لا ينفكّ ارتباط
الإصلاح بالفساد؛
فإذا تسرّب الفساد إلى مجتمع أو نظام حكم، ظهرت دعوات تنادي بإصلاح ما اعوجّ. وقد
وقع خلط بين مفهومين؛ مفهوم الإصلاح، ومفهوم
التجديد، فالمفهومان يُطرحان في إطار
إصلاح/ تجديد الخطاب الديني. ويشترك في الدعوة العلمانيون والإسلاميون، والمفكرون
والسياسيون على حد سواء، مع اختلاف رؤى كل منهم.
هذا الاشتراك في المطلب يستدعي البحث
في أوجه الخلاف المحتدم بين أطراف الدعوة، إذ الشَّرِكة تقتضي تَنَّحِّي الخلاف،
وهو غير حاصل، وأول البحث ينصرف إلى مراد صاحب الدعوة، وهو ما يتحقق بفهم كلامه؛
إذ "المعاني قوالب للألفاظ بالنَّظر للمتكلِّم، وأما بالنظر للسامع فينعكس
الأمر فتكون الألفاظ قوالب للمعاني" كما يقول شيخ الأزهر الراحل إبراهيم
البيجوري. ومن هنا تعيّن النظر في الألفاظ المستخدمة، وبيان دَلالتها.
الأصول
اللُّغوية للإصلاح والتجديد
تعبِّر الثقافة الغربية عما جرى على
يد مارتن لوثر وجون كالفن وغيرهما بكلمة "إصلاح" (reform)
بمعنى عملية الإصلاح لمؤسسة أو عُرف، والأصل اللاتيني للكلمة هو "مصلح"
(reformer)
أي إعادة التشكيل، فالمصطلح الأجنبي يشير إلى إعادة إصلاح انحراف حاصل.
ومعنى الكلمة باللغة العربية هو "الإصلاح"،
وهو ضد الإفساد كما في "مختار الصحاح" للرازي. والإفساد يعني تغييرا في
حقيقة الشيء، ويُعبِّر مسؤولو الأزهر الشريف في مصر، وعلى رأسهم شيخ الأزهر، عن
هذه المسألة بكلمة "التجديد"، وهي مشتقة من "جَدّ"، والجديد
نقيض الخَلِق، أي المتهالك.
الاجتهاد في السياق الحضاري الإسلامي مختلف في جوهره عن عملية الإصلاح التي جرت في أوروبا، وهو قائم على أن النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، فتجدد الوقائع واختلاف الأزمان والأماكن يوجب إعادة إعمال العقل في النص دون خروج عن القواعد التشريعية الكلية. ولم يَحتكر أحد، في السياق الإسلامي، تفسير النص، أو الاطّلاع عليه، بل كان الاطّلاع على النص متداوَلا بين عموم الأمة، وتوسَّع الناس في طلب الإسناد
إذاً هناك كلمتان قد تبدوان
متشابهتين، لكن الفارق بينهما ينحو بمراد كل منهما إلى وجهة مختلفة، فالإصلاح يعني
وجود دخيل على أصل شيء غيَّر من حقيقته وطبيعته وأصله، مما استلزم إزالة ما لَحِق
بالأصل من فساد واختلال واضطراب. أما التجديد فيشير إلى بقاء الشيء على حقيقته
وأصله، لكن أصابه البِلى مع طول الزمان، مما يستلزم تدعيم ما تهالك منه. والبِلى
المقصود في المسألة الدينية الإسلامية، جمود تفسير النص الديني في مسائل معاصرة.
الحاصل أن المتأثر بالغرب يستعمل لفظ
التجديد بمعنى الإصلاح، وآية التأثُّر أن هناك خطابا يدعو إلى رفض وجود واسطة
لتفسير النص الديني، باعتبار أنه يمكن لكل أحد أن يفسّره، وهو ما يتقاطع مع
الأفكار اللوثرية في تعاملها مع الإنجيل، كما تخرج دعوات لعدم الاعتداد بالنص
النبوي والاكتفاء بالنص القرآني، وأصحابها يسمُّون أنفسهم
بـ"القرآنيين"، ودعوات أخرى تدعو إلى رفض السلطان الديني على النص
القانوني باعتبار ذلك صورة تشبه هيمنة بابوات الكنيسة على الشأن العام.
