السيادة الكاملة
لا بدّ من فهم فريضة
الحج في السياق السياسي الأوّل، حيث كانت السيادة على مكان الحج لزعامة مكة التي
كانت تحكمها عادات جاهلية مع بقايا إرث ديني متوارث منذ سيدنا إبراهيم عليه السلام.
وقد تحوّل
التوحيد مع مرور الزمن إلى عبادة الأصنام والشرك، وتحوّل هذا
الدين إلى حالة
من التوظيف لتثبيت السيطرة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولتشكيل موروث ثقافي
جامد وثابت يديم هيمنة الزعامة القبلية والمتنفّذ فيها طغمة من رجالات مكّة؛
يمسكون رقاب الناس بقسمتهم إلى أسياد يدورون في فلكهم وعبيد يقومون على خدمتهم..
وكان أمام الدين الجديد
عدة سيناريوهات سياسية: إما أن يندرج في هذه السياسة ويقرّ بها ويأخذ جانبا تصالحيا
لا يصطدم بهذا الوضع الطاغي والمهيمن، فيفصل الدين عن السياسة ويُطمئن المتنفّذين
بعدم تضرّر أوضاعهم ومصالحهم، وأن يتم الاكتفاء بدين لا شأن له بما يخلخل الوضع
القائم، فيرضون عنه ويعطونه هامشا ضيّقا أو ملعبا صغيرا لممارسة ما يحلو لهم، شرط
أن لا يتدخّلوا في سياسة البلد ولا اقتصاده.
السيناريو الثاني: أن
يتقاسموا السيادة السياسية فيأخذوا ويعطوا ما يرضيهم ويرضي تلك الزعامة القائمة،
فيتقاسموا المناسك والشعائر والأوامر والنواهي والأعراف والتقاليد ويصبح في مكة
ثقافتان؛ القديمة السائدة وثقافة الدين الجديد دونما تضارب أو تعارض قدر المستطاع.
السيناريو الثالث: أن
هذا الدين لا يقبل أبدا إلا الوراثة الكاملة والصحيحة لديانة إبراهيم مع السيادة
الكاملة لله، بمعنى التوحيد الخالص ونبذ الشرك والأصنام وثقافة الأصنام وزعامة الأصنام،
وبالتالي سحب البساط بشكل كامل من تحت تلك السيادة الظالمة والمجحفة، وإحلال سيادة
التوحيد الخالص والعدالة الكاملة وإحقاق الحق وإبطال الباطل.
فكان السياق السياسي في
عمرة القضاء أن تخرج مكة بسيادتها وثقافتها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها من
المكان ليدخل المسلمون بدينهم الجديد وبكلّ أبعاده وعباداته ومناسكه وشعائره، وبما
يضمن الوراثة الصحيحة لدين إبراهيم عليه السلام دون أيّ انحراف أو تشويه.
ثم بعد ذلك وبعد فتح
مكّة جاء الحج ليحمل معه السيادة السياسية الكاملة لهذا المكان المقدّس، وليطهّره
من الشرك وعبادة الأصنام والتبعية السياسية لتلك الزعامة التي كانت توظّف الحج
لخدمة مصالحها وأركان سياستها الباطلة.
كل ما في الحج يؤكد هذه
السيادة السياسية المستمدة من وحي السماء وصاحبة الميراث الصحيح لأبي الأنبياء
وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام.
واليوم بما يسمّى
الديانة الإبراهيمية ومحاولتهم لعمل كوكتيل ديني مجنون؛ لا يبتعدون كثيرا عن تلك
الزعامة الجاهلية التي كانت تدّعي الانتساب لإبراهيم عليه السلام وسيدنا إبراهيم
منهم براء.
فريضة الحج جاءت لتحرّر
الناس من كلّ أشكال الصنميّة والشرك والتبعية والخضوع لغير الله بشكل عملي في أرض
النبوة والرسالة، بينما هناك من يعمل لتفريغها من هذه الروح وليجعلها عبادة شكلية
لا صلة لها بالواقع أو السياسة والصنميّة الجديدة المتنفّذة هذه الأيام بكلّ بشاعة.