حرفان بسيطان تماما لام وألف، عابران، يبدوان للوهلة الأولى بريئين، فاقدي أي تحيز، بل هما دارجان للغاية، إذ إنهما إن عُكسا، شكلا معا «ال» التعريف، التي تكاد تصاحب كل الكلمات في شتى الجمل، من أتفهها وأقلها وزنا إلى أكثرها عمقا، إلا أنهما بهذا الترتيب؛ (لا)، قد يصبحان ثقيلين على اللسان، وثقيلين بالتأكيد على مسامع ونفس الطغاة وأجهزة الأمن في الأنظمة الاستبدادية. بهذا الترتيب إذن، كثيرا ما يثيران الخلاف والشقاق، وقد يصل الأمر إلى الصراع والتناحر، وقد يدفع المرء ثمنا باهظا من كرامته وحريته، وفي أحيانٍ كثيرة حياته.
يقينا، نعلم أن النظام
المصري في طبعته «
السيسية» لا يتحملها على الإطلاق؛ إن مجرد الجهر بهذه الكلمة داخل مصر بمنزلة الإقدام على الانتحار؛ فالمعارضة الشفوية البحتة، منبتة الصلة بأي فعلٍ يعدو مجرد الوقوف في ركنٍ ما، ورفع اليد فوق الرأس مع عبوسٍ باهت، تعبيرا عن الرفض، أو حتى مجرد الامتعاض أو الجأر بالشكوى، بغض النظر عما إذا حملت هذه اليد لافتة، أو علما، كل ذلك كان كفيلا، ولم يزل، بالزج بآلاف في السجون، والكثيرون لم يخرجوا منها حتى الآن، وإن فعلوا فليس إلا ليعاد «تدويرهم» على ذمة قضايا أخرى؛ يجب التذكير بأن البعض لم يقم من مكانه ليقول «لا» ولم يلزم الأمر أكثر من كلمتين أو ثلاث كلمات أطلقها على أحد وسائل التواصل الاجتماعي، وارتُئي أنها كسرت سقف المسموح به حتى يلحق به المصير نفسه.
في هذا السياق، يتحتم التأكيد أن هذا «السقف» منخفضٌ للغاية، غير واضح المحاذير، تناطحه قامة المواطن المستقر جدا، الحريص على تربية العيال، الملتزم بالتمسح بالحائط لا مجرد المشي إلى جانبه، بل منخفض حتى بالنسبة لمن يصح وصفه بالرعديد. أما الأمثلة، فهي عديدة ومتكررة، ومأساة مساجين الرأي المعارض في مصر مستمرة لم تنقطع يوماً ولا ساعةً ولا أقل من ذلك، إلا أن جديدا يطرأ بين الفينة والأخرى فيعيد الموضوع إلى السطح، بعد أن تغيض تحت موج الغلاء والخراب الاقتصادي العاجل الذي يميز الشِدة «السيسية»، وربما لن يتعجب أحد إذ أكتب أن صورة ومأساة الراحل إيمان البحر درويش هي ما أعاد موضوع السجناء ساخنا لمجال الكتابة والتداول، وقصته باتت معروفة وتفاصيلها أو خطوطها العريضة بسيطة: اعترض على أداء النظام وتهديداتٍ وصلته، فسُجن ونُكّل به، حتى ساءت حالته الصحية، وثمة أخبار تفيد بأنه حينذاك أودع مصحة للأمراض النفسية، فأضرب عن الطعام حتى وصلت به الحال إلى الصورة التي نشرتها ابنته، وسط تجاهل من زملائه ونقابته، التي قال نقيبها في صفاقةٍ عجيبة؛ إن سبب عدم التواصل هو عدم توفر رقم هاتف إيمان لديه. الخطوط العريضة بسيطة كما أسلفت، إلا أن الله وحده وباقي السجناء يعلمون كم المعاناة التي تُفعم كل دقيقة وكل ليلة تمر عليهم في تلك المحابس، التي يصل بعضها لأن يكون لحدا، حسب إفاداتٍ وروايات ثقاة.
