ثمة سردية حول «البعد العقائدي» للصراع بين
الحشد الشعبي والولايات المتحدة الأمريكية؛ فهذا الصراع الذي يُسوّقُ بمنهجية دائما، يحمل بين طياته صراعا أقدم بين النظام
الإيراني و«الشيطان الأكبر»!
منذ منتصف الستينيات بدأ الخميني يتحدث عن «الاستكبار الأمريكي» وزادت حدة هذا الخطاب بعد نجاح الثورة الإسلامية، حيث تضمنت توصياتُه، وهي أوامر مقدسة بالنسبة لأتباع فهو القائل «يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي (ص) منهم، ووجب على الناس أن يسمعوا ويطيعوا» في كتابه «الحكومة الإسلامية» وفيه قال إنهم إذا استمكنوا «فانهم لن يبقوا على الإسلام ولا على أهل السنة ولا على الشيعة»! وكان يحذر دائما من «المتعاونين» الذين يضعون أيديهم في أيدي «شياطين العالم» حتى «يقضوا على صوت الإسلام المحمدي»!
وفي سياق هذا التنظير لمواجهة «الشيطان الأكبر» قرر الخميني عام 1982، تشكيل «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في
العراق» لجمع المعارضين العراقيين «الشيعة» في كيان واحد، وفي الوقت نفسه تشكيل جناح مسلح له باسم «فيلق بدر» يعمل ضمن الحرس الثوري الإيراني.
بعد وفاة الخميني ظل توصيف «الشيطان الأكبر» حاضرا في خطابات خليفته آية الله الخامنئي، ففي حديث له لصحيفة كيهان الإيرانية، شرح سبب استخدام الخميني لهذا التوصيف قائلا: «رئيس جميع شياطين العالم هو إبليس ولكن ابليس يقتصر عمله على الإغواء والإضلال في حين أن أمريكا تغوي وتضل وترتكب المجازر وتفرض الحظر وتنافق»!
وبعيدا عن الخطاب الشعبوي، فإن الخامنئي نفسه أعطى الضوء الأخضر للسيد عبد العزيز الحكيم، وهو شقيق رئيس المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، لزيارة الولايات المتحدة، واللقاء بنائب الرئيس نفسه، ووزير دفاعه. كما أن ما تقدم من خطاب الثورة الاسلامية عن الشيطان الأكبر، لم يمنعه من السماح لهم باستلام أموال أمريكية، ضمن برنامج خاص مرتبط بقانون تحرير العراق الذي أعلنته أمريكا عام 1998، والسماح للمجلس الأعلى بأن يكون «متعاونا» مع الاحتلال الأمريكي فيما بعد!
في سياق ليس ببعيد، وبعد دخول داعش إلى الموصل، استخدم رئيس مجلس الوزراء نوري المالكي، آنذاك، الميليشيات التي بدأ بإعادة انتاجها منذ منتصف عام 2012 (مثل منظمة بدر) و تلك التي أوعز بتشكيلها من خلال دعم منشقين عن التيار الصدري (مثل العصائب وحركة النجباء وكتائب الإمام علي) من أجل حسم صراعه المتجدد مع الصدريين، بعد موضوع «سحب الثقة» عنه من جهة، وفي سياق استجابة الفاعل السياسي الشيعي للثورة السورية لدعم «نظام البعث» من جهة ثانية؛ حين قدم الدعم اللوجستي والمالي لهذه الميليشيات للقتال في سوريا بشكل علني!
استخدم المالكي هذه الميليشيات، بشكل غير قانوني، مع نهاية عام 2013، ولم يكن هذا القرار للمالكي وحده، بل كان قرارا جماعيا للفاعلين السياسيين الشيعة؛ ففي محضر اجتماع للتحالف الوطني، الذي يمثل كل القوى الشيعية داخل مجلس النواب العراقي، 2014 تحدث نوري المالكي حينها عن خطة للاعتماد على «مجاميع أبناء العراق من المجاهدين» وقال «شكلنا 20 مجموعة في أطراف بغداد إلى الآن، ونحن مستمرون لأن هذه المجاميع أفضل من الجيش، تجيد حرب العصابات، وسوف نشكل في كربلاء أيضا» وكانت التسمية المبدئية لهذه القوات هو: «سرايا الدفاع الشعبي»!
