الكتاب: حرائق في ثقافتنا السياسية -مع مقدمة : تدقيق جنائي في
الثقافة السياسية اللبنانية والعربية
الكاتب: جهاد الزين
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى
تموز/يوليو 2021، (342 صفحة من القطع الكبير).
نقد الثقافة السياسية الطائفية في لبنان
ينتقل الكاتب جهاد الزين إلى مستوى آخر من مستويات تجلّيات الثقافة
السياسية العربية، وما يعنيه هنا ما رآه، تلك النزعة الدائمة لتبرئة الذات في
الثقافة السياسية، كما رصدها في المجتمعات العربية. ولعلها نزعة ملازمة لمجتمعات
الدول الفاشلة أو المتخلفة. المجتمع اللبناني، الذي تشكّل من تجميع عناصر طائفية، كانت متجاورة ضمن أجزاء من ولايات في الإمبراطورية العثمانية، يصلح أن يكون عيّنة
على ثقافة سياسية شديدة الشيزوفرانيا، هي جزء من أوضاع متردية ولا تُواجه، بل
تتهربّ من الاعتراف بحقيقة مشاركتها كثقافة سياسية في تردّي الدولة، دولتِها، بل
شبه انهيارها.
يقول الكاتب جهاد الزين: "كُلّنا، كلبنانيين، نحمل في ثقافتنا
السياسية باسم قيم وهمية أو فعلية فيروسَ مفاهيم وممارسات الخروج على الدولة؛ باعتباره نمط حياة يبلغ دائما حد التواطؤ مع العدو الأول للدولة، وهو ليس
"إسرائيل"، بل الخروج على القانون سواء اتخذ هذا الخروج شكلَ الاختلاط
الاجتماعي من دون احتياطات في زمن الكورونا أو شكل تأييد وخدمة هيئات أمنية خارج
الدولة وضدها في العمق، وتجليات هذا النمط عديدة ومتكرّرة. الكثيرون جدا باسم
طائفيّاتهم عاملون في خدمة تلك الطفيليات الأقوى من الدولة.
والحقيقة لم نعد نعرف أو لم يعد لدينا معيار بسبب جائحة المليشيات
المتمادية الآتية من إرث خروج على القانون، أين هي العضويات وأين هي الطفيليات في
تركيب الدولة اللبنانية وفي حياة سياسية مانعة للتغيير. مليشيات مهما كانت
مواقعها داخل الهيكل الرسمي أو خارجه، الذهنية مليشياوية ولو لم تكن مليشيا. في
لحظة ما، وبسبب الانكشاف المريع للهشاشة هذا، بدا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون
في حدبه على الشأن اللبناني، خصوصا منذ انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020 أكثر
لبنانية من معظم السياسيين والمصرفيين اللبنانيين.
يتحدث اللبنانيون اليوم في معرض احتقارهم المتمادي والعاجز في آنٍ معا،
عن ضرورة التدقيق الجنائي في حسابات ومصاريف كل أجهزة الدولة، ولكن التدقيق
الجنائي السياسي الذي يحتاجونه هو في قراءة ماضيهم وحاضرهم من حيث مدى مسؤوليتهم
الجَماعية عن الضعف التاريخي للدولة اللبنانية، وهو تدقيق جنائي ذاتي أيضا، ولا
أريد أن أصبح مبشِّرا ساذجا ومهووسا، يمر عبر مسؤولية كل شخص بيننا.
إذا كان النظام السياسي اللبناني في أزمة، وهو كذلك، فإن تقاليد
علاقة اللبنانيين بدولتهم هي أيضا في أزمة، بل هي في قلب أزمة النظام، وهذا يضيف
على مأزق العجز عن التغيير المزيد من الصعوبة. ولا مجال هنا للإسهاب في مدى رسوخ
تقاليد الخروج على القانون في كل مناحي العلاقة الشعبية مع الدولة.
