جددت انتفاضة مدينة
السويداء في الجنوب السوري، إيقاظ حذرٍ غريزي عند بعض
المثقفين من تجديد
الثورة السورية لنفسها، بتكرار مواقف إغاظة السوريين وحصرهم في
مربعات "شريرة"، بإلقاء اللوم مجدداً على المؤامرة، وتحرك الشعب ضد
الأسد إحداها. الذاكرة لانهيار سقف المواقف وفضيحتها منذ اندلاع الثورات العربية
وخذلان المواقف منها؛ لا تزال حية. الهجوم على حرية الشعب في استئناف حملة ردحٍ من
جوقةٍ مهووسة بالديكتاتور السوري؛ له معنى مأهول بالخداع المفكك للحفاظ على صفاء
"مفيد" خَدم سابقاً مثقفي السلطة ومن يدور في فلك شعاراتها، واليوم تفقد
طبقة مثقفي الاستبداد العربي والسوري منهم؛ الوضوح الضمني لإيقاظ وعي الشعوب
بازدراء الشعب وكيل المديح لجيش طاغية دمر الباد والعباد.
العار الذي لا يطاق في زمننا العربي، هو الصمت الذي فرضته نخب سياسية
وثقافية وفنية وفكرية على مفهوم الحرية والعدالة والمواطنة والكرامة الإنسانية، ولأن
تحرك الشارع العربي هوى بعروشها العاجية إلى دركٍ أسفل من التاريخ المعاصر مع
تزعزع بنيان الأنظمة المستبدة، بقي الإنكار والفرار من الواقع المفهوم الراسخ في
معاقل ثقافية بعينها، خصوصاً بعد تحطم الجدران الجليلة للطاغية العربي. لم يعد خلف
هذه الصورة وفي جعبة المثقفين ما يحفز تحسين طعم المواقف، لتقرأ تحليلات وتشاهد
مواقف من قبيل "لماذا تنتفض السويداء الآن؟"، في إشارة للتوقيت المريب
من وجهة نظر البعض، أو ما يصدح به السوريون من شعارات ومطالب لإسقاط النظام "كلام
حق يراد به باطل".
والباطل هنا كل ما نُعتت به ثورة السوريين والثورات العربية الأخرى
"بمؤامرة" تستهدف مواقف أنظمة الاستبداد والطغيان من قضية فلسطين.. مع
أن مدن وحواري وشوارع عربية وسورية شهدت ثورات بنتيجة أشد إيلاما وحطاما وقتلا
وتدميرا وتهجيرا. كان السؤال نفسه: لماذا الآن ولماذا تخرج المظاهرات من المساجد،
مع أنها خرجت من الجامعات ومن قلب المدن وضحاياها من كل طبقات المجتمع؟ لكن تأطير
الصورة من عين الطاغية بعباءة الإرهاب الموصوم بها تحرك الشارع أوقع الطمأنينة في
قلوب المثقفين.
من بعض المفاهيم الأولية من التاريخ والأدب والفلسفة، أن جملة الوقائع
الاجتماعية والثقافية والسياسية والوطنية، التي ترافق تطور المجتمعات وثقافتها،
تجعل من الثورات جزءاً عضوياً من هذه الثقافة، ألم تحمل معظم الأدبيات والفلسفات
"الثورية والتحررية" التعريف والمقدمات والظروف لاندلاع الثورات
وضروراتها؟ النسخة العربية لأحزاب "ثورية وتقدمية" ولنخب تنتمي لثقافة
مرجعها العقل والإنسان؛ كانت بوصلتها تثوير الشوارع والمجتمعات على القهر والظلم
والاستبداد والفساد والطغيان، وللخلاص من وضع مهزوم لطاغية جذّر الهزيمة وأشاعها،
استبدل البعض جل المفاهيم التي لا تحمل تجانسا بينها وبين الواقع الذي كانت تبشر
به نخب الثقافة، وفي فضاء ملتبس يقتربون من المستبد ويبتعدون عن الشارع ويدعونه
للعودة إلى أزمنته المستبدة التي كانت سبباً في التفسخ الاقتصادي والاجتماعي
والسياسي والفكري والبدء في التطلع نحو الثورة والحرية.
تقديم المثقف النقيض الحاد لصورته المفترضة، بالابتعاد عن الواقع والالتصاق
بقوة بجلد الطاغية من خلال تكليف نفسه بالعمل على وأد ذاكرة البشر وتزييف الوقائع،
وتقديم نفسه عدوا للشعب في خندق الطاغية؛ هو إسهام بارتكاب مجزرة فكرية تغطي على
مجازر الطاغية بحق المجتمع، ومحاولة إخصاء العقل في مهمة مماثلة ومتكاملة مع
محاولات السلطة الفاشلة لإحباط جوهر الأسئلة المتعلقة بكل قضايا الإنسان العربي عن
التنمية والفساد وغياب الحريات وبناء المواطنة. الحس السليم والحكمة التي انبثقت
من مدنية وسلمية الثورات، ومواجهتها ببطش وإرهاب غير مسبوق، والتغذي الثقافي على
محاربتها، قدما بالمقابل تجربة من الاشمئزاز العميق والقريب من الشفقة على نخب
مثقفة وهياكل "ثورية تحررية" تكافح للبقاء في الظلام البعيد للطاغية، في
واحدة من أكثر الطرق البغيضة لاحتقار الشعب وثورته.
أخيراً، البراءة الخبيثة وغير الأخلاقية لبعض المثقفين، من الثورة السورية
وأخواتها العربية، وخلط أسبابها ومصائرها بذرائع الطاغية العربي، وإدانتها في طقوس
ضعيفة التأثير خارج بلاط الحاكم العربي، ذلك استدعى بشدة وحسم من الشارع السوري
التعبير عن تجديد الحلم بالوقوف وجهاً لوجه أمام واقعٍ مر؛ في لحظةٍ عاصفة تختبر
كل القناعات المزيفة عن الإنسان والثورة وتحرير فلسطين بطوق عربي متحرر من طغاة
مستبدين.
twitter.com/nizar_sahli