سلط
معهد واشنطن الضوء على انعكاسات تعيين هاكان
فيدان وزيرا للخارجية التركية، على
العلاقات مع
العراق، لا سيما الاقتصادية، بالنظر إلى شبكة العلاقات القوية التي نسجها فيدان مع المكونات العراقية المختلفة، خلال توليه القيادة السابقة للاستخبارات التركية.
وقال المعهد في تحليل له، إن فيدان نجح في توثيق علاقاته مع القيادات السياسية "السُنية والكردية"، كما أنه يرتبط بعلاقات جيدة مع رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، والتقى به في إحدى زيارته السرية للعراق في أيلول/ سبتمبر 2022، وهذا ما برز واضحاً في الدور الذي لعبه فيدان في بناء جسور التواصل خلال فترة تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
وفي ضوء الظروف الاقتصادية الداخلية الصعبة التي تمر بها
تركيا، فإن المعهد يعتقد أن مناورة فيدان الاقتصادية في العراق ستكون أحد المكونات الأساسية في سياسته الخارجية. علاوة على ذلك، فإنه سيشكل أيضا "مشروع
طريق التنمية" الذي اقترحه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وهو مشروع ضخم لبناء بنية تحتية للنقل تربط جنوب العراق بالحدود التركية وأوروبا، محور العلاقات الاقتصادية العراقية-التركية.
ويعتمد المشروع الذي تقدر تكلفته بنحو 17 مليار دولار، بشكل أساسي على التعاون العراقي مع تركيا، وهو ما يستدعي مستوىً عاليا من التنسيق بين البلدين، بما يشمل ربط شبكتي الطرق والسكك الحديدية بينهما والإشراف على العمليات المشتركة.
وشدد المعهد على أن فيدان سيكون لديه بعض النفوذ حين يتعلق الأمر بالمفاوضات المتعلقة بالمشروع، حيث من المتوقع أن تفرض تركيا اشتراطات أخرى تتعلق بالتهديد الأمني الذي يمثله حزب العمال الكردستاني، خاصة أن المشروع سيمتد عبر شمال العراق. ومن ثم، ومن خلال تحويل مناطق الصراع مع حزب العمال الكردستاني والفصائل الموالية مع إيران إلى مناطق تعاون اقتصادي، فستنجح تركيا في تحقيق عدة أهداف استراتيجية في آن واحد.
وتاليا نص تحليل معهد واشنطن:
بعد فوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات العامة التي أجريت في البلاد في أيار/ مايو الماضي، وفي ظل تعيين هاكان فيدان على رأس وزارة الخارجية، أصبحت السياسة الخارجية التركية في العراق لديها القدرة على التطور في اتجاه مختلف، فرغم التحولات المستمرة التي مر بها الدور التركي في العراق بعد عام 2003، أصبح الرئيس أردوغان هو المتحكم الرئيسي في عملية صنع القرار منذ عام 2017. علاوة على ذلك، فإنه يُشير تعيين أردوغان الأخير لفيدان - مدير المخابرات السابق والحليف المخلص لأردوغان - إلى استمرار هذا الوضع، لا سيما في ما يتعلق بالعراق.
خلال السنوات التي قاد فيها فيدان جهاز الاستخبارات، كان يشرف على قنوات التواصل الخلفية (الأكثر حساسية) مع مختلف الفاعلين الإقليميين والدوليين، كما أنه لعب دوراً بارزاً في صياغة الجوانب الأمنية والاستخباراتية. وترتيب المصالحات مع الخصوم، بما في ذلك مصر والمملكة العربية السعودية. علاوة على ذلك، فإنه كان له دور بارز في الصراع التركي مع "حزب العمال الكردستاني، وقد تمكن من ملاحقة واستهداف العديد من قيادات الحزب في شمال العراق، وتحديداً في مناطق سنجار ومخمور والكوير.
