وعادت
أفريقيا مجددا لعصر
الانقلابات العسكرية، كما كان وضعها قبل نصف قرن، وتعددت العواصم التي شهدت تحولات سياسية قام بها الجنرالات لإحداث تغييرات جوهرية في منظومة الحكم في تلك البلدان. ولكن الانقلاب الذي حدث مؤخرا في جمهورية
النيجر، أحدث حالة من السجال السياسي الواسع الذي لم يتضح بعد مدى واقعيته، فهل لهذه السجالات مصاديق حقيقية في ما حدث في عدد من بلدان القارة السوداء؟ أم إنه من «نسج خيال اليسار» الباحث عن فرصة للانقضاض على أمريكا ونفوذها الذي توسع كثيرا، خصوصا في العقود الثلاثة الأخيرة، كما يدّعي بعض المحللين الغربيين؟
في 26 تموز/يوليو الماضي حدث الانقلاب في بنيامي، عاصمة النيجر، الذي بدأ باعتقال الرئيس محمد بازوم وإعلان قائد الحرس الجمهوري، عبد الرحن تشياني نفسه قائدا للحكم العسكري الجديد. وقامت قوات الحرس الجمهورية بغلق حدود البلاد وأوقفت عمل مؤسسات الدولة وأعلنت حظر التجول. وهذا هو الانقلاب الخامس منذ استقلال البلاد عن فرنسا في العام 1960 والأول منذ العام 2010.
وقد سعى الجيش لمنع تداعي الأوضاع في البلاد والحد من إراقة الدماء، خصوصا أن الحرس الجمهوري استطاع بسط سيطرته على البلاد بعد الانقلاب، وهيمن على الأجهزة الأمنية والعسكرية.
وفي غضون يومين، أعلن الجيش دعمه للانقلاب الذي دعمته كل من بوركينا فاسو وغينيا ومالي، بينما لم تصدر مواقف دولية واضحة إزاءه. ويوما بعد آخر، بدا الجيل الشاب يعبر عن دعمه الانقلاب بعد أن اتضح له الدور الفرنسي في بلده، وبعد أن فشلت مجموعة إكواس (المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا) في تنفيذ تهديدها بالتدخل لإعادة الحكم السابق في غضون أسبوع. ويعود فشل التهديد بالتدخل العسكري لأمور عديدة: أولها عدم حماس الدول الأعضاء في إكواس لتوفير قوات مستعدة للتدخل، ثانيها: استحكام قبضة الانقلابيين على مقاليد الحكم في النيجر، ثالثا: الدعوات التي انطلقت من جهات عديدة ضد التدخل لمواجهة الانقلاب وإعادة الرئيس السابق، ومن بينها جماعة نصر الإسلام ورئيس مؤتمر الأساقفة الكاثوليك في نيجيريا.
مجموعة إيكواس شجبت الانقلاب، وهددت بالتدخل ضد الانقلابيين. وليس معلوما بعد مدى جدية المجموعة مستقبلا في تصديها للانقلاب، خصوصا أنه جاء في سياق عدد من الانقلابات من بينها انقلاب مالي في 2020 وغينيا في 2021 وبوركينا فاسو في 2022. فمنذ انتشار وباء كورونا ازدادت أوضاع البلدان الأفريقية ترديا، ومنذ العام 2020 حدث 11 محاولة انقلابية نجح منها أربع. وقد سبق التردّي الاقتصادي في أفريقيا، القارة الأغنى في العالم من حيث الثروات الطبيعية، تراجع اقتصادي يعود إلى خمسة عشر عاما على الأقل، أي منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في العام 2008.
ومن المؤكد أن الأوضاع الاقتصادية تؤدي عادة دورا في حدوث الانقلابات أو التوترات السياسية؛ فالربيع العربي سبقه تراجع اقتصادي في عدد من الدول العربية، من بينها تونس التي انطلقت منها شرارة تلك الثورات. ولذلك لا يمكن استبعاد البعد الاقتصادي عن الانقلابات العسكرية في القارة الأفريقية منذ العام 2020، عندما عصفت بالعالم أزمات اقتصادية أدت إلى موجة الغلاء الحالية. فقبل ذلك كان الحديث يدور عن حتمية «صعود أفريقي» اقتصادي، ولكن سرعان ما وجد عدد من الدول نفسه مضطرا للجوء لصندوق النقد الدولي لإنقاذه من أزماته الاقتصادية؛ فقد لجأت غانا إلى الصندوق لمساعدتها للوصول إلى برنامج اقتصادي يخفف من وطأة الأزمة. أما في النيجر، فقد تصاعدت ديون الحكومة من ستة مليارات في العام 2020 إلى أكثر من تسعة في العام 2023. ويشعر سياسيو العالم واقتصاديوه بهذه الأزمة التي لن تمر بدون تبعات سياسية، أصبحت الانقلابات من أوضح تجلياتها.
