسلطة، في حضرموت تعز إب البيضاء تهامة مأرب،
لا أحد اليوم من نطفة طاهرة، للجميع الحق في التشارك المحلي والسياسي، ولن تهدأ
النفوس. يفرغ الاحتقان السياسي إلا بمنح الناس حق المشاركة في الإدراك، ثماني سنوات
مفترض أن تكون شكلت نضجا سياسيا ورؤية إلى المستقبل، ومنحتنا إدراك ما هي الأحلام وما هي الحقائق، سؤال الدولة والوحدة ومعادلة
الإقليم والمركز، والتصالح التنموي مع الجغرافيا المحلية، وتقييد دور الجيش دستوريا،
وإعادة هندسة المجتمع وفق خطاب المواطنة والتعايش الذي يقبل بالآخر، مداميك أساسية
للمستقبل الذي يستوعب كل يمني.
في النهاية حان الأوان للبدء بالتهيئة النفسية والقانونية للأقاليم
المؤهلة لإدارة نفسها على أرضية مشروع اليمن اللامركزي، بداية تفرضها ضرورة حلحلة جذر المشكلة الحالية، يتبعه قانون يتفق عليه الجميع يعتمد على مخرجات الحوار
الوطني، والذهاب إلى خيار مستقبلي واقعي لضبط المعادلة التي اختلت وأصبح خيار إنقاذ لليمن الذي تتقاذفه مؤامرات
التقسيم والتقزيم.