الكتاب: "كيف ينتشر السلوك.. علم العدوى المعقدة"
المؤلف: ديمون سنتولا
المترجم: عاطف سيد عثمان
الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 2022
لماذا تنتشر بعض أنواع العدوى الاجتماعية بسهولة، بينما يكافح البعض
الآخر حتى يبدأ؟ لماذا تنتشر بعض الفيروسات بسرعة كبيرة في أوساط سكان العالم،
بينما لا تنتشر السلوكيات التي تحقق الوقاية منها بالسرعة نفسها؟. لماذا تستغرق
حركات اجتماعية عديدة سنوات حتى تنتشر، ولماذا تعاني تقنيات جديدة كثيرة حتى تحقق
انطلاقة؟. وهل يمكن استخدام الدروس المستفادة من انتشار الفيروسات بهدف تحسين
انتشار السلوكيات؟.
هذه مجموعة من الأسئلة التي قادت ديمون سنتولا، أستاذ علوم الاتصال
وعلم الاجتماع في جامعة بنسلفانيا، في بحثه (كتابه) هذا، حيث يدرس كيف تحدث
التغييرات في السلوك المجتمعي(في الصحة والتكنولوجيا والتغيير المؤسسي) وسبل
استغلال الشبكات الاجتماعية لتوجيه انتشار السلوكيات النافعة.
ويستخدم سنتولا الأساليب المستندة إلى الإنترنت لفهم كيف تغير
الشبكات الاجتماعية السلوك، ويبين الطرق التي يمكن من خلالها تطبيق هذه الأفكار
لتحقيق تغيير مؤسسي وتطور ثقافي، ونشر مبتكرات تقنية ومد الجسور بين التخصصات
المعرفية المختلفة. وهو يؤكد في الأثناء على أن النتائج تظهر أن الظروف نفسها التي
تسرع وتيرة تفشي الأوبئة قد تعرقل انتشار السلوكيات، وهو ما يقلب، بحسب ما يقول،
الحكمة المتوارثة بشأن الانتشار رأسا على عقب، ما يوحي بضرورة التفكير بطريقة
جديدة حيال الانتشار في الشبكات الاجتماعية.
يقول سنتولا أن الدروس المستقاة من مجال علم الأوبئة تتيح توجيها
عاما لدراسة صور العدوى السلوكية. والافتراض التوجيهي هو أن السلوكيات تنتشر كما
تفعل الفيروسات. وقد بلور مالكوم غلادويل مؤلف كتاب"نقطة التحول" هذه
الفكرة حين قال:"أنا مقتنع بأن الأفكار والسلوكيات والمنتجات الجديدة تنتقل
عبر السكان كما يفعل المرض. وبعبارة أخرى ليس هذا ضربا من المجاز. فأنا أتحدث عن
تشابه حرفي للغاية.. فالأفكار يمكن أن تكون معدية بالطريقة نفسها تماما التي تنتقل
بها عدوى فيروس ما". أما سنتولا فيقدم عبر كتابه هذا منظورا مختلفا تماما
بشأن الانتشار، إذ يبين فيه لماذا لا تصلح هذه النظرية لفهم انتشار أغلب
السلوكيات، وما يكشفه هذا بشأن أنواع الشبكات الاجتماعية الأنسب على الإطلاق لنشر
السلوكيات. ويستكشف السمات الخاصة للبنية الشبكية التي تتحكم في ذلك، وكيف يمكن
استخدام هذه السمات للتأثير في عملية التغيير الاجتماعي. حيث يركز على كيف أن
التغييرات في الشبكات الاجتماعية للسكان يمكن أن تحول التقنية الفاشلة إلى مبتكر
ناجح.
العدوى المعقدة
يوضح سنتولا أن ثمة نظرية مؤثرة بصورة ملحوظة معنية بالانتشار الشبكي
تقوم على فكرة أن الروابط الضعيفة، أي المعارف العابرين، تربطنا بأجزاء نائية في
الشبكة الاجتماعية، وتمتلك قوة أكبر في تسريع وتوسيع الانتشار أكثر من الروابط
القوية، أي أصدقاؤنا وأفراد عائلتنا الذين عادة ما يعرفون جميعا بعضهم البعض. وهذا
وفق ما صاغه عالم الاجتماع مارك غرانوفيتر حين قال" يمكن لأي شيء ينشر ويروج
أن يصل إلى عدد أكبر من الناس ويجتاز مسافة اجتماعية أكبر عندما يمر عبر روابط
ضعيفة لا روابط قوية".
