علق الكاتب البريطاني، ديفيد هيرست، على حادثة غرق
القارب الذي كان يحمل مهاجرين، قبالة
اليونان، مشيرا إلى أن سببها هو الصفقات التي تبرمها
أوروبا مع "الطغاة".
وأوضح الكاتب في
مقال بموقع "ميدل إيست آي"، ترجمته "عربي21"، أن "القوى الاستعمارية السابقة" تغذي نفس عوامل عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي الإقليمي التي تسبب هذه الموجات المتدفقة من اللاجئين.
ولفت إلى أن أكثر من 1200 شخص غرقوا في
البحر المتوسط في العام الماضي. ومنذ 2014 وصل الرقم إلى ما يقرب من 25 ألفا، وقد غدا الغرق الجماعي للاجئين، الذين يخرجون في قوارب مزدحمة من ليبيا وتونس ومصر، أمرا معتادا حتى استحق هذا البحر أن ينزع عنه لقب "مهد الحضارات" الذي طالما عرف به.
وتاليا المقال كما ترجمته "عربي21":
بقدر ما يبدو بشعاً فإن ما حدث في الأسبوع الماضي، عندما غرق ما يقرب من 500 من الرجال والنساء والأطفال قبالة ساحل بايلوس في اليونان، لم يكن سوى يوم آخر في حياة البحر المتوسط.
لقد غدا الغرق الجماعي للاجئين، الذين يخرجون في قوارب مزدحمة من ليبيا وتونس ومصر، أمراً معتاداً حتى استحق هذا البحر أن ينزع عنه لقب "مهد الحضارات" الذي طالما عرف به.
أكثر من 1200 إنسان غرقوا في البحر المتوسط في العام الماضي. ومنذ 2014 وصل الرقم إلى ما يقرب من 25 ألفاً. يجدر به الآن أن يسمى البحر المتوحش. إلا أن هذا التوحش وتلك القسوة من صنع البشر.
تجد في الجنوب طغاة ينفقون أموالاً لا تعد ولا تحصى على التسليح وعلى إقامة المشاريع التافهة تبختراً وخيلاء أو على أنفسهم. وإذ يفعلون ذلك فهم لا يجرون بلدانهم نحو الإملاق فحسب، فيدفعون كل عام بأعداد متزايدة من فقرائهم نحو القوارب، بل ويشاركون في مغامرات عسكرية في الخارج، ويبثون الحرب والفوضى حيثما حلت قواتهم.
وفي الشمال تجد أوروبا التي تخلت تماماً عن عمليات البحث والإنقاذ، والتي ستفعل كل ما في وسعها، بما في ذلك رشوة الطغاة، لوقف تدفق
المهاجرين. وكلاهما يتشدقان بالعبارات المبتذلة حول الأموات.
ووسائل الإعلام الدولية على خطاهم تسير. ولك أن تقارن بين التغطية التي يحظى بها خمسة رجال محشورين في غواصة تايتان المفقودة وما يبذله سلاح البحرية وخفر السواحل في الولايات المتحدة من جهود للوصول إليهم وبين ما ستجده أدناه من توصيف لما حدث قبالة ساحل بايلوس الأسبوع الماضي والذي يتوقع أن يتكرر في كل أسبوع هذه السنة.
حكاية مألوفة لدرجة مرعبة
حلت المأساة ببطء وعلى مرأى ومسمع من سفينة خفر سواحل يونانية متوقفة في المكان. قال أربعة من الناجين أجرت معهم ذي صنداي تايمز مقابلات بأن خفر السواحل اليونانيين لم يرسلوا أي مساعدة على الأقل إلى ما يقرب من مرور ثلاث ساعات على انقلاب القارب وغرقه.
وكشف تحقيق للبي بي سي عن أن القارب نفسه لم يتحرك على الأقل لمدة سبع ساعات قبل أن يغرق. وتقول منظمة "هاتف الإنذار"، التي ترصد البحر لاكتشاف السفن التي تواجه خطر الغرق إن السفينة طلبت المساعدة مساء الثلاثاء قبل يوم كامل من غرقها.
أما خفر السواحل اليوناني فزعم أن السفينة رفضت المساعدة وأنها كانت في طريقها إلى إيطاليا.
إنها حكاية مألوفة لدرجة تبعث على الرعب. في السادس والعشرين من شباط/ فبراير، حصل نفس الشيء مع سفينة قبالة سواحل كروتون في إيطاليا. كان على متنها ما يقرب من مائتي لاجئ، جلهم من الأفغان، مات منهم أربعة وتسعون، بما في ذلك خمسة وثلاثون طفلاً.
