في إطار رصدنا لسمات وملامح وخصائص
الجمهورية الجديدة المزعومة في
مصر، فإن الأمر يستحق منا الوقوف على جملة من السياسات والآليات وتشريحها بما يشكل
التعرف على هذه الجمهورية الجديدة التي مهد لها منذ أحداث الثلاثين من يونيو والتي
تجد كل ما يتعلق بأحوالها ومسارها ومسيرتها في استمرارية أساليب النظم المستبدة
والتي اتخذت منها طبعة خاصة فيما يتعلق بجمهورية "السيسي" الجديدة..
ومن
المهم في هذا المقام أن ندلل على واحدة من أهم تلك السياسات والآليات التي تتبعها
تلك المنظومة الاستبدادية والطغيانية، ولعل من تلك الآليات التي أشرنا إليها منذ
البداية في هذا المقام، هي اختطاف المؤسسات الكبرى والمفصلية والسلطات الأساسية في
الدولة والمجتمع؛ بحيث صارت تحت جناحها وملك يمينها، تقوم بما يُملي عليها من
سياسات ومن مواقف ومن خطاب في كل ما يتعلق بهذه المنظومة فتقوم بأدوارها تلك على
خدمتها وعلى تكريس سياساتها الطغيانية والاستبدادية.
هذا الاختطاف لتلك المؤسسات تم على مستويات متعددة؛ من أهم الآليات
التي اتخذت في هذا المقام هو اختطاف كثير من مساحات الخطاب التي يمكن أن تطلق من
أفراد أو مؤسسات في محاولة من منظومة السلطة الطغيانية بتوزيع الكلام، وكذا توزيع
السكوت، وهي في هذا تصنع مجتمع الصمت المطبق ومجتمع القطيع الهائم التابع، أما
مجتمع الصمت فهو المجتمع الذي يمارس مؤامرة صمت كبرى في هذا المقام إذ يمكن لهذه
الحالة الاستبدادية بصمته وسكوته المقيم، أما الأمر الذي يتعلق بسياسة القطيع فهو
الذي يكرس حالة من التبعية من جانب هؤلاء في ظل علاقات غير سوية تقوم على تكريس
علاقة السيد بالعبد، ومن هنا فإن هذا الأمر الخطير يمكن بدوره لتلك الآليات بما
ينتج ما يمكن تسميته توزيع الكلام وتوزيع السكوت وتوزيع الأدوار، ولعل ما حدانا
لأن نتوقف على ذلك الأمر بتلك الآليات إنما في حقيقة الأمر يتعلق بأحداث مرت على
مصر في الآونة الأخيرة ووجهت بجملة من المواقف والسياسات.
ومن هنا فإن دراسة الأمر الذي يتعلق بسياسات الصمت Silence policies إنما يعبر في حقيقة الأمر عن باب غاية في الأهمية في
السياسة ويرتبط
بسلطانها في تلك الأنماط المستبدة والمجتمعات الطغيانية التي تشكل قابليات
للاستبداد، والصمت من أعقد السلوكيات التي ترتبط بالإنسان، ومن أعقدها تحليلا
وتفسيرا، ومن هنا فإن هذا السلوك الذي تراه إنما يعود إلى تلك السياسات التي
يمارسها ذلك النظام الطغياني بفرض السكوت وتكميم الأفواه، هذا الأمر المعتمد في
سياسة المستبد يجعله يخاف من أي صوت يقوم بمخالفته، ومن ثم فهو يمارس حيالها قدرا
من القمع والقهر تفرض عليه قدرا واسعا من السكوت المقيم ومن الصمت المطبق ضمن
تكريس صمت القبور محاولا فرضها من كل طريق منها تشويه المخالف واغتياله اغتيالا
معنويا، ومنها ما يقومون به من تسفيه كلامه أو مواقفه أو النبش في ذاكرته تصيدا
وتربصا به، ولعل ذلك هو ما يجعل المستبد يدخل هذه المعركة بكل يملك من أسلحة بما
فيها أساليب غير أخلاقية في محاولة فرض هذا الأمر الذي يتعلق ب"مؤامرة
الصمت" على المجتمع.
