أثارت دعوات تحريضية مجهولة المصدر في
تركيا على قتل اللاجئين السوريين مقابل جوائز مالية ذعرا بين صفوف الجاليات العربية، وخاصة السورية التي يقيم معظم أفرادها تحت بند "الحماية المؤقتة". فيما أعلنت السلطات جنوب البلاد إلقاء القبض على فتاة أجنبية بتهمة التحريض "على نشر الكراهية".
والثلاثاء، أكد الرئيس التركي رجيب طيب أردوغان أن بلاده لن تسمح بالعنصرية والكراهية ضد الرعايا الأجانب بالانتشار في المجتمع. وشدد على أن تركيا "ترحب بضيوفها الذين يساهمون في الاقتصاد التركي".
وأردف: لن نترك عددا قليلا من الجهلاء يلطخون السجل النظيف لبلادنا التي كانت ملجأ للمضطهدين والمظلومين لعدة قرون.
يأتي ذلك وسط تصاعد غير مفهوم لحدة
العنصرية في تركيا خلال الآونة الأخيرة، وصلت إلى حد إطلاق دعوات للاعتداء على اللاجئين بشكل علني والتنكيل بهم واستهدافهم حد الموت. واتساع انتشار حوادث التضييق على
السياح العرب.
وتداول ناشطون سوريون في تركيا خلال الأيام القليلة الماضية صورا لما قيل إنه موقع إلكتروني على "الإنترنت المظلم" يضع مكافآت مالية مجزية لكل من يقتل لاجئا سوريا أو يحضر جزءا من جسده أو يتمكن من إلحاق الضرر به.
وأثارت الصور المتداولة ذعرا شديدا لدى السوريين من المستويات التي تظهر تفاقم ظاهرة العداء التي يقودها سياسيون معارضون ضد اللاجئين، فيما ذهب ناشطون وشخصيات تركية إلى تكذيب الخبر والمطالبة بعدم منحه أي اهتمام. لكن تحقيقات استقصائية قامت بها منصة "إيكاد" للتحقيقات كشفت عكس ذلك.
ونشرت منصة "إيكاد" عبر موقع "إكس" (تويتر سابقا) سلسلة تغريدات توثق مراحل تحقيق أجرته، تمكنت من خلاله من تأكيد تسجيل الموقع في تركيا عبر "الإنترنت المظلم" والوصول إلى هوية شابين تركيين أكدت "إيكاد" تورطهما بشكل أساسي في إنشاء الموقع الذي يدعو لقتل السوريين والتنكيل بهم.
وزعم التحقيق أن شابا تركيا يحمل اسم "Y.T.Y" وهو متخصص تكنولوجيا معلومات ويقيم في منطقة أوسكودار في إسطنبول، متورط في إنشاء الموقع الإلكتروني الداعي إلى قتل اللاجئين السوريين مقابل مكافأة مالية تمنح عبر العملات الرقمية مثل "بتكوين" للتحايل على أنظمة المراقبة، وضمان الحفاظ على سرية هوية مقدمي المكافآت والحاصلين عليها.
وبدأ التحقيق الذي أطلقته "إيكاد" من أول حساب شارك صورة الموقع على منصة "إكس"، والذي يدعى "قديروف"، ويقيم صاحبه في روسيا، كما يشير التصميم الذي شاركه في تغريدته إلى موقع إلكتروني تحت اسم "http://Darkwebtr.com ".
لكن الحساب العائد لمن يسمى "قديروف"، حذف تغريدته بعد أن وصلت مشاهداتها إلى أكثر من مليوني مشاهدة، بحسب ما رصده موقع "تلفزيون سوريا".
وبالبحث عن الرابط الخاص بالموقع المشار إليه، وجدت منصة "إيكاد" أن اتصاله بالإنترنت مفصول، وبالبحث عن بيانات تسجيله عبر المصادر المفتوحة، تبين أنه موقع حقيقي تم تسجيله في أمريكا في 2020، ثم سجل في تركيا بتاريخ 29 أيلول / سبتمبر 2021.