وفي هذا السياق، يتمتع فيدان بصلات قوية مع الدوائر البيروقراطية في العراق حيث نجح في مد جسور التواصل مع الفعاليات والهياكل العراقية المتنوعة. وعلى وجه الخصوص، فإن فيدان نجح في توثيق علاقاته مع القيادات السياسية "السُنية والكردية"، كما أنه يرتبط بعلاقات جيدة مع رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، والتقى به في إحدى زيارته السرية للعراق في أيلول/ سبتمبر 2022، وهذا ما برز واضحاً في الدور الذي لعبه فيدان في بناء جسور التواصل خلال فترة تشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني.
إن الخلفية الاستخبارية التي يتمتع بها فيدان، ومعرفته الجيدة بالشأن العراقي، ستجعل منه ورقة مهمة يتمكن من خلالها الرئيس أردوغان من إعادة التفكير في تدخل تركيا في عدد من القضايا المختلفة في العراق. ورغم أن تعيين فيدان كان قد شكل تحولا ملحوظا نحو سياسات أكثر تركيزًا على البعد الأمني بالنسبة لتركيا، إلا أنه سيتعين على الوزير الجديد أيضًا أن يوازن بين العلاقات السياسية لتركيا والمصالح الاقتصادية، وإعادة تطبيع العلاقات الطاقوية، والمخاوف البيئية، والعمليات العسكرية في العراق. في الواقع، يأمل أردوغان على الأرجح أن يتمكن فيدان من تنويع شبكات العلاقات التركية في العراق واستئناف مفاوضات الطاقة مع الشركاء الرئيسيين مع العمل على كبح التهديد الذي يشكله حزب العمال الكردستاني والمليشيات الموالية لإيران التي تنشط في المناطق التي تمثل نقاط تدخل لتركيا.
وبلا شك، فإن تلك المهمة ستكون شاقة بالنسبة لفيدان، إلا أن مشاركته في ملف العراق تتلخص أساسًا في هذه القضايا الرئيسية:
توسيع الانخراط السياسي-الأمني في شمال العراق
مقارنة بعلاقاتها مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني" في أربيل، كانت علاقة تركيا مع "الاتحاد الوطني الكردستاني" في السليمانية في شمال شرق العراق متوترة منذ فترة طويلة. وقد برز هذا الواقع في أعقاب هجوم الطائرات بدون طيار التركية في نيسان/ أبريل 2023 بالقرب من مطار السليمانية في معقل الاتحاد الوطني الكردستاني، والذي استهدف قافلة من القادة العسكريين تضمنت شخصيات بارزة في قوات سوريا الديمقراطية.
بعد الهجمات التي شهدها مطار السليمانية الدولي، قام نائب رئيس الاستخبارات الوطنية التركية، موتلو توكا، بزيارة السليمانية في محاولة واضحة لتهدئة الأوضاع مع الاتحاد الوطني الكردستاني. وقد شكلت تلك الزيارة تحولا رئيسيا في سياسة تركيا في شمال العراق، حيث بدأت تركيا على ما يبدو بإدراك ضرورة عدم حصر علاقاتها مع "الحزب الديمقراطي الكردستاني"، حيث أدى الفتور بالعلاقة التي تربط تركيا بـ"الاتحاد الوطني الكردستاني” إلى نتائج عكسية على أنقرة، أبرزها توجه الأول، الذي أصبح أكثر جراءة في مناوراته، لتوثيق علاقاته مع إيران.
تأمل تركيا في أن توازن العلاقات بين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني"، وهو "ما يمكن أن يكون بمثابة ثقلٍ موازنٍ لأنقرة حيال بغداد. ونتيجة لذلك، فإن هدف فيدان على المدى الطويل سيكون هو منع تدهور الوضع في إقليم كردستان العراق، ومواجهة تهديدات حزب العمال الكردستاني في شمال العراق من خلال دعم التنسيق والتعاون مع الاتحاد الوطني الكردستاني". ومع تعرض الحزب الديمقراطي الكردستاني لضغوطات متزايدة من جميع الجهات، خاصة بعد قرارات المحكمة الاتحادية، بعدم دستورية تمديد عمل برلمان إقليم كردستان العراق، فسيكون دور تركيا كوسيط وعامل استقرار في المنطقة الكردية في العراق أكثر أهمية من أي وقت مضى.
