خلال أربع وعشرين ساعة من كتابة هذا المقال، من المُرجّح أنّ إسرائيل ستشهد الانقلاب الثاني منذ قيام الدولة العبرية العام 1948. الانقلاب الأوّل وقع خلال انتخابات جرت العام 1977، وشهدت صعود «الليكود» من موقع «اليمين» في الخارطة السياسية آنذاك، وتراجع حزب العمل، الذي أسّس الدولة.
كان ذلك الانقلاب يعني تراجعَ دور العلمانيين الغربيّين، لصالح «الليكود» الذي يمثّل العلمانية الشرقية والمتديّنة.
يكاد «العمل» يختفي عن الساحة السياسية، بما يعكس تراجع نسبة ودور اليهود الغربيين في المجتمع، وحيث يتقدّم المتديّنون الشرقيون نحو أن يشكّلوا الأغلبية في المجتمع.
يوازي هذا التحوّل، تحوّل في الخارطة السياسية، حيث تحظى الأحزاب الدينية الصهيونية المتطرّفة بمساحةٍ متزايدة في المجتمع، ودور أكثر تأثيراً على مستوى النخبة السياسية، وسلطة اتخاذ القرار.
الصراع اليوم في إسرائيل هو صراع على الهويّة وفق مؤشّرات، نحو المزيد من التراجع للصهيونية العلمانية، بما في ذلك المتطرّفة منها لصالح الصهيونية الدينية المتطرّفة، وقاعدتها الاجتماعية التي تتقدّم نحو أن تشكّل الأغلبية في المجتمع لتصبح إسرائيل دولة يهودية دينية.
هذا يعني أنّ مؤسسات «الدولة العميقة»، ستشهد تغيّرات مطردة، نحو الانسجام مع هذا التحوّل الذي سيشمل الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والاستخبارية.
ومع هذا التحوّل كان لا بدّ أن تتأثّر بنية الجيش، وأن يشهد خلخلة في صفوفه، من القاعدة إلى القمّة، كانعكاس لآلية التغيير المجتمعي والسياسي العام في الدولة.
تقديرات الكثير من المسؤولين والجنرالات السّابقين، وبعض المُداومين يحذّرون من أنّ ما تشهده إسرائيل هذه الأيّام، لم يمرّ عليها منذ خمسين عاماً. الأزمة التي شهدتها إسرائيل قبل خمسين عاماً بالضبط، قد وقعت عشيّة وخلال ما يُسمّونه «حرب الغفران»، أي «حرب أكتوبر» العام 1973.
حينذاك كانت تقديرات المستويات الاستخبارية تستبعد وقوع حرب مع العرب، ولذلك فإنّ المفاجأة كانت صاعقة، حيث شعر الكثير من المسؤولين بأنّ الدولة على كفّ عفريت.
ثمة هذه الأيّام شعور متزايد، بأنّ الأزمة التي تهزّ الكيان تنطوي على أبعاد وتأثيرات وجودية، فالدولة تغادر مربّع الانتماء للقيم الديمقراطية، والمجتمع يشهد تفكُّكاً وانقسامات واسعة، وأجهزة الدولة، بما في ذلك دُرّة التاج، الجيش، قد تسلّل إلى مفاصله الوهن، والانقسام، وصورة الدولة تتآكل على الصعيد الدولي.
بعض وربما الكثير من هؤلاء يُحذّرون من الانزلاق نحو الحرب الأهلية ونحو تصاعد العنف والتناقضات الاجتماعية والسياسية، وهروب للاستثمارات والكفاءات، وتصدّع الأوضاع الاقتصادية.
نتنياهو، ليس شخصية متهوّرة، وليس معروفاً عنه أنّه عفوي بالرغم من أنانيّته، وثقته الزائدة بنفسه.
ومع اقتراب موعد إجراء المناقشات بالقراءة الثانية والثالثة، لـقانون «
التعديلات القضائية»، تتّسع دائرة الاحتجاجات، ويتّسع معها المزيد من الإعلانات من قبل ضبّاط وجنود الاحتياط، لرفضهم الخدمة في حال تمّ اتخاذ قرار اعتماد «التعديلات القضائية».