كما قالت "إيكاد" إنها "تمكنت من الوصول إلى البريد الإلكتروني المشفر والذي استخدمه المؤسس في إنشاء الموقع الداعي لقتل السوريين". ليتبين ارتباطه بعدة حسابات وأرقام هواتف، تعود جميعها لشخص يدعى "Y.T.Y". تأكد عبر تفحص حسابه على موقع "لينكد إن" أنه يقيم في أوسكودار، وأنه تخرج في جامعة "كوجالي" عام 2016، بحسب منصة التحقيقات.
وعبر استمرار عمليات البحث، أدت خيوط التحقيق جميعها إلى شخص ثان يدعى "S.A"، تبين أنه استخدم البريد الإلكتروني الموجود على صفحة فيسبوك لإنشاء صفحتين على موقع "لينكد إن"، الأولى شخصية لـ"S.A"، والثانية باسم مطابق لموقع "DarkWeb Darknet"، ما أكد ارتباط المدعو "Sinan" بإدارة الموقع.
وبذلك خلصت منصة التحقيقات، إلى أن "S.A" درس في جامعة "كوجالي" وتخرج فيها عام 2016، وهو عام التخرج وجامعة "Y.T.Y" نفسهما، الذي كشف التحقيق في البداية ملكيته للموقع الإلكتروني الداعي لقتل السوريين.
انتقادات ونفي لصحة نتائج التحقيق
في المقابل، قالت المحامية التركية يلدز شاهين عبر منصة "إكس" إنها عملت على التحقق من الموقع الداعي لقتل السوريين وتبين أنه غير مفعل وغير موجود في الأصل. وذكرت أن "الهدف من هذه الشائعات جر الناس إلى الفوضى وإظهار تركيا على أنها بلد غير آمن"، بحسب تعبيرها.
كما دعت اللاجئين السوريين المقيمين تحت بند "الحماية المؤقتة" في تركيا إلى "عدم الاهتمام بمثل هذه الشائعات".
ووفقا لما رصدته "عربي21" من ردود أفعال على الحادثة، تداول سوريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة من التعليقات العائدة إلى حسابات تركية حول انتشار نبأ الموقع الإلكتروني الداعي إلى قتل السوريين، حيث تنوعت بين الدعم والموافقة على فعل القتل والسخرية السوداء وإبداء الرغبة في المشاركة والحصول على الجوائز. فيما استنكر آخرون ما يدعو إليه الموقع من قتل وتنكيل باللاجئين، كما طالبوا بسن قانون للحد من تفشي ظاهرة التحريض ضد اللاجئين.
وفي هذا الصدد علق الصحفي التركي في وكالة "الأناضول"، عمر فاروق مآدان أوغلو، منددا بالتعليقات التي تدعو إلى العنف والجريمة ضد اللاجئين.
وقال مآدان أوغلو عبر حسابه في "إكس" إن "
العنصرية في تركيا وصلت الآن إلى مستوى إراقة الدماء، والمسؤولين عنها لا يزالون على شاشات التلفزيون يغسلون دماغ المراهقين والأطفال بحجج مضحكة مثل أننا لسنا عنصريين، إنما نحاول إنقاذ وطننا من الاحتلال (اللاجئين)".
إلى ذلك، أعلنت ولاية غازي عنتاب، الثلاثاء، في بيان، إلقاء القبض على فتاة أجنبية بتهمة "الترويج لمنشورات استفزازية ضد الرعايا الأجانب في البلاد". ولم يذكر البيان ما إذا كان اعتقال المشتبه بها جاء على خلفية الجدل الدائر حول الموقع المحرض على اللاجئين.
وقبل ذلك، نشر مآدان أوغلو عبر منصة "إكس" تصريحات قال إنها للشاب التركي الذي خلصت تحقيقات "إيكاد" إليه بعد أن تواصل الأخير معه بمحض إرادته، وكشف فيها نفي "Y.T.Y" للتهم الموجهة إليه مشيرا إلى أن البريد الإلكتروني الذي كشفت عنه منصة التحقيقات يعود إليه بالفعل، موضحا أنه اشترى "الدومين" الوارد من خلاله لكنه أغلقه قبل استخدامه، ولم يقم بإنشاء الموقع "الداعي لقتل اللاجئين" ولا علم له كيف اخترق أو أُقحم بريده الإلكتروني في هذه الحادثة.