وكان أول بيان يشير إلى هذه التشكيلات قد صدر عن كتائب حزب الله 2014، قالت فيه إنها شكلت ما أسمته «سرايا الدفاع الشعبي» لمقاتلة داعش وحركة رجال الطريقة النقشبندية وكتائب ثورة العشرين وحماس العراق وتنظيم محمد الفاتح!
كل ذلك حدث قبل سقوط الموصل، وقبل فتوى «الجهاد الكفائي» للسيد السيستاني، وكل ما جرى أن المالكي والفاعلين السياسيين الشيعة الآخرين، استخدموا فتوى السيد السيستاني، بعد تحريفها والتدليس عليها، من أجل «شرعنة» هذه الميليشيات العقائدية المسلحة؛ عبر جعلها الجهة الوحيدة التي تستقبل المتطوعين أولا، وعبر تسليحها وتمويلها خارج إطار الدستور والقانون، وعبر اعتماد سياسة الابتزاز!
وبالعودة إلى فتوى السيد السيستاني، فهي نص واضح لا يتحمل التأويل حين حدد المتطوعين بـ«المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعا عن بلدهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية» وليس لتشكيل جيش عقائدي مواز هو الحشد الشعبي!
طوال سنوات الحرب ضد داعش، كان الحشد الشعبي يتلقى أسلحة أمريكية ويتحرك بغطاء جوي أمريكي، وفي أثناء ذلك كان الأمريكيون يصمتون إزاء الانتهاكات التي يمارسها الحشد ضد المدنيين، وكان هذا في سياق ما أسميتُه «اللعبة المزدوجة» التي كان يمارسها الأمريكيون والإيرانيون في العراق التي منذ 2003، بعيدا عن الخطابات العدائية المعلنة.
فقد وجد الأمريكيون أنه ليس من مصلحتهم الدخول في مواجهة مع الفاعل السياسي الشيعي بشأن علاقته الاستراتيجية مع إيران، وفي المقابل وجدت إيران أن من مصلحتها القبول بشراكة أمريكية معها في العراق. ولم يكن الرفض الأمريكي لمشاركة الحشد الشعبي في بعض المعارك إلا في إطار «تخفيف الحساسيات» أكثر منه موقفا رافضا لها!
وبذلك تحققت شراكة حقيقية بين الحشد الشعبي والأمريكيين، بعيدا عن الخطابات العدائية التي استخدمها الطرفان، ولم تنكسر هذه الشراكة إلا 2019، لأسباب تتعلق بتوتر العلاقة الأمريكية الإيرانية في ظل إدارة ترامب، بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي، وحُزم العقوبات المتتالية ضدها بالدرجة الأساس، ووضع عصائب أهل الحق والنجباء وكتائب حزب الله ضمن قائمة المنظمات الإرهابية، وفرض عقوبات على قيس الخزعلي زعيم العصائب!
هنا فقط بدأت «رسائل الكاتيوشا» بالسقوط على السفارة الامريكية، وبدأ الحديث عن ضرورة سحب القوات الأمريكية من العراق، ليصل الأمر إلى إصدار قرار من مجلس النواب العراقي بتاريخ 5 كانون الثاني/ يناير 2020 يدعو الحكومة للعمل على إنهاء جميع القوات الأجنبية على الأراضي العراقية».
بعد انسحاب الصدريين من مجلس النواب العراقي، وهيمنة الإطار التنسيقي، الذي يضم الأجنحة السياسية للفصائل التي تشكل الحشد الشعبي، على الحكومة العراقية التي تشكلت نهاية عام 2022، لم يعد موضوع انسحاب القوات الأمريكية مطروحا، ولم تعد «الكاتيوشا» ترسل إلى السفارة الأمريكية، ولم يعد الشيطان الأكبر شيطانا من الأصل، ليصل الأمر إلى إلغاء الحشد الشعبي لاستعراضه السنوي، وأغلب الظن أن ذلك كان بقرار إيراني، لإدامة شهر العسل المنعقد بين حكومة الإطار التنسيقي والولايات المتحدة، ما دام الأمريكيون لن يلتفتوا إلى زيادة أعداد هذا الحشد وميزانيته، إلى الضعف!
كل شيء سياسة، وكل شيء متاح في السياسة، لكن عندما يدخل الدين والعقيدة في السياسة فإن الخراب مضاعف، لأن ذلك يفقد كليهما مصداقيته ومعناه!
(
القدس العربي)