الجيش يُجري تقييماً لأوضاعه، ومدى تأثّره بسبب إعلان آلاف ضبّاط وجنود الاحتياط رفض الالتزام بالخدمة، خصوصاً وأنّ آلافاً منهم ينتمون لقطاع الطيران الحربي، بكافّة مستوياته كطيّارين وفنّيين ومراقبين.. إلخ.
الضغوط الأمريكية والانتقادات «الغربية»، لحكومة نتنياهو بشأن «الانقلاب الديمقراطي»، لم تجد نفعاً، ولا تجدي نفعاً، التظاهرات والاحتجاجات والتمرُّدات التي تشهدها إسرائيل منذ بداية العام الحالي.
لا يستطيع نتنياهو التراجع عن هذه التعديلات القضائية ليس فقط لأسباب ذاتية تتعلّق بتبرئة نفسه من التهم التي يُتابعها القضاء وإنّما، أيضاً، لأنّ ائتلافه الحكومي، وربما، أيضاً، «الليكود»، قد يشهد تفكُّكاً، وتمرُّداً على نتنياهو.
لا يمكن لنتنياهو أن يُجازف، بالفرصة المتاحة له، والتي قد تكون الأخيرة في حياته السياسية إذا تسرّبت من بين أصابعه وفي الوقت ذاته لم يبقَ أمامه أي وقت للتفاوض حول حلول وسطية ترضي «المعارضة» بعد مرور كلّ هذا الوقت من المفاوضات الفاشلة.
أمام نتنياهو السيناريو الآتي: أن يذهب إلى قفل هذا الملف، عَبر إقراره من قبل الكنيست، ثم يتفرّغ لمعالجة تداعيات ذلك لاحقاً.
والسؤال هو: ماذا ستفعل «المعارضة» بعد إقرار القانون.. فإذا كانت الاحتجاجات تستهدف الضغط من أجل منع إقرار قانون «التغييرات القضائية»، فما هو الهدف من هذه الاحتجاجات بعد إقراره؟
هل ستنتقل «المعارضة» نحو تأجيج الصراع، وتنفيذ الخطوات التي أعلن عنها المحتجُّون، سواء على المستوى الاجتماعي والسياسي أو على المستوى العسكري والأمني؟
هل ستُعلن «المعارضة» العصيان المدني، وتتحمّل المسؤولية عن استمرار وتعميق الأزمة، وإضعاف الدولة، ومؤسّساتها العميقة، وعن ما ينتج عن ذلك من خسائر اقتصادية ومعنوية ودبلوماسية ستكون باهظة ومُرهقة للدولة بإدارتها الرسمية ومُعارضتها؟
هنا تدخل الخطوة اللّاحقة، التي يحتاجها والأرجح أن يلجأ إليها نتنياهو من أجل إعادة التماسك للجيش والأجهزة الأمنية، ودفع «المعارضة» في الزاوية الحرجة.
القصد هنا هو أن نتنياهو سيلجأ كالعادة، لاستدعاء خطر قومي كبير، يتجاوز حدود ارتكاب مجازر في الضفة الغربية، أو شنّ عدوان على قطاع غزة، فهذه وتلك، ليست كافيةً لتحقيق أهدافه.
يصبح في ضوء ذلك، أنّ إسرائيل قد تدخل في مغامرة عسكرية مع إيران، أو مع «حزب الله»، خاصة وأنّ نتنياهو يعرف تماماً أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لن تتخلّى عن إسرائيل بالرغم من عدم تفضيلها لهذا الخيار.
هذا يعني أنّ المنطقة بأكملها مُقبلة على انفجارٍ واسع وكبير ودموي، وسيشكّل ذلك جزءاً من الحرب العالمية الثالثة، التي لا يمكن لمنطقة الشرق الأوسط أن تكون خارجها، ولكن قبل الأوان، وفق الحسابات الأمريكية و»الغربية».
(
الأيام الفلسطينية)