كنت أظنها كنوزا معرفية؛ منذ ثلث قرن أقوم بتجميعها وحملها على ظهري كلما
انتقلت من بيت إلى آخر ثم ترصيفها في كل رف وكل زاوية، فإذا امتلأت الزوايا حشرتها
في صناديق منتظرا أن أحقق حلم طفولة صارت الآن بعيدة؛ أن تكون مكتبة مثل ما رأيت
في صور بيوت الفلاسفة. وصلتُ إلى الحلم بعد أن تجاوزه الزمن؛ لا لأن تقنية النشر
الإلكتروني قد أغنت عن المكتبات فحسب، بل لأن ما ظننته كنزا ظهر لي الآن عبئا
ثقيلا لا يستحق ثمن الخشب الذي يحتويه.
ثلث قرن وعشرات الأعداد من مجلات ظننتها علمية ومن كتب ظننت كتّابها دعاة
حرية وديمقراطية؛ كتاب كانت أسماؤهم ترن في سمعي وأضعني دونهم لأقرأ بحماس المتعلم
وأنتمي لأمة
المفكرين. لقد نظرت في الأسماء فوجدت أغلبها يقف ضد الحرية ويناصر
الدبابات، وأظن أن عود كبريت يضعهم في حجمهم الذي أراهم الآن جديرين به.
مفكر قومي؟
إيش هذا؟ كم من اسم فكري صنعه مركز دراسات الوحدة العربية ومجلته المستقبل
العربي؟ وكم من بالون منفوخ في مجلة الوحدة تحت مسمى مفكر قومي؟ إن الأطروحات
الفكرية التي تخترع سبلا نضالية لتحرير فلسطين أكثر من عدد الفلسطينيين في الوطن
وفي المهاجر. كل تنظيرات المفكر القومي قبل الانتفاضة لم تكتشف قيمة المقلاع بيد
الطفل الفلسطيني، لكن لما اكتشف الطفل المقلاع تحول المفكر إلى شاعر، نفس هذا
المفكر الشاعر المنظر لتقنية المقلاع وقف مع الدبابة العربية ضد المقلاع بيد الطفل
العربي.
كانت مسرحية كبيرة دام عرضها طويلا.. بئر نفط تحت تصرف عسكري غبي يضخ
أموالا لأدعياء الفكر فيسوقون القطعان من أمثالي نحو معارك ورقية استنزفت الوقت
والجهد، وعند نهاية العسكري الغبي توقف النشر وتوقف الفكر ووقف المفكر الشاعر مع
الدبابة ضد الحرية.
هل ظلمتُ وجُرت في حق المفكرين؟ لست مطلعا على النوايا ولكني أقف على نتائج
مفزعة، لم تصنع منشورات الفكر القومي العربي مفكرا يُرجع إليه في الملمات ويُتخذ
نبراسا في السياسات العامة، كما يعود الفكر الغربي إلى فئة الموسوعيين وجيلهم من
بناة الأفكار الكبيرة الصالحة دوما كمراجع.
إن اسما كبيرا مثل محمد عابد الجابري صنعته الجامعة المغربية (وهي بؤرة
تفكير غير قومي) ونشر أعماله في مركز قومي قرّبه إلى الناس، لكنه لم يُضف إليه،
لقد أشهر به المركز نفسه وهي غنيمة تجارية لا فكرية. ويمكن أن أجد أمثلة أخرى.
مفكر يساري؟
إيش هذا كمان؟ الأسماء تتوالى؛ توطين الماركسية أو مركسة العرب أو بناء
نظرية ماركسية عربية. ملايين الجمل بألفاظ قليلة ومعنى وحيد، نضب معينها الملهم
بسقوط جدار برلين وانكشاف الخراب في السوفياتات أو الكولاغ السيبيري. تجار الكتاب
اللبناني وجدوا رزقا حسنا في بيع وهم يكتبه واهمون عن زواريب بيروت الغربية، لكن في
مقاهي بيروت الشرقية أو ما يشبهها في العواصم العربية.
أين نجد المفكرين الماركسيين العرب الأساتذة الكبار في التنظير، التقدميين
الوحيدين على الخريطة الرجعية والمالكين الحصريين للجامعات العربية؟ إنهم واقفون
الآن مع الدبابة العربية ضد الحريات؛ لأن مرحلة التنظير المريح منحتهم مواقع مريحة
فلما فتح باب الحريات رأوا مكاسبهم تذوي وتنظيراتهم تقع في الوحل؛ لا أحد أخذ
برأيهم في مسألة ولا مجد أسماءهم في الأسماء، فلم يبق لهم إلا رواتبهم ومواقعهم
التي تضمنها الآن الدبابة العربية.
من
تونس أتابع وقوفهم الذليل على عتبات قناة الجزيرة الرجعية من أجل ظهور
إشهاري ينفض الغبار عن أسمائهم، وعلى باب عزمي بشارة الذي يأكلون على مائدته
ويزايدون عليه في محبة وطنه لأنه كان ذات يوم نائبا بالكنيست. أما الوصول إلى
التدريس في جامعات السعودية فهدف يبذلون من أجله ما تبقى من ماء وجوههم. نهايات
حزينة لمن قسم العالم إلى تقدميين ورجعيين ووزع المواقع لينتهي خادما عند أعتى
الرجعيات حيث الحرية جريمة.
هل نحرق مكتباتنا؟
يبدو أن هناك من سبقني إلى هذا الموقف؛ لذلك بدأت أفهم سر إقبال الناس على
اقتناء كتب التراث ما قبل المفكر القومي العربي وما قبل اليساري العربي، وما قبل
الفقيه الوهابي (وهذه حفرة أخرى سنوليها مكانها).
هناك وقت بُذل في قراءة شخص مثل عبد الباري عطوان، أظن أن الاستغفار من ذلك
الهدر واجب ديني. إن حالتنا قابلة للعلاج إذ لم ننحدر إلى درك الإيمان بالكتاب
الأخضر. لذلك فإن ترتيب ما تبقى بعد عود الكبريت سيكون على قاعدة ظهور الكاتب في
معارك الحرية سابقا ولاحقا (إن بقي لنا جهد للقراءة).
كل مفكر أو أديب وقف مع الدبابة ضد الحرية وجب نفيه من الذاكرة ومن المكتبة،
وليس مفكرا ولا شاعرا ولا أديبا من ناصر الدبابة وبرر لها وسوق لقائدها كزعيم؛
لأنه ببساطة عقل غير سوي والقراءة له أو منحه أي اعتبار هي سوءة القارئ الذي لا
يريد أن يتحرر من الأسماء الوهمية المصنوعة في مخابر الدبابات وتلفازاتها.
ما تبقى من العمر سيكون للبحث عن الحرية في أي عقل متحرر. لقد منحنا الربيع
العربي فرصة غالية لنتحرر من المفكرين المزيفين وإعادة ترتيب المكتبة على قاعدة
نصرة الحرية عملية تبدو لنا ممتعة. يا لها من لذة أن ترى اسم مفكر قومي واسم مفكر
يساري يتلوى في النار والغلاف يصير رمادا.