جاء ذلك بعدما ذكر الصحفي السوري ضياء عودة، أن السلطات التركية ألقت القبض على المتورطين بحسب ما نقله عن " كبير مستشاري وزير الداخلية التركي أرغون يولجو".
ولم يتم الكشف رسميا كذلك عما إذا كان "Y.T.Y" واحدا منهما، لكن بحسب التصريحات المنسوبة إلى هذا الأخير والتي نقلها الصحفي مآدان أوغلو تم استدعاء الشاب إلى مركز اتصالات رئاسة الجمهورية (CIMER).
ورغم نفي منصات تحقيق وناشطون لحقيقة وجوده، أثار المنشور الداعي إلى التنكيل باللاجئين السوريين مخاوف واسعة وذعرا لدى الأوساط العربية في تركيا، حيث ظهر في وقت تصاعدت فيه حدة الخطاب العنصري ضد اللاجئين. والجدير بالذكر أن الجهات الرسمية لم تنف أو تؤكد وجود الموقع الإلكتروني المزعوم، كما لم تشر إلى هويات من يقفون وراء تداول المنشور أو تصميمه حتى تاريخ نشر التقرير.
من جهته، قال الناشط الحقوقي طه غازي حول الجدل المثار بشأن حقيقة وجود الموقع الإلكتروني من عدمه، يعني أن "تحويل دفة القضية إلى هذه الجزئية يبتعد بنا عن جوهرها وأبعادها الحقيقية"، مشيرا إلى أن ظهور هذا المنشور يتوازى مع تصاعد خطاب الكراهية والتمييز العنصري ضد اللاجئين السوريين في الآونة الأخيرة. وأكد على أهمية تحرك السلطات لمحاسبة لكل من روج له أو ساهم في نشره.
وتابع: هذا المنشور يذكرنا بفترة سابقة في تركيا نشطت فيها بعض المجموعة العنصرية مثل "أوزغورلوك بوستاسه" عبر تعليق منشورات تحمل عبارات عنصرية على الجدران في المناطق العامة تستهدف اللاجئين السوريين بشكل خاص والعرب عموما.
وأضاف غازي في حديثه لـ"عربي21" أن مسؤولية ارتفاع حدة العنصرية في المجتمع التركي تقع على عاتق كل من الحكومة والمعارضة، حيث "دأبت شخصيات سياسية معارضة من تيارات مختلفة على التحريض بشكل مقيت وعنصري ضد اللاجئين السوريين مع اقتراب كل استحقاق انتخابي".
وكانت أحزاب المعارضة التركية استخدمت التحريض على اللاجئين خلال فترة الانتخابات الرئاسية الأخيرة درجة أن علقت لوحات دعائية في الطرقات تعد الأتراك بطرد اللاجئين السوريين في حال وصولها إلى سدة الحكم.
"لا جدية لدى الحكومة"
وعلى صعيد الدور الحكومي لمواجهة الحملات العنصرية، أشار غازي إلى أن الحكومة التركية لا تتعامل بجدية في الحد من خطاب العنصرية ومحاسبة العنصريين ما تسبب في تفاقم الظاهرة. وتابع: بعبارة أدق عدم وجود بيئة قانونية رادعة لخطاب الكراهية والتمييز العنصري التي من شأنها أن تحاسب وتسائل كل من يستخدم هذا الخطاب.
وفي حديث سابق لـ "عربي21"، أشار رئيس تجمع المحامين الأحرار في تركيا، غزوان قرنفل، إلى أن جهود الحكومة في التضييق على اللاجئين السوريين عبر إطلاق حملات واسعة في شهر تموز / يوليو الماضي لضبط "اللاجئين غير الشرعيين" - بحسب الداخلية التركية - تتضافر مع مساعي المعارضة التي تحرض ضد السوريين وتدعو لعودتهم إلى بلادهم، حيث يوجه الطرفان رسالة واحدة "تهدف لدفع الأتراك إلى ممارسة ضغط أكبر على اللاجئين لإجبارهم على العودة"، بحسب تعبيره.