في تطابق شبه تام مع الحكاية الأخيرة التي سعى خفر السواحل اليوناني إلى تلفيقها، زعمت الرواية الرسمية للإيطاليين بأن قارب الاستجمام الخشبي التركي، واسمه "غرام الصيف"، غرق في بحر لجي بعد ست ساعات من رؤية طائرة فرونتكس له قالت في تقرير لها إن القارب لم "يظهر عليه ما يشير إلى أنه كان في خطر".
إلا أن جمعية "لايتهاوس ريبورتس" حصلت على سجلات طيران فرونتكس (وكالة الحدود في الاتحاد الأوروبي)، والتي كشفت عن أن الطائرة واجهت رياحاً عاتية قبل ساعتين من رؤيتها للقارب واستشعارها "استجابة حرارية عالية" تحت سطح السفينة، مما يشير إلى وجود عدد غير عادي من البشر على متنها.
كلا هاتين المعلومتين أسقطتا من السجل الرسمي. في تصريح لموقع ميدل إيست آي، قال كلاس فان ديكين، الناطق باسم لايتهاوس: "كانت السفينة مكدسة بعدد كبير من البشر يفوق طاقتها، وهو ما لا مفر من أن يكون مرئياً من قبل فرونتكس. كانوا جميعهم على دراية بالأمر، ومع ذلك لم يرسلوا سفينة إنقاذ، وكان لذلك القرار تداعياته الجسيمة على البشر المحمولين على متن القارب."
لا تتخذ فرونتكس مثل هذه القرارات التي تمس حياة الناس في فراغ سياسي. فاليونان، التي تتعرض للتوبيخ من قبل المفوضية الأوروبية بسبب ما تنتهجه من سياسة "الدفع العنيف إلى الخلف" لا تنفق على مقدرات البحث والإنقاذ سوى ستمائة ألف يورو (ما يعادل 654 ألف دولار أمريكي) أو 0.07 بالمائة من الميزانية الإجمالية المخصصة لإدارة الحدود.
تمويل المهربين
لقد تم تخصيص مبلغ 819 مليون يورو (ما يعادل 894 مليون دولار أمريكي) من الميزانية الحالية للاتحاد الأوروبي لليونان خلال الفترة من 2021 إلى 2027. ينفق معظم ذلك، بحسب كاثرين وولارد، مديرة المجلس الأوروبي لشؤون اللاجئين والمنفيين، على الجهود المبذولة للحيلولة دون وصول اللاجئين إلى أوروبا.
بل إن إيطاليا، جارة اليونان، أكثر وضوحاً فيما تتخذه من إجراءات بهذا الشأن.
تعمدت جورجيا ميلوني، رئيسة وزراء إيطاليا اليمينية المتطرفة، الإعلان عن إعادة ضبط علاقات إيطاليا بالطغاة الذين يحكمون أقطار جنوب المتوسط.
فقد قابلت خليفة حفتر، الذي يمثل معقله في منطقة برقة من ليبيا نقطة انطلاق رئيسية للمهاجرين الذين يسعون للوصول إلى إيطاليا.
إلى جانب شنه حرباً أهلية ضد حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دولياً في طرابلس، الأمر الذي يقوض أي فرصة لإنعاش البلد من جديد بعد معمر القذافي، يقوم حفتر بمساندة محمد حمدان دوقلو، الشهير باسم حميدتي، في مسعاه للاستيلاء على السلطة في السودان، ناهيك عن العلاقات التي تربطه بمرتزقة فاغنر.
يعلم الاتحاد الأوروبي أنه يمول التجارة القائمة بين خفر السواحل الليبي والمهربين. فقد اتهمت بعثة الأمم المتحدة للبحث عن الحقائق في ليبيا المسؤولين في خفر السواحل الليبي وفي دائرة مكافحة الهجرة غير الشرعية بالعمل والتنسيق مع المهربين.
في وقت مبكر من هذا العام، قام مفوض الجوار في الاتحاد الأوروبي، أوليفر فارهليي، بتسليم خفر السواحل الليبي سفن مراقبة، وأعلن عن حزمة مساعدات بمبلغ 800 مليون يورو (ما يعادل 873 مليون دولار أمريكي) لقطع الطريق على الهجرة من أفريقيا.
على العموم، ما من شك في أن حفتر مسؤول عن إيجاد مزيد من اللاجئين أكثر من أي شخص آخر يمكن أن يخطر ببالي على سواحل شمال أفريقيا، ربما باستثناء عبد الفتاح السيسي الذي كان ذات يوم أحد داعميه الرئيسيين.