مواجهة تحدي الفصائل الموالية لإيران
إن اعتماد الاتحاد الوطني الكردستاني المتزايد على إيران ليس وحده ما يثير قلق تركيا، فهناك أيضا الفصائل والمليشيات الرئيسية التي تسيطر عليها إيران، وتحديداً "كتائب حزب الله وعصائب أهل الحق وكتائب سيد الشهداء وحشد الشبك وحركة بابليون" في مناطق سنجار وربيعة وسهل نينوى والحدود مع سوريا، والتي عرضت الوجود التركي لاستنزافات كبيرة، سواءً على مستوى الهجمات التي تتعرض لها القواعد التركية، وتحديداً قاعدة زليكان شمال شرقي مدينة الموصل، أو القنصلية التركية في مركز مدينة الموصل، وقد عرقلت العلاقات الوثيقة بين إيران وبين "وحدات مقاومة سنجار، الجهود التركية لإنهاء تهديدات حزب العمال الكردستاني عبر جبل قنديل".
ونتيجة لهذه المخاوف، وفي ضوء عجز الحكومة العراقية الواضح عن مواجهة هذه التهديدات، فإن تركيا عملت على توسيع عملياتها العسكرية في شمال العراق في مطلع عام 2020. وفي هذا الإطار، يمكن القول إنه مع وصول فيدان على رأس الخارجية التركية فقد نشهد مقاربة تركية جديدة للتعامل مع هذه المعضلة، وذلك عبر استمرار العمليات العسكرية والاستخبارية ضد حزب العمال الكردستاني، وتنشيط الدبلوماسية الأمنية عبر مزيد من الانخراط مع بعض اللاعبين العراقيين الذين يعرفهم فيدان جيدًا، علاوة على دخوله في تفاهمات أمنية موسعة مع هيئة الحشد الشعبي، وبالشكل الذي يستهدف محاولة تفكيك العلاقة بين الفصائل الموالية لإيران وحزب العمال الكردستاني.
ضبط المعادلة السياسية في الوسط "السُني"
نجحت تركيا خلال الفترة الماضية في الحفاظ على التوازنات "السُنية-السُنية"، ودفع القوى "السُنية" للدخول في تحالف واحد في مرحلة ما بعد الانتخابات المبكرة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، إذ نجحت تركيا وعبر لقاءات عدة برعاية فيدان عندما كان رئيساً للاستخبارات في إقناع كل من زعيم "تحالف عزم" يقيادة خميس الخنجر، و"حركة تقدم" برئاسة محمد الحلبوسي، إلى الاندماج ضمن "تحالف السيادة" أحد أطراف "ائتلاف إدارة الدولة".
وتخشى تركيا الآن من أن أي انشطار في الخارطة "السُنية" سيُضعف دورها في العراق مستقبلاً، لذلك، فهي تنظر بترقب كبير للتحولات السياسية التي تمر بها الخارطة "السُنية" في الوقت الحاضر، لا سيما محاولات إقالة الحلبوسي من رئاسة مجلس النواب، وبروز شخصيات خطرة مدعومة من قبل الإطار التنسيقي تسعى لأن تحل محل الحلبوسي في محاولة لاختراق الساحة السنية.
وعلى الرغم من أن الحلبوسي لا يعتبر حليفا مقربا لأنقرة، إلا أن استقالته ستؤدي إلى إرباك السياسة التركية في العراق، وبالتالي فإنها ستكون الجهود المبذولة للحفاظ على جبهة سنية موحدة محور تركيز فيدان الرئيسي في الفترة المقبلة. بالإضافة إلى ذلك، سيسعى فيدان أيضا قبل الانتخابات المحلية المزمع إجراؤها في كانون الأول/ ديسمبر 2023 إلى دعم هذه القوى السنية وتمكينها، إذ تنظر تركيا باهتمام كبير للاستثمار السياسي والاقتصادي في المحافظات "السُنية"، وهي رغبة لن تتمكن تركيا من تحقيقها بسهولة، دون وجود طرف سياسي عراقي يوفر لها هامش الدخول المريح لهذه المحافظات.
