تخوض
الأحزاب السياسية معاركها الانتخابية عادة على أرضية تنافس بين برامج يحتل
الاقتصاد رأس أولوياتها، وفي مراحل التحول الديمقراطي يصعب عادة الجمع بين فضيلتي
الاقتصاد والسياسة في جملة مفيدة، فإما هذه أو تلك. ولا تؤتي شجرة السياسة ثمارها
الاقتصادية بشكل سريع، لكن عشر سنوات كانت كافية لتجني
تونس ثمرة الصبر الطويل على
التقلبات السياسية المتعاقبة منذ ثورة الياسمين. واليوم تخفض وكالة فيتش
التصنيف
الائتماني لتونس بسبب الشكوك حول قدرة البلاد على الحصول على التمويل الكافي لسد
احتياجاتها المالية.
يتحمل
الرئيس
قيس سعيد المسئولية السياسية عن هذا الوضع بحكم منصبه، وبحكم الصلاحيات
التي انتزعها لنفسه على حساب مؤسسات الدولة الأخرى. والأمر في الحقيقة أبعد من قيس
سعيد وفترة حكمه التي بدأت قبل عدة سنوات لم يكن الاقتصاد التونسي وقتها في أحسن
حالته، فأين الخلل في التجربة التونسية الذي أودى بها إلى هذه الهاوية السحيقة
التي لا نعرف لها قرارا؟
يتحمل الرئيس قيس سعيد المسئولية السياسية عن هذا الوضع بحكم منصبه، وبحكم الصلاحيات التي انتزعها لنفسه على حساب مؤسسات الدولة الأخرى. والأمر في الحقيقة أبعد من قيس سعيد وفترة حكمه التي بدأت قبل عدة سنوات لم يكن الاقتصاد التونسي وقتها في أحسن حالته، فأين الخلل في التجربة التونسية
أثناء
زيارتي لتونس عام 2012 زرت مدينة تالا، إحدى المدن الجنوبية التي صدرت الثورة إلى
الشمال هي ومدينة سيدي بوزيد. سألت الناس هناك عن رؤيتهم للثورة والتغيير، فقالوا
إن حلمهم الوحيد هو إقامة مصنع إسمنت يوظف الشباب ويحيي المنطقة اقتصاديا، وأنهم
صبروا عاما كاملا ولا يطيقون صبرا لعام آخر. سألت بعض الخبراء في العاصمة عن
العوائق التي تمنع إقامة مثل هذا المصنع، فقالوا إن البيروقراطية في البلاد لا
تزال فعّالة وكثير من التشريعات تعيق إقامة مثل هذه المشاريع، فضلا عن الإضرابات
العمالية المستمرة.
بعدها
زرت تونس عدة مرات، وفي كل مرة أسأل بعض الأصدقاء والخبراء عن سر تباطؤ الوضع
الاقتصادي في بلد صغير حجما وسكانه 11 مليونا فقط، وكثير من دول العالم العربي
والغربي أظهرت رغبات لمساعدته، ولديه موارد كبيرة فضلا عن سمعة الأيدي العاملة فيه
التي تتسم بالمهارة والتفاني في العمل. وكانت الإجابة تأتي بأن هناك ما تم إنجازه
من مشاريع والمشاريع الأخرى في طور التجهيز، والمعارك السياسية الموسمية تبطئ عجلة
النمو الاقتصادي.
إلى
جانب هذا، حظيت البلاد بمساحة حرية واسعة مقارنة بنظيرتها من الدول المجاورة،
الأمر الذي أغرى العديد من المؤسسات الدولية أن تفتح لها مكاتب إقليمية في العاصمة
التونسية. وهو أمر محمود ولا شك، فقد خلق فرص عمل وعزّز من مكانة البلاد دوليا،
وكان بوابة لسيل من المساعدات الدولية، لكنه في الوقت ذاته أعاد المعادلة القديمة
في تونس حول نظرية المركز والأطراف؛ فرص العمل في العاصمة، والبطالة والعوز
الاقتصادي لكل ما هو بعيد عنها.
الشق الاقتصادي في التجربة التونسية يجب أن يأخذ مكانه الذي يليق به في سلم أولويات النخب والأحزاب في الداخل والخارج عند أي نقاش حول مستقبل البلاد؛ لأن التجربة السياسية التونسية لم يعزها الرشد إجمالا، بل بالعكس أثبتت نجاحها بشكل باهر قبل أن تتحطم على صخرة الاقتصاد
وكان
على دفة الاستقطاب في تونس أن تتجنب التركيز على التنافس السياسي إلى التركيز على
التنافس الاقتصادي. وهي ليست مهمة سهلة؛ لأن تونس أقرب ما تكون للنموذج الفرنسي
الذي تحظى فيه النقابات والاتحادات المهنية بسطوة كبيرة. وهي سلاح ذو حدين، فنظرية
السوق المفتوح السادة في العالم تعتبره عائقا أمام النمو الاقتصادي. ويمكن تطوير
نموذج يراعي الحالة التونسية ويدمج النقابات في عملية النمو الاقتصادي.
أتصور
أن الشق الاقتصادي في التجربة التونسية يجب أن يأخذ مكانه الذي يليق به في سلم
أولويات النخب والأحزاب في الداخل والخارج عند أي نقاش حول مستقبل البلاد؛ لأن
التجربة السياسية التونسية لم يعزها الرشد إجمالا، بل بالعكس أثبتت نجاحها بشكل
باهر قبل أن تتحطم على صخرة الاقتصاد. ولا ننسى أن الثورة التونسية قامت بالأساس
بسبب الوضع الاقتصادي ورفع الشعب شعاره الأثير: "خبز وماء وبن علي لا".
twitter.com/HanyBeshr