إن كثيرا من الأحداث التي تحدث في الوطن وعلى امتداده إنما تثير هذا الأمر الذي يتعلق بتمرد الشعوب وانتفاضها، وهو يحاول أن يطوق ذلك التمرد أو الاحتجاج من خلال سياسات التعتيم على مثل هذه الأحداث وتغييب المعلومة التي ترتبط بها،
كذلك فإنه من السياسات التي قد تمارس هنا أو هناك ما يتعلق بالتعتيم،
والذي يشكل صناعة استبدادية تقوم على كتم المعلومات واحتكارها والسيطرة عليها حتى
لا تتسرب إلى الجموع فتقدم بذلك زادا في وعيها وزادا في غضبها، ومن ثم فإن كثيرا من
الأحداث التي تحدث في الوطن وعلى امتداده إنما تثير هذا الأمر الذي يتعلق بتمرد
الشعوب وانتفاضها، وهو يحاول أن يطوق ذلك التمرد أو الاحتجاج من خلال سياسات التعتيم على مثل هذه الأحداث
وتغييب المعلومة التي ترتبط بها، ومن ثم فإن هناك أحداثا كبرى رغم أنها تشكل
أحداثا تتعلق برأي عام واسع مرشح للانتشار يتعلق بجموع الناس وبالشأن العام، ولكن
كيف يمكن محاصرة هذا الأمر على أرض الواقع وكذلك تطويق التأثيرات التي قد يحدثها
في وعي الناس، ومن ثم تحرص هذه المنظومة على التحكم في عمليات الاتصال والمعلومات
ضمن التعمية والتعتيم.
النظم المستبدة إذن في حاجة إلى أجهزة تمارس هذا الأمر الذي يتعلق
بالتعتيم والتعويم والتعمية لهذه الأحداث بشكل أو بآخر حتى يمكن ـ كما أسميناه ـ محاصرة الحدث وفرض الصمت المجتمعي وكذلك
فرض حالة من اللامبالاة لمثل هذه الأحداث الكبرى التي يمكن أن تحدث فتؤثر على
الوعي العام أو ضمير الأمة، ولعل ذلك كله يرتبط بسياسات أخرى تترافق مع تلك
السياسات وهى التي تتعلق بعمليات الإلهاء التي تقوم بلفت الأنظار عن حدث خطير
ومفصلي من الواجب الاهتمام به إلى حدث جانبي هامشي تحاول تلك المنظومة أن تفرضه
وتصدره إلى الواجهة، على حساب الحدث الرئيسي الذي تحاول أن تدفعه إلى زوايا النسيان
والإغفال المتعمد في إطار مؤامرة الصمت التي تمارسها هذه المنظومة، ضمن عمليات
الإلهاء المبرمجة والممنهجة والقادرة من
خلال هذه الأجهزة المختلفة التي تمارسها أو تفرض مؤامرة الصمت الرهيب، كما يرتبط
الأمر بسياسات أخرى من مثل تزوير الحدث،
حيث يقوم النظام بفرض سرديته الخاصة لحدث معين ويحاول تمريرها بهذا الشكل في
محاولة لتزييف وعي الناس وفي محاولة لإثبات براءة الذمة وإخفاء كل ما يتعلق
بالمسائل الحقيقية والعوامل الدافعة إلى مثل هذا الحدث، هذا الأمر وجب علينا أن
نتوقف عنده بالتشريح والتحليل والبصر بعمق هذه السياسات التي تتعلق بتوزيع الأدوار
وتوزيع الكلام وتوزيع السكوت.
من خلال المقدمات السابقة يمكن أن ننظم بين تلك الأحداث الثلاث التي
رأيناها في الأيام الأخيرة أحدها يتعلق بالمشهد الانتخابي القادم
"الزائف"، والذي أصفه بالزيف قبل وقوعه من خلال تواتر عالم الأحداث في
نظمنا المستبدة، ومن خلال منظومات الجمهورية الجديدة المزعومة التي تمارس سياسات
الزيف ليل نهار، وتمارس سياسات فرض الصمت ومؤامرة الصمت على المجتمع في كل لحظة
وفي كل آن.