تأمين الزخم الاقتصادي
في ضوء الظروف الاقتصادية الداخلية الصعبة التي تمر بها تركيا، ستكون مناورة فيدان الاقتصادية في العراق أحد المكونات الأساسية في سياسته الخارجية. علاوة على ذلك، سيشكل أيضا "مشروع طريق التنمية" الذي اقترحه رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وهو مشروع ضخم لبناء بنية تحتية للنقل تربط جنوب العراق بالحدود التركية وأوروبا، محور العلاقات الاقتصادية العراقية التركية.
يعتمد المشروع الذي تقدر تكلفته بنحو 17 مليار دولار، بشكل أساسي على التعاون العراقي مع تركيا، وهو ما يستدعي مستوىً عاليا من التنسيق بين البلدين، بما يشمل ربط شبكتي الطرق والسكك الحديدية بينهما والإشراف على العمليات المشتركة. وعلى الرغم من إعلان أردوغان عن دعم تركيا للمشروع خلال لقائه بالسوداني في آذار/ مارس 2023، إلا أن فيدان سيكون لديه بعض النفوذ حين يتعلق الأمر بالمفاوضات المتعلقة بالمشروع، حيث من المتوقع أن تفرض تركيا اشتراطات أخرى تتعلق بالتهديد الأمني الذي يمثله حزب العمال الكردستاني، خاصة أن المشروع سيمتد عبر شمال العراق. ومن ثم، ومن خلال تحويل مناطق الصراع مع حزب العمال الكردستاني والفصائل الموالية مع إيران إلى مناطق تعاون اقتصادي، فإن تركيا ستنجح في تحقيق عدة أهداف استراتيجية في آن واحد.
ستتوفر لدى فيدان أيضًا فرصة لتعزيز المصالح الاقتصادية لتركيا من خلال ربط أي جهود لتنفيذ مشروع طريق التنمية بزيادة الصادرات التركية إلى العراق، وهو ما سيساعد تركيا على توسيع شبكة علاقاتها الاقتصادية في العراق وخارجه، إلى جانب سهولة الوصول إلى الأسواق في دول الخليج.
وفي ما يتعلق بموضوع الطاقة، فإن فيدان سيحاول الحصول على تنازلات واضحة من أربيل من أجل إعادة فتح خط الأنابيب "كركوك – جيهان" لتصدير النفط، الذي أغلقته منذ آذار/ مارس 2023، بعد النزاع النفطي على التصدير بين أربيل وبغداد، وقرار محكمة باريس التجارية الذي طالب تركيا بتقديم تعويضات للعراق، بلغت قيمتها 1.4 مليار دولار، بسبب تصديرها لنفط الإقليم دون إذن وزارة النفط العراقية. وتسبب إغلاق خط الأنابيب أيضا في انخفاض كبير في الصادرات النفطية العراقية، وهو ما سيدفع فيدان إلى محاولة استغلال هذا الواقع لاستئناف المفاوضات بشأن الشراكة الطاقوية بين العراق وتركيا.
وعلى الرغم من أنه سيتعين على فيدان أن يوازن بين مجموعة متنوعة من العلاقات خلال صياغته للسياسة الخارجية التركية في العراق، فإن تعيينه يشير إلى أن أردوغان يعتزم وضع المصالح الوطنية الأمنية والاقتصادية لتركيا في أولويات اهتمامه. بالطبع، ستواجه خريطة الطريق في العراق تحديات كبيرة لا سيما بالنظر إلى الطبيعة غير المتوقعة للمجال السياسي العراقي. لكن يبقى السؤال، هل ستتمكن سياسة فيدان في العراق من موازنة التطورات السياسية والاقتصادية والأمنية المتغيرة باستمرار، أم إنها ستتخلف عن الركب؟