ماذا يقدّم المثال المصري والمثال اللبناني في السياق الذي عرضتُ؟
الأول يُظْهِر كيف تصبح سلطة مكرّسةٌ معزولةً عن الواقع، معزولةً حتى
عن واقعها نفسه، والثاني كيف يغترب مجتمع عن مسؤولياته؟ بهذا المعنى، فالثقافة
السياسية لنخبة أو جمهور تصبح أداة ابتعاد عن تحديد عناصر وضع ما، ومن ثم قدرتها
على حل مشاكله. هل يجوز لنا في الحالتين المعروضتين، المصرية واللبنانية، أن
نعدهما حالتي تخلف سياسي بالنتيجة حين لا يعود النظام السياسي نفسه قادرا على
تقديم معرفة كافية بنفسه للتقدم نحو الأمام؟ في هذه الحالة ألا تتناقض الحالة
السورية التي عرضنا مع هذا التقييم؟ فالنظام السياسي بين الرئيسين حافظ الأسد
وبشار الأسد أظهر معرفة بنفسه أثبتت قدرتها على الديمومة. ولكن هنا، ألا تتعارض
المعرفة الذاتية للنخبة الحاكمة بإمكانياتها السلطوية، مع عدم القدرة على تكريس
استقرار بناء للمجتمع الذي تديره؟
يصل الكاتب السياسي جهاد الزين إلى نتيجة مفادها: كلّما فكّرتُ
بالثقافة السياسية باعتبارها "كُلّا" متراكما وفعّالا، ظهرتْ على
شاشة تفكيري محرماتُها، وبدا لي أن الشرق الأوسط لا يمكنه إنتاج ثقافة سياسية بلا
محرّمات، ليس فقط دينية، بل متعددة المستويات، لا سيم،ا في ما يعنينا هنا، المحرمات
السياسية. هل من ثقافة سياسية بلا محرّمات؟ بل هل من ثقافة بلا محرّمات؟ طبعا لا، ولكن النطاق الذي يتيح مناقشة المحرّم أوسع أو أضيق بين ثقافة وأخرى، وهي فروقات
جوهرية وليس كمية. هذه أسئلة وأجوبة بديهية.
الأصولية السنية والشيعية ليست بيئة مبدعة ومحترمة في المجال الثقافي
المعاصر
في وقفة خاصة هنا عند البيئة الحارسة للمحرّمات الدينية؛ وهي رجال
الدين، من المثير للاهتمام أن تربية الدول "الجديدة" في المنطقة مع
توسيعها لجهاز الدولة، وسّعت أيضا الأجهزة التي يعمل من خلالها رجال الدين؛ وهذا
ضاعف قدرتهم على الضبط الرقابي للثقافة العامة في البلد المعني، ومن خلالها
الثقافة السياسية.
إلا أن المفارقة ليس هنا فقط، بل في كون هذه الأجهزة عموما بهيئاتها
المختلفة، هي أكثر البيئات ضحالة ثقافية معرفية وإبداعية، وبحيث تمتلئ بأنصاف
المتعلمين. طبعا لا يمكن عدم ذكر استثناءات عديدة، لكن التعميم هنا جائز؛ خصوصا كلما تشعّبت الامتدادات في القرى والأحياء الشعبية، وهذا بحد ذاته يطرح مسألة
الرقابة على التفكير العام ومبادراته المجهَضة حين تصل للنخبة المنتَجة باستمرار.
على أن بعض الدراسات السوسيولوجية التي رصدت انتشار وفعالية الفكر الإسلامي
الأصولي، لاحظت انسيابا ما سهلا في حركة حاملي هذا الفكر بين القنوات الخلفية
للمؤسسات الدينية، التي ليست دائما مصنّفة أصولية أو سلفية أو متطرفة.
تسعون عاما على تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر ولم يخرج من هذه الحركة شاعر أو ناقد أو رسام أو روائي واحد ذو قيمة معترف بها عربيا أو دوليا! حزب الله في لبنان جزء من هذه الضحالة الثقافية الأصولية وليس فيه على المستوى الثقافي أي ملمح حتى من الاستثناء الإيراني السينمائي رغم أنه سياسيا ودينيا وأيديولوجيا حزب كامل الولاء للنظام الإيراني.