في مقابل ذلك، فإن المتدينين ينظرون
إلى التجديد بأحد معنييْن: "أحدهما الاجتهاد، وهو في اصطلاح الأصوليين: بذل
الفقيه جهده العقلي في استنباط حكم شرعي من دليله، على وجه يَحُسُّ فيه العجز عن
المزيد، وثانيهما هو حديث المجدد، (..) إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة
سنة من يجدد لها دينها" (حسن الشافعي، قول في التجديد).
أوجُه
الخلاف بين المفهومين
إن الاجتهاد في السياق الحضاري
الإسلامي مختلف في جوهره عن عملية الإصلاح التي جرت في أوروبا، وهو قائم على أن
النصوص متناهية والوقائع غير متناهية، فتجدد الوقائع واختلاف الأزمان والأماكن
يوجب إعادة إعمال العقل في النص دون خروج عن القواعد التشريعية الكلية. ولم يَحتكر
أحد، في السياق الإسلامي، تفسير النص، أو الاطّلاع عليه، بل كان الاطّلاع على النص
متداوَلا بين عموم الأمة، وتوسَّع الناس في طلب الإسناد، سواء في النص القرآني أو
النبوي، ومن أراد أن يَلِجَ باب تفسير النص، فليس ثَمَّة مكان محدد ولا رتبة
كهنوتية محددة، بل مجرد استيفاء القواعد العلمية المتاح تعلُّمها في شتى البقاع،
ودون كُلفة مادية.
في المقابل يذكر المؤرخ الكنسيُّ غلن
صنشاي (Glenn
Sunshine) في كتابه "كواليس
الإصلاح": "كانت الكنيسة الكاثوليكية قد تمسكت لقرون بأنه يوجد مصدران
أساسيان من السلطة في الكنيسة: الكتاب المقدَّس والتقليد (..) في العصور الوسطى،
كان الكتاب المقدس متاحا فقط في الترجمة اللاتينية (..). التقليد أوسع جدا وأكثر
تعقيدا مما يبدو؛ هو مبني، جزئيا، على ملاحظة أن معظم ما قاله يسوع وما فعله لم
يسجَّل بالفعل في الأناجيل (..) وعلى وعد المسيح أن يُرسل الروح القدس ليرشدنا في
كل الحق".
ويضيف: "بالرغم من أن التقليد
كان يرتاح له معظم الكاثوليك، فإنه تسبب في المشكلات لبعض المصلحين داخل الكنيسة،
ولا سيما الإنسانيين الذين آمنوا بأن العديد من الممارسات كانت خرافات، والكثير من
الانتهاكات داخل الكنيسة تم تبريرها باستخدام التقليد الكنسي أو التقليد
المحلي".
كما أن هناك اختلافا آخر يتعلق بذُيوع
الحالة، ففي السياق الحضاري الإسلامي، لا نجد مؤسسة مركزية تزعم أنها الوحيدة
القائمة على نشر وتفسير النص الديني، مما يؤدي إلى انحراف عام في نشر وتفسير النص
إذا انحرفت هذه المؤسسة. وربما تكون فتنة خلق القرآن مثالا لتبيين هذا الفرق
الجوهري؛ إذ تَبَنَّى الخليفة رأيا دينيا وأراد أن يُعمِّمه على الأمة، فتحطَّمت
توجهات الخليفة وأنصار دعوته من العلماء والأدباء أمام رجل واحد فقط، هو الإمام
أحمد بن حنبل، فأعلى مؤسسة مركزية في الدولة لم تقدر على فرض رأي ديني في مسألة
واحدة، فكيف يمكن لأحد في هذا السياق الحضاري أن يحتكر الدين كله؟
كما لا يمكن، في زماننا، اعتبار
المؤسسات المركزية المتواجدة في كل قُطْر من الدول، مؤسسات مركزية لعموم المسلمين،
فهي مؤسسات قُطريَّة في أصلها، وإن استفاد منها مسلمون في بقاع أخرى. صحيح أن بعض
المؤسسات المركزية لها مكانة كبرى في شتى البقاع، ولها سلطان أكبر في تفسير النصوص
يفوق مكانة الأفراد، مثل الأزهر الشريف، لكنها -في النهاية- لا تحتكر تفسير النص
الديني، كما أن سلطان هذه المؤسسات مُكتسب من السلطات الحاكمة من جهة، ومن قبول
الناس لها كمؤسسة تصون عليهم دينهم من جهة أخرى. وقبول الناس هو الذي يرفع مكانة
مؤسسة أو يخفضها، وإلا لمَا حدث التفاوت في قبول المسلمين لهذه المؤسسات.