يذكر أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال خلال كلمة له الشهر الماضي، تزامنت مع اشتداد الحملة الأمنية لضبط من وصفتهم السلطات التركية بـ "اللاجئين غير النظاميين"، إن "تركيا أمة تحتضن المظلوم بصرف النظر عن لونه ودينه"، مشددا على أنه من غير المناسب "للمسلم التركي أن ينحاز إلى خطاب الكراهية ضد المهاجرين".
كما أكد أردوغان حينها أن "بلاده ستواصل إنتاج حلول دائمة لمشكلة الهجرة غير الشرعية بسياسات واقعية".
من اللاجئين إلى السياح العرب
لم تقتصر الحملات العنصرية على اللاجئين السوريين فقط، بل امتدت لتطال عددا من السياح العرب عموما والخليجيين على وجه الخصوص، حيث تصاعدت خلال الأشهر الأخيرة المضايقات التي يتعرض لها السياح أو المقيمون العرب في تركيا خلال تجولهم في المناطق السياحية أو دخولهم المراكز التجارية، ما دفع بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي، إلى إطلاق دعوات لمقاطعة السياحة في تركيا، منهم الفنان الكويتي عبد الله الطليحي.
وضجت وسائل التواصل الاجتماعي في مطلع آب / أغسطس الجاري بمقطع مصور يظهر اعتداء مجموعة من الشبان الأتراك على شاب يمني بالضرب المبرح في إحدى المجمعات السكنية في إسطنبول إثر خلاف وقع بين طفلين، ما أدى إلى دخول الشاب المشفى وزيارة السفير اليمني لدى أنقرة عائلة الضحية.
وفي سياق متصل، لفظ المواطن المغربي جمال دومان أنفاسه الأخيرة في 20 آب / أغسطس الجاري على وقع لكمة وجهها إليه سائق "تكسي" في إسطنبول بعد خلاف دار بينهما إثر رفض السائق نقل دومان بسبب قصر المسافة، بحسب صحيفة يني شفق التركية.
يرجع غازي أسباب تصاعد حوادث التضييق على السياح والمقيمين العرب إلى تجذر ما أسماه بـ "كراهية العرب" لدى بعض فئات المجتمع التركي التي تحمل هذه الفكرة في موروثها المجتمعي والفكري وتعتقد أن وجود العرب يهدد قوميتها ووجودها. ويرى غازي في حديثه لـ "عربي21" أن العنصرية ضد اللاجئين السوريين أيضا تنبع في أصلها من هذا الموروث الذي تغذيه بعض أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام.
ويضيف أن حوادث الاعتداء ضد العرب واللاجئين تتصاعد بالتزامن مع ارتفاع نسب التضخم وتراجع القوة الشرائية لدى المواطن التركي، الذي يتم شحنه ببعض عبارات التحريض من قبل وسائل إعلام "صفراء في إطار أنه لا يستطيع شراء ما يريد في بلده بينما يأتي السائح العربي للترفيه عن نفسه والتسوق في بلاده"، بحسب غازي.
في هذا السياق، أثار مقطع مصور لمقابلة أجرتها إحدى قنوات استطلاع الرأي على "يوتيوب" مع شاب ادعى أنه سوري في تموز / يوليو الماضي، غضبا واسعا في تركيا، حيث زعم أنه يتقاضى شهريا مبلغ 25 ألف ليرة تركية ولا يدفع الضرائب، معقبا على سؤال المذيعة حول كيف يعيش من يحصلون على الحد الأدنى من الرواتب بالقول "فليمت من يتقاضون الحد الأدنى من الأجور".
وما لبث أن تبين أن الشاب تركي الجنسية وينحدر من ولاية شانلي أورفا في جنوب البلاد، كما خرج هو بنفسه في وقت لاحق وقال إنه تلقى مقابلا ماديا لقاء "التمثيلية المفبركة" مع الجهة التي بثتها.
وشدد غازي على أهمية تحرك السلطات التركية لمكافحة الخطاب العنصري المتصاعد ضد العرب واللاجئين السوريين، محذرا من أن هذه الظاهرة في حال لم يتم تداركها ووضع حد لها فسوف تتخطى العرب ويمتد أثرها إلى باقي فئات المجتمع التركي.