تصادفت زيارتي لباريس هذا الأسبوع مع اندلاع
الحريق الخطير في أغلب مدن وقرى الجمهورية الفرنسية.. وتجاوزت حركات التمرد
الشبابي لكل المحاذير الأمنية والاستعدادات الاحتياطية التي رتب لها الرئيس ماكرون
منذ انتخابه للولاية الثانية (2017 الأولى و 2022 الثانية)، حيث كانت في المرتين
زعيمة اليمين العنصري المتطرف (مارين لوبان) هي التي بلغت الدور الثاني من
الانتخابات الرئاسية وناظرته قبيل الانتخابين بملفات الهجرة المسلمة إلى
فرنسا واستعملت
سلاح تخويف الفرنسيين العاديين من الإسلام.
وبالطبع كما توقعت شخصيا فالذي فاز بهامش
بسيط هو إيمانويل ماكرون بسبب خوف اللوبيات المالية الفرنسية من انقلاب مفاجئ وسريع
في القوانين.. ولكن أيضا بسبب انقسام ذلك اليمين العنصري إلى شقين (مارين لوبان وإيريك
زمور) مما جعل أصوات اليمين (وهي أغلبية بلا شك) تتوزع على مترشحين اثنين وتزيد من
فرص ماكرون.
واللافت للنظر أن ماكرون القادم من مؤسسة
(روتشيلد) المالية والأيديولوحية القوية ينحدر من يمين معتدل (في الظاهر) وانخرط
في السياسة بفضل ارتباطه بالزواج من مدرسته بالتعليم الثانوي السيدة (بريجيت أوزري
70 سنة) وهي سليلة أسرة بورجوازية صاحبة مصانع وطليقة أحد رجال الأعمال وأم وجدة...
ولا تخفي طموحاتها السياسية والذي وقع سنة
2022 أثناء الحملة الانتخابية هو خوف ماكرون الحقيقي والمبرر من انتصار السيدة
لوبان، وهو الذي يدرك أن المجتمع الفرنسي التقليدي أصابته تغييرات عميقة وأقنعته
أجهزة إعلام مؤثرة (بعضها ممول من الموساد مباشرة) بأن هوية فرنسا الكاتوليكية
مهددة بتفاقم التواجد المسلم خاصة بعد فشل كل الحكومات (يمينية واشتراكية) في
إيجاد حلول ناجعة للشباب الذي يتوافد على سوق الشغل ويظل عاطلا.
والحقيقة أن العنصرية ضد الجالية المسلمة
وهي فرنسية الجنسية بدأت تتجلى في قوانين (منع الحجاب) ثم منع ما يسمونه
(العباية.. وهي مجرد اللباس النسائي المستور) ثم إجبار الأطفال المسلمين في
المطاعم المدرسية على أكل لحم الخنزير!! إلى آخر مظاهر العنصرية البائسة حتى أصبحت
أسماء المترشحين للوظائف هي التي تفرز محمد وعلي وكمال وخديجة عن باسكال وروبير
وبريجيت!
إن ما يشبه حربا أهلية لا قدر الله تهدد المجتمع الفرنسي بأيام قادمة من المعضلات تستدعي في رأيي المتواضع اجتماع حكماء لا تضافر جهود مرتزقة اليمين العنصري قصد إشعال الحرائق في بلاد ذات تاريخ إنساني حضاري أوتنا لاجئين عشرات السنين وحمتنا حين لاحقتنا أنظمة استبدادية كنسها التاريخ نحو مزابله وعشنا في فرنسا مكرمين معززين.
وفي هذا المناخ الاجتماعي والسياسي المذبذب
وقعت حادثة قتل المراهق من أصول جزائرية مسلمة سنية (17 سنة) على أيدي شرطي مرور
دون أي حجة للدفاع الشرعي أو الخطر الداهم لمجرد أن ملامحه سمراء وشعره أسود مجعد
(الإعدام على السحنة لا غير).