مرت عشر سنين منذ أن استولى السيسي على السلطة عبر انقلاب عسكري أطاح بالدكتور محمد مرسي، أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً.
طبقاً لإحصائيات وزارة الداخلية الإيطالية، وصل ما يقرب من عشرين ألف مصري إلى إيطاليا عبر ليبيا في 2022، تقريباً ثلاثة أضعاف عدد من عبروا في فترة مشابهة في 2021، حتى بات يعتقد الآن بأن المصريين يشكلون جل اللاجئين الذين يصلون إلى إيطاليا.
يوم الأحد، وفي مكالمة هاتفية مع أحد البرامج، اعترفت وزيرة الهجرة في مصر، سها الجندي، ربما سهواً، بأن المصريين الذين نجوا من كارثة القارب قبالة السواحل اليونانية لن يتوانوا عن فعل أي شيء حتى يتجنبوا العودة إلى بلدهم. يتواجد الآن منهم ثلاثة وأربعون داخل أحد معسكرات اللاجئين في اليونان.
وعلى خطا حفتر والسيسي يسير دكتاتور تونس قيس سعيد، الذي استضاف زعماء كل من إيطاليا وهولندا والاتحاد الأوروبي، الذين جاءوا ليقدموا له حزمة مساعدات، بعد فترة قصيرة من وصوله إلى السلطة، وبعد نجاحه الباهر في إفلاس بلده لدرجة أنه يوشك أن يتخلف عن الوفاء بسداد ديونه الخارجية.
أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير ليين، أنه "منذ 2011، يدعم الاتحاد الأوروبي مسيرة تونس الديمقراطية. إنه، أحياناً، لطريق طويل وصعب. إلا أن هذه الصعاب يمكن التغلب عليها."
كانت تقول هذا الكلام بينما يقف مباشرة إلى جانبها قيس سعيد، العقبة الأساسية في طريق استعادة الديمقراطية البرلمانية.
مساعدة المستبدين
موقف الاتحاد الأوروبي من إغلاق المسار الديمقراطي في تونس يعكس الموقف الذي تتبناه ميلوني، بل لربما كان أكثر استخفافاً من موقف رئيسة الوزراء الإيطالية.
يوم الاثنين، قال مسؤول العلاقات الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، لنظيره المصري إن الاتحاد الأوروبي سيمنح القاهرة 20 مليون يورو لتمكينها من استضافة ما يقرب من مائتي ألف لاجئ وردوا إليها من السودان. وطالب بالإفراج عن ثمانين مليون يورو كان قد تم التعهد بها لمصر العام الماضي من أجل الإنفاق على إدارة الحدود.
طبعاً لا تكاد مثل هذه الأرقام تذكر مقارنة بالأموال التي تجنيها دول الاتحاد الأوروبي لقاء تصدير الأسلحة إلى مصر. فخلال السنوات العشر منذ انقلاب السيسي العسكري، صدرت بلدان الاتحاد الأوروبي – بما في ذلك بريطانيا – أو أصدرت تراخيص تصدير أسلحة إلى مصر بقيمة 12.4 مليار دولار أمريكي، وذلك بحسب الإحصاءات الصادرة عن حملة مناهضة تجارة السلاح.
ولكن حتى لو قبلنا بالمبالغ التي أعلن عنها بوريل يوم الاثنين دون تمحيص، فإنه لا وجود لآليات رسمية ضمن هذه الاتفاقيات لرصد كيفية إنفاق هذه الأموال، التي ينتهي بها الأمر داخل ثقب أسود كبير، مثلها مثل كل الأموال الأخرى التي منحت للسيسي.
بينما يزداد المصريون فقراً يوماً بعد يوم فإن الأموال التي ينفقها السيسي على السلاح تضع مصر على رأس قائمة أكبر عشر دول مستوردة للسلاح في العالم. ما بين 2010 و2020 اشترت مصر أسلحة بما يقرب من 22 مليار دولار أمريكي.
فلم عساهم يذرفون أي دموع على الديمقراطية طالما أن الاستبداد مفيد للتجارة؟
وثقوا بما أقوله لكم، فيما يتعلق بشمال أفريقيا والدول الفقيرة البائسة التي بالجوار، لقد تخلى الاتحاد الأوروبي عن أجندته الديمقراطية، ولا يغرنكم أنه ملأ الدنيا عويلاً بشأنها في أوكرانيا.