ليس إيمان رحمه الله بالوحيد الذي تعرض لهذا التعذيب، ولست أذكره لاحترامي لموقفه وارتباطه بفترة التكوين في شبابي بصورةٍ ما، ولا لتقديري المتزايد لتراث جده، كلما زادت معرفتي بالموسيقى العربية، بل لأنه من نعرف، هو في نهاية المطاف وجهٌ معروف للعامة (بالطبع أعني ما كانه، فهذه الصورة الأخيرة على سرير احتضاره لشخص لا نعرفه، لحطام بشري بائس)، ومن هنا نطرح السؤال الذي كثيرا ما كررناه: ما بال المجهولين؟ أولئك الذين لا يعلم بهم أحد سوى ذويهم ودائرتهم الضيقة؟ من لا تقوم الدنيا لحبسهم ولا لموتهم؟ من لا أسامي لهم ولا وجوه؟
في ضوء تجربة السنين العجاف في عهد السيسي المنكوب، نستطيع إجمال بعض السمات وأعتذر مقدما إن فاتتني إحداها:
1 ـ لقد كان الاعتقال ومصادرة المجال العام سمةً أصيلة، مصاحبة بل مؤسسة لنظام يوليو، على تعاقب العقود وتغير رأس السلطة؛ الاختلاف كان دائما وأبدا في الدرجة لا في المبدأ، ولعل الفارق الحقيقي كان في وضع المجتمع، من حيث درجة التنظيم والوعي والسخونة، ومن ثم الجهوزية للحراك والنزول للشارع، ولعل المجال هنا لا يتسع للاستفاضة، لذا تكفينا الإشارة إلى الفارق بين مجتمع الستينيات والسبعينيات المشحون من قبل النظام، الذي لم يزل لتنظيمات اليسار التي تحترف الثورة وجود ما فيه، وسط ظرف عالمي يعيش حالة قريبة العهد من التمرد (فالكل تقريبا كان يتظاهر في 1968)، والمجند أبناؤه في الجيش من أجل حرب «تزيل آثار العدوان» وبين المجتمع، الذي ورثه واعتلاه السيسي، الذي أرهقه الفقر ونهشه جراء سياسات النيوليبرالية والمجرف سياسيا، بصورةٍ شبه تامة في ظل حضور متواطئ للعديد من تيارات وروافد اليمين الديني، الذي صبغ المجتمع بهيمنته الفكرية.
2 ـ حقبة السيسي هي الأكثر إفلاسا؛ عقب تورطه في مشاريع عديمة الجدوى أو شحيحتها، وما صاحب ذلك من إسرافٍ سفيه في الاقتراض والإنفاق، سحقت كاهل الدولة، كما أنه خاتمة المطاف من انكسار معادلة أو صيغة الخدمات، مقابل الصمت والتفويض شبه التام، التي أرساها عبدالناصر، التي لم تكف عن الاختلال في اتجاه رداءة الخدمة المقدمة والانسحاب التدريجي من دور الدولة في تقديمها، في الصحة والتعليم، إلخ، حتى وصلنا إلى السيسي الذي يريد ويطالب، بل يصر على الصمت التام، دون تقديم أي شيء في المقابل سوى التخويف من سلبيات،؛ كفقدان الاستقرار ومصير سوريا والعراق، إلخ. باختصار، ليس لدى السيسي ما يقدمه لرشوة الناس فيستعيض عن ذلك بالقمع إن فتحوا أفواههم.
3 ـ لا يعدم نظام السيسي العطاء والجود والكرم، بل على العكس من ذلك تماما، فهو يختلق التهم ويلفقها ويوزعها بجود قل نظيره، ويقينا لا سابقة له في الأعداد والمحكوميات، ونوعية التهم كالاتجار في الأعضاء، وتسهيل دعارة الأطفال وغيرها، كما أنه ذهب بعيدا في التفنن والابتكار في كيفية تعذيب الناس نفسيا؛ إذ يتصورون الخلاص عن طريق الإفراجات المؤقتة للغاية، ثم ما يلبث أن يعيد تدويرهم عن طريق دلو من القاذورات يلفقها لهم.