وكانت هذه الجريمة متوجة لعديد عمليات القتل الممنهج
لأفارقة أو مسلمين منذ سنوات مما حدا هذه المرة بمنظمة الأمم المتحدة بإدانة ما
سمته (الانحرافات العنصرية للبوليس الفرنسي). وكان سلوك وزير الداخلية (دارماران)
شديد الغرابة بالنسبة لقيم الجمهورية حيث تفاخر بإغلاق حوالي 900 مسجدا وترحيل 300
إماما ومنع 200 جمعية خيرية إسلامية خلال عام فقط!! وكان تصريحه الأخير غريبا حين
قال أمام كيمرات الفضائيات: "إن عدونا الأساسي هو الإسلام السني...!"،
بل إن لجنة الأمم المتحدة المعنية بالقضاء على التمييز العنصري، شجبت في ديسمبر
2022، الخطاب العنصري للسياسيين الفرنسيين.
ولكي نفهم حقيقة قانون (منع علامات الانتماء
لدين) يكفي أن نلاحظ أن المستهدفين بهذا القانون هم جالية المسلمين في فرنسا دون
اليهود الذين يلبسون الكيبية التلمودية أو المسيحيين الذين يضعون صليبا على صدورهم.
وانفرد الشباب المسلم بهذا التمييز العنصري المكشوف وهم الذين استيقظ جيلهم الثالث
وتخرج من مدارس الجمهورية الفرنسية بقيمها العلمانية التي تحترم كل الأديان وأصروا
على ضرورة الاعتزاز بهويتهم وأراد شبابهم الاطلاع على أمجادهم الإسلامية مع الفخر
بأنهم فرنسيون بالجنسية.
لكن فرنسا الأنوار أي الحريات والحقوق
المعلنة في الإعلان العالمي للمساواة الذي انبثقت عنه ثورة 1789 الكبرى لكن
التاريخ جرى في اتجاه خطأ ليسجل فشل كل الحكومات الفرنسية في "إدماج"
الشباب المسلم في المجتمع لأن تلك الحكومات أخطأت بعزل الجاليات المسلمة والإفريقية
في أحياء سكنية "شعبية" لكنها لم تسمح بالتلاقح الثقافي بين مختلف
الجاليات بل عزلت الشباب المسلم في ما يشبه (الغيتوهات) أي المحتشدات المتركبة من
عمارات شاهقة بلا روح وبلا ثقافة أو تربية أو توعية أو ترفيه فنشأ الجيل الثالث
منقطعا عن المجتمع الفرنسي معزولا ومهمشا في الأخير.. وما حادثة قتل المراهق
الفرنسي المسلم سوى القشة التي قصمت ظهر بعير الحكومات الفرنسية العاجزة عن الحلول
العادلة والجذرية.
أنا شخصيا عشت في فرنسا 40 عاما وولد أولادي
هناك وارتادوا المدارس العمومية وحاولت بمجهود شخصي تعريفهم بأن لهم جذورا وأمجادا
ولغة ودينا ولم ينحرف منهم أحد نحو عنف أو إرهاب وأنا أعتبر ثقافتي من أنوار
فولتير وروسو ومنتسكيو وسارتر وكامو وريمون أرون ولكني أندد بفرنسا الأشرار التي
انحرفت نحو عنصرية شعبوية جهولة تناست أن جيشا من المسلمين من توس والجزائر والمغرب
والسينغال ومالي جمعه الجنرال (لوكلير) في أغسطس 1944 قدم من بلدانه لتحرير جنوب
فرنسا من الاحتلال النازي الألماني وتناست العنصرية أن جيل الرواد من المهاجرين
المسلمين هم من شيدوا المترو والجسور وخطوط سكك الحديد ومات منهم آلاف الضحايا
بردا في الثلوج وكذلك تناسوا آلاف الأطباء والمهندسين والكفاءات المسلمة العاملة اليوم
في فرنسا وأوروبا لتشارك في تقدم مجتمعها ورفاهيته وأمنه وسلامته!
إن ما يشبه حربا أهلية لا قدر الله تهدد
المجتمع الفرنسي بأيام قادمة من المعضلات تستدعي في
رأيي المتواضع اجتماع حكماء لا
تضافر جهود مرتزقة اليمين العنصري قصد إشعال الحرائق في بلاد ذات تاريخ إنساني
حضاري أوتنا لاجئين عشرات السنين وحمتنا حين لاحقتنا أنظمة استبدادية كنسها
التاريخ نحو مزابله وعشنا في فرنسا مكرمين معززين.