يقول الكاتب السياسي جهاد الزين: كمتابع وككاتب وكقارئ خارج الفهم
العضوي للعلاقات الأصولية الإسلامية السنية والشيعية، أعترف بذلك؛ أن هذه الأصوليات، خصوصا بعد انفجار الثورة الإيرانية، باتت فكر وسيكولوجية جيل مختلف عن جيلي.
كنت أسائل نفسي أحيانا: هـل أنا أبالغ في ذلك؟ لأعود
وأتمسك بهذا الرأي من أن أي رجل دين في زاوية ريفية مهملة من العالم العربي
الإسلامي، يتمتع بسلطة ثقافية رقابية وزجرية، لا يملكها أي حاكم فرد لبلد بكامله، وقد
شهدنا منهم نماذج مختلفة. سلطة النص الديني لا تزال السلطة الأولى في مجتمعاتنا، وليس النص السياسي إذا وضعنا القشور جانبا. من الثابت أن الأحزاب الإسلامية
الأصولية العربية، لم تنتج اسما كبيرا واحدا في الأدب والمسرح والفنون منذ قرن إلى
اليوم، حتى في الأربعين عاما الأخيرة، وقد أصبحت الأصولية الشيعية حاضرة مع
الأصولية السنية، بمعزل عن تفاوت أشكال الحضور، لم نسمع اسما لبنانيا أو عراقيا أو
يمنيا، وهي بالتحديد أماكن نفوذ وانتشار الأصولية الشيعية، تحوّل إلى ظاهرة جدية
في الأدب والمسرح والفنون عموما.
ليست البيئة الأصولية السنية والشيعية العربية، رغم الدور الكبير الذي أدته وتؤديه عربيا وإقليميا مع كل الكوارث التفكيكية التي تنتج عن سياساتها على
شعوب ودول المنطقة، أيا تكن المبررات، بيئة مبدعة ومحترمة في المجال الثقافي
المعاصر. لديها ثقافتها، بل لديها عالمها الثقافي وقدرة أحيانا على الانتشار
الشعبي، لكنها في المجال الثقافي الحداثي المعترف به بين النخب العربية الليبرالية
واليسارية، هي بيئة ركيكة النتاجات، قوتها الخطيرة هي في القدرة على تحريك العامة من
الناس بأفكار غيبية ومتخلفة وساذجة.
تنمو الثقافة العميقة الإبداعية خارج البيئة الأصولية، وأقلامها في
السعودية خارج البيئة الأصولية، وهناك نتاج فائق الأهمية، منه ما نعرفه والكثير
مما لا نعرفه في الفن التشكيلي والشعر والرواية. أما في إيران، فعلينا الاعتراف أنه
وإن كان الفكر الديني لم ينتج منذ علي شريعتي ثم عبد الكريم سروش، وكلاهما منشقان
عن الفكر السائد أو تحوّلا إلى منشقين؛ الأول عن الفكر الأصولي، والثاني عن النظام
الديني الإيراني الأصولي، إلا أن هناك استثناء يؤكد القاعدة في إيران؛ هو السينما
الإيرانية التي رغم كل الضبط والرقابة والقمع الذي يمارسه النظام الديني، فقد احتلت
مكانة عالمية إبداعية لمخرجين معظمهم يعمل في إيران، ثم يخرج بعضهم لاحقا إلى
الرحاب العامرة التي يستقبلهم فيها النقاد الغربيون، وتُعرض أفلامهم في أهم
العواصم.
لا تفسير عندي للظاهرة السينمائية الإيرانية، إلا بأنها الاستثناء
الخصب الذي يؤكد القاعدة الضحلة للفقر الثقافي الهائل لدى التيارات الدينية
الأصولية، وهي في عمقها، بمعزل عن الاختلافات الفقهية السنية والشيعية، فقيرة
ومُثْبَتَةُ الفقر المريع ثقافيا.