4 – لا يعدم نظام السيسي الثوابت والضمانات، كما يزعم الحاقدون والمغرضون، فأنت تستطيع أن تضمن، بمنتهى الثقة ودرجة شبه مطلقة من اليقين، أنك ستدخل المعتقل إن جاهرت بالنقد والاعتراض، وتجاوزت السقف المسموح والخط الأحمر، ذلك الذي اتفقنا أن أحدا لا يعرف مكانا محددا له؛ في مصر السيسي لا تستطيع ضمان الأكل أو الكساء أو التعليم أو العلاج أو الدفن، أو أي شيءٍ آخر من شأنه أن يبقيك في مصاف الآدميين أو»الإنسان العاقل»، لكنك تستطيع ضمان الحبس إن عارضته؛ أما إن سرقت أو اختلست أو دخلت في أي قضية جنائية (حتى القتل ما دمت صاحب شركة مقاولات كبيرة)، فبظروفها ويقينا لن تكون ظروف اعتقالك بهذه القسوة، وستحظى بمحاكمة، وقد تجد من ترشيه، وقد تخرج لتتفلسف علينا ناعتا إيانا بالمرضى النفسيين، ومن يدري فقد تصبح وزيرا.
5 – كلما نسي الناس أو تناسوا مدى قبح ذلك الشرط الوجودي والسيف المعلق فوق رؤوسهم، أي الحبس والاعتقال، يسارع النظام بتذكيرهم عن طريق ضرب الأمثلة، كما حدث مع إيمان رحمه الله، وإن لم يكن عن طريق العمد.
6 – أطالب كل من يعارض أو ينتوي
المعارضة، أن يمارس الرياضة العنيفة قبل دخوله السجن، فلا تدخل السجن إلا إذا كنت ملاكما أو مصارعا، فربما حين ذاك تخرج شخصا فيه بقية من صحة، دون مضاعفات أي مرض، أما البديل، فإنك إن لم تكن شابا خاليا من أي داء، ومع جريمة منع العلاج التي يتبعها النظام بشكلٍ ممنهج، فإنك ستخرج حطاما بشريا.
مرةً أخرى يردفنا النظام المصري بدليل صارخ دامغ على بشاعته وجرائمه، وسيلة إيضاح من اللحم الحي (أو ما تبقى منه) ثمن كلمة (لا)، وليت ذلك يسكت ويسقط تلك الأسطورة؛ النداء السخيف بالعودة والمعارضة من الداخل، فالمعارضون والناس، بصفة عامة، ليسوا حمقى، وعلى الأقل ليسوا على هذه الدرجة من السذاجة والعبط.
حريٌّ بمن ينتظمون صفا في ما يسمى بـ«الحوار الوطني» أن يعيد الشرفاء منهم والمخدوعون حساباتهم في جدوى استجداء نظام كهذا، ومنحه ورقة التوت تلك. يجوز أن السيسي أصدر حكما بالعفو عن اثنين، باتريك زكي والمحامي محمد الباقر، إلا أن ذلك يأتي عقب فضيحة قتل إيمان، وفي ظرفٍ اقتصادي لا يزداد إلا سوءا وانقطاعاتٍ في الكهرباء في قبضة حر جهنمي، وإني لأزعم أن تدخل «الحِواريون» ذو تأثير محدود؛ ثم هذان اثنان، فما بال الباقين؟ لقد تفوق السيسي على سابقيه، ولعل اتساع من يشملهم الاعتقال مع بشاعة الممارسات وظروف الاعتقال هي منجزه الأقوى، أي تدمير البشر، قبل التفريط في الحقوق المائية والجزيرتين وتدمير الاقتصاد والقائمة تطول، ولئن ذهبت ابنة إيمان البحر درويش إلى أن التاريخ سيشهد بأن هذه ما آلت إليه حال أبيها، فإنا من ناحيتنا نؤكد أن التاريخ سيشهد أن السيسي أوصل الناس إلى درجةٍ يشبهون فيها الناجين (أو الهالكين) في معتقلات النازية.
وفي الختام أكرر السؤال المعذب: على بشاعة ما حل بإيمان، رحمه الله وصبر أهله، فهو شخصٌ واحد، معروف، فما بال المجهولين؟ من يبكيهم؟
(القدس العربي)