عندما قاطع التونسيون تحرك قيس سعيد باتجاه تدشين برلمان بصيم، بعد أن حل مجلس القضاء، طالب بوريل بأن تتم "استعادة الاستقرار المؤسسي بأسرع وقت ممكن".
فما كان من قيس سعيد إلا أن ألقى القبض على راشد الغنوشي، رئيس حزب النهضة، والذي كان أكبر أحزاب البرلمان القديم. عند كل تحرك، يحصل قيس سعيد على الضوء الأخضر للمضي قدماً فيما يسعى إليه، ويتمثل هذا الضوء الأخضر في غياب أي إجراء ذي معنى من قبل الاتحاد الأوروبي.
وكذلك تفعل بريطانيا. حين يتعلق الأمر بجيرانها في جنوب المتوسط، تتخلى أوروبا عن كل القيم التي تدعي التمسك بها. وعندما وضعت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان البريطاني وزير خارجية بريطانيا على المحك وسألته عما تفعله بريطانيا لضمان إطلاق سراح الغنوشي، لم يعرف الوزير جيمز كلفرلي من هو الوزير المسؤول عن تونس، ناهيك عما قاله في هذا الصدد.
قال كلفرلي مخاطباً اللجنة: "بدت تونس كما لو كانت الخبر السار في حكاية الربيع العربي. من المخيب للآمال أن نرى التقدم الذي أحرزوه يشهد تراجعاً. لكننا نتفاعل مع الحدث. ولسوف أعود وأتأكد متى كانت آخر مرة حصل فيها هذا التفاعل. لا بد أن الأمر تم. وهذا ليس مما قمت به أنا بنفسي، ولكنه أمر ينتابنا شعور قوي بشأنه."
سياسة كارثية
تتمثل كارثية سياسة بريطانيا تجاه تونس، بدءاً من الوزير المسؤول، اللورد طارق أحمد من ويمبلدون، ونزولاً حتى سفيرة بريطانيا في تونس هيلين ونترتون، في أنها أصبحت سياسة باهتة.
يذكر أن اللورد أحمد هو أطول الوزراء خدمة في وزارة الخارجية، فقد خدم في حكومات دافيد كاميرون وتريزا ماي وليز تراس وبوريس جونسون والآن ريشي سوناك. وهو الوزير المكلف بكل من الهند والباكستان وإسرائيل ومصر وتونس، واختصاصه هو الحرية الدينية.
وهذا يجعله الشخص الأعلم بشؤون دائرته، وخاصة أنه خدم في حكومات خمسة من رؤساء الوزراء. وإذا كان هناك من يعرف ما الذي يجري في مصر وليبيا وتونس، فإنه اللورد أحمد، لأنه عاش الأحداث في كل هذه البلدان. ومع ذلك لا تجده يفعل شيئاً بما أوتي من علم.
إنه أشبه بسائق سيارة نام عند المقود. طالما أن بريطانيا والاتحاد الأوروبي يرفضان تسمية الانقلابات العسكرية بما هي في حقيقة الأمر، ويستمران في مساندة الطغاة المرتشين والفاسدين، فلا مفر من أن يزداد تدفق المهاجرين.
لأن فرنسا وبريطانيا وإسبانيا والبرتغال، وكما كانت تفعل عندما كانت قوى استعمارية، ما زالت اليوم تغذي نفس عوامل انعدام الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة، وهي العوامل التي تولد هذه الأمواج المتعاقبة من المهاجرين.
إن الجيش المصري هو السبب الأساسي في الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلد لأن معظم الاقتصاد في قبضته. بل إن القبضة العسكرية السوفياتية على الاقتصاد المتهالك في آخر عقود من الإمبراطورية السوفياتية تبدو بالمقارنة مع ما يجري في مصر لطيفة.
ومع ذلك تستمر فرنسا وبريطانيا وألمانيا في تمكين النظام العسكري الفاسد من خلال بيعه المزيد من السلاح.
وهي سياسة ينتهجونها عن قصد، وليست مجرد مصادفة. إذا كان زعماء الاتحاد الأوروبي يظنون أنهم ينقذون أوروبا من خلال ممارسة القوادة لصالح الطغاة، ومن أجل ذلك يدعون القوارب تغرق، فإن مفاجأة تنتظرهم.
ما نراه اليوم ليس إلا طلائع المهاجرين الذين سوف يتدفقون على أوروبا من مصر وتونس. ما زال هناك ملايين أخرى من المصريين والتونسيين والسودانيين والأفغان يخططون ويوفرون المال استعداداً للقيام بنفس الرحلة.