ومن هنا فإن هذا الأمر الذي يتعلق بالمشهد الانتخابي ومحاولة تدبيره
بشكل أو بأخر؛ وممارسة نفس الأدوار التي قام بها هؤلاء مرارا وتكرارا؛ نماذج
اخترعها هؤلاء حتى تكون الانتخابات في ثوب التعدد الزائف وهي في حقيقة الأمر تمثل
أقوى حالات الاستبداد والتفرد، ومن هنا فإن هذا الأمر الذي يتعلق بالانتخابات من
خلال تيار يحاول أن يشغل الناس من الآن بمسألة تتعلق الانتخابات المتوهمة وبنتائج
مزيفة وبأثار مزعومة مفعمة بالتزوير المتكرر للمشهد الانتخابي في أشكال مستجدة في
لتمريره في ثوب يزعمون أنه ديمقراطي وهو لا يمت بأي حال من الأحوال لا إلى
التعددية، ولا إلى الديمقراطية، ولا إلى الشفافية أو النزاهة التي بها يتشدقون.
المشهد الثاني وهو الذي يتمثل في هذه الأدوار المتعددة التي تقوم بها
شخصيات كرتونية في هذه المسرحية التي تتعلق بهذا الشعب، فها هو شخص يقوم بدور في
المشهد الانتخابي، دور "التيس المستعار" أو "المحلل" والذي
أجاده ذلك الكومبارس "حمدين صباحي" الذي بات يقوم بأدوار متعددة أخرى من
مثل التقاطه صورا إعلامية وإعلانية مع "بشار الجزار"، ممارسا دورا
موصولا وجديدا لتلك النظم الاستبدادية الملعونة بكل شكل من الأشكال ويسعى إلى
تبرير أمورها والقيام بنفس دور "التيس المستعار" أو المحلل الذي يمرر
عالم الاستبداد وسياساته وطغيانه ضمن مقولات محفوظة لدى هذا الشخص ومن لف لفه في
نفاق المستبد، وهي أمور يشارك فيها هؤلاء ضمن عملية تزييف الوعي وخيانة المواقف الواجبة في إطار عملية توزيع
أدوار يقومون بها في جمهورية جديدة مزعومة، ولك أن تعلم لماذا يستمر هؤلاء في
ممارسة هذا الدور، ولماذا يستمر المستبد في إقرار هؤلاء على أدوارهم، ولماذا تستمر
مقاصة المصالح الدنيئة بين النظام وبين من يسمون زورا بنخبة سياسية.
المشهد الأخير هو مشهد التعتيم على حدث خطير، ربما يؤشر على مسائل
مهمة داخل منظومة الثالث من يوليو وما تبعه من تطورات، أسفرت عن مقتل قيادات أمنية
ذات حيثية دون بيان أو معلومة أو اهتمام بإطلاع
الرأي العام على ما حدث فإن ذلك قد
يجّير الخبر إلى البعض الذين يرون أن هناك صراع الأجهزة داخل هذه المنظومة، حيث
يحدث اختلاف بين أجهزة القوة وكذلك هؤلاء الذين يمثلون قوى تصاعدت لديهم مظاهر
القوة، واختلافهم على المصالح بقدر أو بآخر، ولا تجد لها ضمن عمليات التعتيم أي
رواية أو سردية منطقية أو مقبولة؛ فيقوم النظام بكل ما من شأنه تطويق هذا الحدث
بسياسات إلهاء وسياسات إخفاء وسياسات تعمية وتعتيم، إنها منظومة الطغيان في
الجمهورية الجديدة حينما تمارس بأشكال متعددة وآليات متنوعة، كلها تصب في النهاية
في حمايتها، وحينما يحدث ذلك فإن الأمر ضمن قانون القوة والصراع فإنه يفرض حالة من
الفوضى وعدم الاستقرار الذي نراه من بعيد ليؤكد السنة الماضية أن الطغيان
إلى زوال لأنه يخالف أصول العمران.