ثُم هناك اختلاف أخير، إذ تم قبول الدعوات
الإصلاحية في الغرب على المستوى السياسي، بعد حروب وصراعات استمرت لقرن تقريبا،
لكنها قُبلت في النهاية، في حين أن الدعوات الإصلاحية الأهلية غير الرسمية في
المنطقة تُقابَل بعنف أمني وصدام دولي. وتمكن ملاحظة التجربة المصرية بعد الثورة، فالتجربة
الديمقراطية تم سحقها، دون ممانعة دولية حقيقية توقف نزيف الدماء والقمع بعد
انقلاب صيف 2013.
لماذا
يُرفَض التجديد على قواعد التراث؟
تم قبول الدعوات الإصلاحية في الغرب على المستوى السياسي، بعد حروب وصراعات استمرت لقرن تقريبا، لكنها قُبلت في النهاية، في حين أن الدعوات الإصلاحية الأهلية غير الرسمية في المنطقة تُقابَل بعنف أمني وصدام دولي. وتمكن ملاحظة التجربة المصرية بعد الثورة، فالتجربة الديمقراطية تم سحقها، دون ممانعة دولية حقيقية توقف نزيف الدماء والقمع بعد انقلاب صيف 2013
هذه الاختلافات صنعت فروقا في
التجربتين الحضاريتين، من جهة المطالب ومن جهة النتائج، فدائما ما ترتبط العملية
الدينية في السياق الإسلامي بألفاظ، كالتجديد أو الإحياء، إذ تعمل الحركات التي
تواجه وضعا يحتاج إلى تقويم، عبر استهداف أوجه الخلل البادي في إقليم محدد، وليس
في كل البقاع الإسلامية، كما أن ارتباط الدين بالدولة ليس محل خلاف في الوجدان العام،
وحتى مع تنامي دعوات فصله في العقد الأخير تحديدا، تبقى هذه التوجهات غير ذات أثر
منصوص عليه في الدساتير.
وإذا نظرنا إلى المطالب فلا توجد دعوة
لها ثقلها من داخل الهيئات الدينية لفصل الدين عن الدولة بالمفهوم العَلماني، كما
لا نجد استجابة لدعوات تطالب باحتكار تفسير النص الديني داخل مؤسسة دينية رسمية أو
أهلية. ومن حيث النتائج، فإننا نجد عند قيام حركات تجديدية أو إحيائية أنه لا
يَنتِج عنها مذهب ديني جديد، ولا تأسيس لقواعد دينية تغيِّر شكل العلاقة بين الدين
والدولة، إذ تظل الدعوات الدينية لا تدعو إلى الفصل، مع ملاحظة مراعاة بعض الحركات
الإصلاحية لمفهوم التخصص الوظيفي الذي لا يعني الفصام بين الدين والسياسية.
كذلك تبدو هنا مفارقة في التوصيف، إذ
تعتبر العودة إلى الأصول المسيحية "إصلاحا" في النظر الغربي والعَلماني
العربي، وتعتبر العودة إلى الأصول الدينية الإسلامية لديهم "رجعية
وتخلفا"، وهذه المفارقة تنشأ -فيما يبدو- من النتائج المترتبة على الدعوة، لا
لأصلها، فأحد نواتج الدعوة المسيحية فصل الدين عن الشأن العام، لكن من نواتج
الدعوة الإسلامية للعودة إلى الأصول، انعدام ذلك الفصل، وهو ما يجافي الرغبة لدى
الغرب والعلمانيين العرب.
التحديث
وأثره على الحالة الدينية
إن بدء عمليات التحديث في المنطقة
العربية تزامن مع فترة حكم محمد علي في مصر أوائل القرن التاسع عشر، لكنها عمليات
سعت لاحتواء الحالة الدينية لا لإفساح المجال لها، وكان الدين أحد أهم عوامل
الاستقلال الأهلي، وفي تلك الفترة تصاعدت عمليات احتواء الاستقلال الأهلي عامة،
سواء عبر البدء في تقييد نظام الوقف، أو التحكّم في نظام التعليم الديني المنهجي
الحر، أو مأسسة الحركات الصوفية ودمجها في إطار نظام الدولة، فوُضعت القوانين
المقيّدة لهذه الشؤون بذريعة تنظيمها.