نقد الضحالة الثقافية لحزب الله الأصولي
ماذا أكثر من الدليل المصري؟ تسعون عاما على تأسيس حركة الإخوان
المسلمين في مصر، ولم يخرج من هذه الحركة شاعر أو ناقد أو رسام أو روائي واحد ذو
قيمة معترف بها عربيا أو دوليا! حزب الله في لبنان جزء من هذه الضحالة الثقافية
الأصولية، وليس فيه على المستوى الثقافي أي ملمح حتى من الاستثناء الإيراني
السينمائي، رغم أنه سياسيا ودينيا وأيديولوجيا حزب كامل الولاء للنظام الإيراني.
يُقيم حزب الله في القرى والضواحي والأحياء التي يسيطر عليها في لبنان نظاما
ثقافيا كاملا. المظاهر والشعارات والأفكار والطقوس. إنه نظام لا ثقافي سمج من حيث
انغلاقيته وتكراريته، وحتى هرطقاته الأكثر انغلاقا من الطقوس التقليدية، التي تحولت
في الواقع إلى تقاليد شعبية بسبب تأثير المدرسة الأصولية الإيرانية. لا أقف هنا
ولا يمكن أن أقف ضد حق تيار شعبي في التعبير عن نفسه، ولكني من دون تردّد
أدين السيطرة المطلقة الممارسة في القرى والضواحي والأحياء التي تمنع حرية التعبير
الثقافي، المكبّلة بمحرمات مُحيطة لأي تنوّع. هذا هو الجو نفسه الذي تمارسه
التيارات السلفية السنية حين تسيطر على منطقة ما.
بهذا المعنى الثقافي، كل أصولية دينية هي داعشية. هناك سماجة ثقافية
ينبني عليها نظام حكم، أزعم أنني هنا "أفصل" السياسي عن الثقافي في تقييم
هذه الظاهرة، وإن كانا مترابطين طبعا. ما أنا بصدده هنا، هو النظام التلقيني المحمي
والمتكرر الذي يحوّل الحياة في المناطق إلى نوع من العسكرة الطقوسية للمجتمع. هذه
هي السماجة الثقافية، وهذا نوع خاص من السلبطة التي تخنق الأوكسيجين الثقافي في أي
بيئة. لن يخرج حزب الله عن هذا القانون العام الذي حكم كل التيارات الأصولية
الإسلامية سنة وشيعة.
فحتى في ذروة نجاحه السـلطوي والسياسي والأمني والشعبي، بعد
العام 1990 والمقاومتي لإسرائيل حتى عام 2000، هو مثل كل الأصوليات حزب ضحل في
الثقافة الإبداعية "الإخوان المسلمون"، أقول للتكرار، أينما وجدوا، وهم
النسخة الأصولية الأم للأصولية الشيعية، لم ينتجوا قصيدة واحدة أو مسرحية أو رواية
تقليدية أو تجديدية في الصف الأول من الثقافة الإبداعية. حتى اليوم، لا زال من هم
يساريون وشيوعيون حاليون وسابقون، قوميون وبعثيون سابقون، ليبراليون جدد أو قدماء
تقليديون و"مستغربون" فرنكوفون وأنغلوفون، ينتجون ثقافة الصف الأول بين
الشيعة والسنة، فكيف بين الطوائف اللبنانية الأخرى من مسيحيين ودروز، حيث يستحيل
للأصولية الإسلامية الاختراق.
الضحالة الثقافية البنيوية من جهة، والقوة الاكتساحية الأمنية
والسلطوية والشعبية من جهة ثانية، ستجعلانا نعيش مع مفارقة لا حل لها بالنسبة لحزب
أصولي، هي مفارقة الهامشية الثقافية، حتى عندما يستعير يساريين سابقين بهرتهم تجربة
مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
اقرأ أيضا: لماذا يطلق الغرب مصطلح "الشرق الأوسط" على العالم العربي؟