الدروس المستقاة من مجال علم الأوبئة تتيح توجيها عاما لدراسة صور العدوى السلوكية. والافتراض التوجيهي هو أن السلوكيات تنتشر كما تفعل الفيروسات.
ويرجع التأثير الواسع لهذه النظرية جزئيا إلى التمدد السريع
والمفاجىء الذي حدث مؤخرا في علوم الشبكات في فروع معرفية متنوعة مثل الفيزياء
وعلم الأحياء وعلوم الكمبيوتر، ما مهد السبيل لفترة من الاكتشافات المتسارعة بشأن
فهم كيف تؤثر بنية الشبكات الاجتماعية في دينميات الانتشار. يقول سنتولا أن
المشكلة تكمن في أننا عندما نقارن ذلك مع هيكل ضخم من الأبحاث التجريبية حول
الانتشار ينشأ لغز من التناقض بين قدرة الروابط الضعيفة على تحسين الانتشار في بعض
الحالات وعدم قدرتها على فعل الشيء نفسه في حالات عديدة أخرى.
ويشرح أن ثمة فارق مهم بين العدوى السلوكية "المعقدة" التي
يتطلب انتقالها الاتصال مع متبنين متعددي السلوك، والعدوى المعلوماتية والفيروسية
"البسيطة" التي لا يتطلب انتقالها سوى الاتصال بمصدر وحيد فقط. إذ تظهر
الاستكشافات الحسابية أنه عندما تكون العدوى معقدة لأنها مكلفة أو محفوفة بالمخاطر
أو تنطوي على درجة معينة من التكامل، فإن الروابط الضعيفة يمكن أن تبطىء وتيرة
الانتشار، ولهذه النتيجة آثار في معظم صور العدوى التي يهتم بها علماء الاجتماع
مثل الأعراف الاجتماعية وممارسات الزواج وسلوكيات الصحة والسلوك الانتخابي وتبني
التكنولوجيا. وهي تعني أيضا أن الشبكات الاجتماعية التي تسرع وتيرة انتشار مرض معد
يمكن أن تبطىء انتشار علاجه. يحدث هذا لأن الأمراض كالمعلومات عادة ما تكون عدوى
بسيطة تنتقل بسرعة عبر روابط ضعيفة، أما تغيير السلوك فلا ينتقل عادة على هذا
النحو.
الإنترنت كأداة بحثية
يرى سنتولا أن ثمة تحديا كبيرا في مسألة ابتكار طريقة لاختبار نظرية
الانتشار إمبريقيا. ويقول أنه بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من الأبحاث حول الشبكات
والانتشار، كانت المهمة الأولية بحد ذاتها المتمثلة في تحديد وجود عملية الانتشار
محفوفة بصعوبات، فضلا عن القدرة على تحديد كيف يمكن بالضبط أن تغير بنية شبكة
اجتماعية ما تلك العملية.
الناس حين يقاومون تغيير السلوك لا يعني أنهم عنيدون لا سبيل إلى تقويمهم، وهو لا يعني أيضا أن الانتشار سوف يخفق، بل يكشف هذا التوقع عن المسارات التي يلزم أن تتبعها العدوات السلوكية إذا كان لها أن تتخلل السكان والاستراتيجيات التي يمكن انتهاجها لزيادة فعالية هذه العملية.
وفي هذا المجال تتجلى شبكة الإنترنت كأداة لا تقدر بثمن في الأبحاث
الاجتماعية. ويقول أن هناك سهولة في الحصول على بيانات جيدة عن السلوكيات الفردية
باستمرار. كما يوجد الكثير من البيانات الجيدة عن النشاط الجماعي. لكن العنصر
المفقود هو البيانات عن الديناميات التي تربط هذه بتلك. غير أن التقدم الثوري،
بحسب ما يقول، الذي أتاحته تجارب الإنترنت هو أننا صرنا الآن نمتلك القدرة على
إقامة صلة مباشرة بين السلوكيات الجماعية التي تنشأ في "البرية"( أي
حركات السكان داخل عالم الحياة الاجتماعية غير المتحكم فيه في فضاء الانترنت)
والسلوكيات الجماعية المنهجية والقابلة للتكرار التي يمكن دراستها في البيئات
التجريبية في فضاء الانترنت.