ثم دخلت الجوانب الثقافية المتأثرة
بالعَلمنة والنهضة الحضارية في أوروبا، عبر البَعثات العلمية العائدة منها إلى
بلداننا، ولما تولى العسكريون الحكم وقع الفصام بين الدولة والحركات الدينية التي
نشأت بعد انهيار الخلافة. والعسكريون بطبيعتهم متأثرون بأمرين؛ أولهما: التكوين
الذي لا يسمح بمخالفة توجههم، وثانيهما: أن الجيوش الحديثة نشأت بتدريب وتأسيس
غربييْن، كما فعل سليمان باشا الفرنساوي في مصر، وغلوب باشا في الأردن وغيرهما،
وهذا التأسيس لا يقوم بتدريس العلوم العسكرية البحتة، بل تمتزج معه الأفكار
والنظريات المؤسِّسَة لثقافة العلوم العسكرية، وهي علوم متداخلة مع العلوم الاجتماعية
التي تأتي بمنظور غربي لا يرضى بوجود للدين في الشأن العام.
كذلك فعلت
البعثات العلمية التي رجعت بعلوم متداخلة بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ويقول
في ذلك أستاذنا الراحل طارق البشري في كتابه "التجدد الحضاري": "ومن
هنا نلحظ أن النخب السياسية والاقتصادية التي تشكلت منها أجهزة الدولة والإدارة
الحديثة ومؤسسات السياسة والاقتصاد وأهل المهن المستجدة، غلب عليها طابع الاستهداء
بنظم الغرب في تشكيل المؤسسات دون ربط بين أهل الأمر وبين الأصول
المرجعية للفكر
الإسلامي (..) فظهرت هذه النظم نبتا وضعيا في الأساس غير مستند إلى مرجعية قائمة
تتبناها الكثرة الشعبية".
سيظل مسار الحركات الدينية مرهونا بأمرين؛ أولهما، مناخ الحرية في المجتمعات العربية والإسلامية، وثانيهما، رُشْد قيادة هذه الحركات وقدرتها على التعامل مع مناخ الاستبداد دون الانخراط في دعم النظم المستبدة. وهذا كان متاحا قبل انتكاسة ثورات الربيع العربي، ومع تربص القوى المعارضة للتغيير وسوء أداء التنظيمات الدينية حصل الإخفاق
ثم نشأ عن وجود العسكريين تصاعد القمع
في المنطقة، فنشأت مفاهيم متأثرة عكسيا بثقافة العنف الوطني، فبدأت تتشكل الحركات
المسلحة، واللافت أنها عندما بدأت في مصر، فإنها نشأت من بين ضباط انشقوا على
النظام السياسي، مثل طلاب تنظيم الفنية العسكرية، وعملية اغتيال السادات، وغيرها
من العمليات التي امتدت حتى هشام عشماوي، فدخلت المنطقة في دوامة العنف عبر
المؤسسات العسكرية من جهتين؛ جهة الحكومات، وجهة التنظيمات الدينية المسلحة،
وتبعهم بطبيعة الحال خَلْقٌ من غير العسكريين، لكن القيادة والتدريب كانا، في
الأغلب، على يد العسكريين السابقين.
إن الإشكال الذي وقع عندنا، نشأ من
هذا الخلط بين مفاهيم مثل الإصلاح والتجديد، والموروث والوافد، وبينما كانت عملية
الإصلاح منهضمة في السياق الحضاري الأوروبي، فإن الخلط الثقافي الذي نشأ لدينا كان
أحد عقبات التجديد، ولما انتقلت القيادة من المدنيين إلى العسكريين، زاد هذا
الإشكال وتعقَّد.
واتصالا بذات السياق، سيظل
مسار الحركات الدينية مرهونا بأمرين؛ أولهما، مناخ الحرية في المجتمعات العربية
والإسلامية، وثانيهما، رُشْد قيادة هذه الحركات وقدرتها على التعامل مع مناخ
الاستبداد دون الانخراط في دعم النظم المستبدة. وهذا كان متاحا قبل انتكاسة ثورات
الربيع العربي، ومع تربص القوى المعارضة للتغيير وسوء أداء التنظيمات الدينية حصل
الإخفاق، ويبقى السبيل مرهونا برشد الحركات الدينية في مسار إصلاح مجتمعاتها، إذ
لا يُتوقَّع من المستبد أن يتراجع طواعية، كما لا ينبغي لمن رامَ أمرا أن ينتظر
حصوله من غيره، فالطلب يحتاج إلى سعي ومدافعة.
إن الواجب الأساسي
للحركات الدينية الإصلاحية هو رفع الوعي الديني في المجتمع، بما يشمله ذلك من
مجافاة الظلم، والتزام الأمانة، وغير ذلك من القيم الاجتماعية الأساسية، وهو ما
سيصب حتما في مسار الإصلاح الأخلاقي والسياسي من بعد.