وفي الشهر الماضي، أشار الأمين العام للأمم المتحدة، أنطّونيو غوتيريش إلى أن أزمة الديون ستدمر مشاريع التنمية، وكان من نتائجها تقليص ميزانيات الصحة والتعليم في عدد من الدول الأفريقية. فمعدل الراتب الشهري للمدرّس في بلد غني نسبيا كالسنغال لا يتجاوز 150 دولارا.
مع ذلك، فهناك من يرى في الانقلابات العسكرية مؤشرا لنظام عالمي جديد، يتحقق فيه قدر من توازن القوى بعد أن أصبح العالم محكوما بقطب واحد. يرى هذا الفريق أن التغيرات التي تشهدها أفريقيا من تموجات الصحراء الكبرى إلى مياه نهر النيجر، تمثل روحا قوية تؤكد توجه العالم نحو التغيير، وتكتب تاريخا جديدا للعالم، وتصنع مستقبلا أكثر ازدهارا. وملخص هذه النظرة المتفائلة، أن عهد العمل الدولي الأحادي بدأ يأفل، وأن العالم على أعتاب قطبية متعددة تساهم في خلق عالم متكافئ بمستوى معيشي عادل.
أما البعد الآخر للانقلابات، فيتصل بالسجال حول الديمقراطية والحكم العسكري. فبينما يتظاهر الغربيون بحرصهم على الممارسة الديمقراطية، فإن تاريخهم المعاصر مع الانقلابات العسكرية لا يظهر حماسا واضحا للمشروع الديمقراطي، فقد تعايشوا مع الانقلابات العسكرية، ابتداء بالانقلاب الذي حدث في الجزائر في العام 1992 الذي أسقط الممارسة الديمقراطية التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ آنذاك بقيادة علي بلحاج وعباسي مدني. ولم يعترضوا بشكل مبدئي على الانقلاب العسكري في السودان في العام 1989 الذي قاده عمر البشير، وكذلك الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح البرهان في تشرين الأول/أكتوبر 2021. يومها أمر باعتقال كل القادة السياسيين والوزراء المدنيين في حكومة عبدالله حمدوك، واعتبر البرهان أن خطوته «كانت ضرورية لمنع انزلاق البلاد نحو الفوضى».
وتعامل الغربيون مع البرهان بطريقة طبيعية، خصوصا بعد أن التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو في أديس أبابا بعد أن انقلب على الحكومة المدنية، الأمر الذي يؤكد ازدواجية المعايير الغربية إزاء مقولات الديمقراطية والانقلاب العسكري. وهذا ما يحدث الآن في أفريقيا. البعض يرى في تلك الانقلابات تطورا طبيعيا يعيد التوازن للنظام العالمي، ويوفر لروسيا مجالا لمنافسة أمريكا في القارة الأفريقية، لتنتهي حقبة من العمل السياسي المنفرد الذي كانت أمريكا تمارسه. وثمة من يطرح أن الانقلابات العسكرية التي ترى أمريكا نفسها حائرة إزاءها، عمل تصحيحي ضروري لإعادة التوازن للمحاور السياسية الدولية. الغرب يرى نفسه هو الآخر في حيرة بين ما يدعي ترويجه من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، وما يمارسه من سعي للتعايش مع الواقع السياسي المحكوم بأنظمة غير ديمقراطية. وتمثل الانقلابات في أفريقيا هي الأخرى خطوات تصحيحية من وجهة نظر البعض، بعد أن سعت الدول الكبرى على مدى أكثر من نصف قرن لمعاملتها كبقرة حلوب. ولذلك عرض الانقلابيون في النيجر أنفسهم كحماة لمصالح بلدهم، في مقابل الجشع الفرنسي الطامع في خيراته، خصوصا في مجال المعادن وفي مقدمتها اليورانيوم. وتمثل عائدات اليورانيوم حوالي 30 بالمائة من صادرات النيجر، حيث يذهب أغلبه إلى فرنسا وقليل منه إلى الصين وإسبانيا واليابان. وحتى الآن، وجد الغربيون أنفسهم في حيرة إزاء الانقلاب؛ ففرنسا ترى نفسها مستهدفة من قبل قادة الانقلاب، بينما تسعى أمريكا لانتهاج سياسة توازن بين رفض الانقلاب العسكري وضمان مصالحها في القارة الأفريقية والحفاظ على قواتها في النيجر، التي يتجاوز عددها الألف. وقد شجب الانقلاب جهات عديدة بالإضافة لمنظومة إكواس، ومنها الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ولكن هذا الشجب لم يتجاوز الكلام، وبقي الانقلابيون في مكانهم يعيدون هيكلة الدولة وفق أجندتهم.
القدس العربي اللندنية