وفي أحد فصول الكتاب يتحدث سنتولا عن كيف أنه على مدى عامين أنشىء
مجتمع مستقل في فضاء الانترنت ضم آلاف المتطوعين الذين استقدموا بوجه عام من
الانترنت. حيث أدمجت تقنيات من تجارب معملية لمجموعات صغيرة مع أدوات من تحليل
علوم البيانات الواسعة النطاق، لإجراء تجربة شبكية اجتماعية قائمة على الانترنت،
تختبر مسألة كيف تنتشر السلوكيات عبر الدوائر الاجتماعية لمستخدمي الانترنت.
النتائج أظهرت أن الروابط الضعيفة كانت فعالة للغاية في
نشر المعلومات، بيد أنها
أبطأت انتشار السلوك، ما يعني أن هذا الانتشار السريع عبر هذه الروابط لا يكشف
الكثير عن ديناميات تغيير السلوك، بل أنه كلما سرت المعلومات بسرعة مذهلة قلت
الاحتمالية الواعدة لنشر السلوك. بعد ذلك يوضح سنتولا كيف يمكن استخدام هذه
النتائج لمعالجة التحديات الخاصة التي تنشأ عندما يواجه المبتكرون معارضة اجتماعية
، وكيف يمكن تصميم تدخلات معنية بالصحة العامة، مثلا، من أجل تحفيز سلسلة شبكية من
التغيير السلوكي في أوساط السكان المعرضين للخطر.
قوى غير مرئية
في جزء آخر من الكتاب يقدم سنتولا نتائج تجريبية بشأن كيف يمكن تصميم
شبكات اجتماعية بين الغرباء لزيادة تدفق سلوكيات جديدة، وأهمية كل من الصلة
الاجتماعية والتعاطف في روابط الشبكة، وكيف يمكن تقوية هذه العوامل ضمن السياقات
القائمة على الإنترنت من خلال إدماج مفهوم مخالطة النظراء ـ أي التشابه بين
المعارف ـ داخل بنية شبكة اجتماعية. ثم ينتقل لمناقشة "المشكلة الصعبة"
المتمثلة في كيف يمكن التحكم في أنواع السلوكيات التي تنتشر في فضاء الانترنت. حيث
يأتي التأثير الاجتماعي بصور وأنماط كثيرة، وهناك بعض الظروف التي قد يثمر فيها
بناء شبكات مؤثرة نتائج عكسية من خلال نشر سلوكيات غير مرغوب فيها. وهنا يبرز،
بحسب سنتولا، في مقدمة المشهد السياق العلائقي للشبكات الاجتماعية. ويلفت إلى أن
النتائج تظهر في بعض الأحيان كيف يمكن أن تثمر استراتيجيات الشبكة الأشد التصاقا
بالبديهة الرامية إلى تغيير السلوك أقل النتائج المرغوب فيها على الإطلاق. ولتجنب
ذلك يقدم سنتولا بعض الإرشادات، ويشير إلى كيف يمكن لسمات المقارنة الاجتماعية
والدعم الاجتماعي في فضاء الانترنت تحديد أنواع التأثيرات التي سيمارسها الأشخاص
على سلوك بعضهم بعضا.
يقول سنتولا إن مبدأ التعزيز الاجتماعي يتيح نظرة جديدة إلى عمق
الديناميات الشبكية للتغيير السلوكي، مشيرا إلى أن نهجه الأساسي في هذا الكتاب هو
رؤية كيف تؤدي التغييرات غير المدركة في بنية العلاقات الاجتماعية إلى اختلافات
كبيرة في النتائج الجماعية، حيث تقدم هذه الطريقة أكثر من مجرد فهم للسلوك الفردي،
فهي تتيح تقدير القوى غير المرئية التي توجه تحركات السلوك الجماعي.
وأضاف: إن أكثر
النتائج الواعدة هي أن التوقع المنطقي أن الناس حين يقاومون تغيير السلوك لا يعني
أنهم عنيدون لا سبيل إلى تقويمهم، وهو لا يعني أيضا أن الانتشار سوف يخفق، بل يكشف
هذا التوقع عن المسارات التي يلزم أن تتبعها العدوات السلوكية إذا كان لها أن
تتخلل السكان والاستراتيجيات التي يمكن انتهاجها لزيادة فعالية هذه العملية.