فيضانات
ليبيا كانت كارثة إنسانية حقيقية أدت لوفاة الآلاف وتدمير مدينة بكاملها، وأثارت تساؤلات كثيرة حول ما حدث مساء الاثنين الماضي، وحول التغير المناخي في العالم ودور انعدام الاستقرار السياسي في إضعاف استعدادات الدولة للكوارث.
كانت هناك عاصفة شديدة مصحوبة بأمطار غزيرة، كان بالإمكان أن تقتصر آثارها على فيضانات محدودة كما حدث مؤخرا في بلدان أوروبية عديدة مثل إسبانيا وإيطاليا، وكما حدث في صحراء نيفادا الأمريكية. لكن الذي حدث في ليبيا كان مضاعفا؛ فقد أدت السيول الجارفة التي أحدثتها الأمطار لمضاعفة الضغط على أحد السدّين على نهر درنا، فبدأ انهياره، هذا الانهيار ضاعف قوة السيول التي أدت لانهيار السد الثاني، نجم عن ذلك فيضانات جارفة اقتلعت كل ما في طريقها، وجرفت بكل شيء نحو البحر، فتجاوز عدد الضحايا عشرين ألفا. وقد تزامنت فيضانات ليبيا مع زلزال حدث في المغرب بقوة 6.8 درجة على مقياس ريختر، ونجم عن ذلك الزلزال مقتل اكثر من 5000 شخص وتدمير مناطق شاسعة.
في كلتا الحالتين كان الدمار البشري والمادي هائلا، وسيحتاج احتواء آثاره سنوات عديدة. وإذا كان زلزال المغرب حدثا طبيعيا يتكرر بشكل مستمر، فإن ما حدث في ليبيا كان مزيجا من ظاهرة طبيعية أحدثت سيولا هائلة أدت لتدمير السدّين، ومن الصعب التطرق للظواهر الطبيعية بالنقاش والتحليل، إلا في إطار الحديث عن التداعي البيئي والمناخي، الذي أصبح حديث العالم ومحور اهتمامه.
وتكفي الإشارة إلى أن ليبيا ليست لديها سياسة مناخية لمواجهة التحديات الطبيعية. ليبيا، هذا البلد الذي ابتلي باضطراباته السياسية منذ سقوط نظام معمر القذافي قبل اثني عشر عاما، سيظل محاصرا ليس بتبعات تلك الاضطرابات فحسب، بل بما سبقها من مشاريع تنمية لم يتم تنفيذها بإتقان وحرفية كاملة، وربما لم تحظ بعناية أو رعاية أو صيانة مناسبة، خصوصا مع تعدد مراكز القرار بين
حكومتين، إحداهما معترف بها دوليا ومقرها طرابلس، والثانية في بنغازي التي توجد فيها مجموعات مسلحة تتنازع على النفوذ من جهة وجنرال، تدعمه قوى خارجية بدون مراعاة مصلحة ليبيا وشعبها.
إن ما حدث للسدّين المذكورين اللذين تم بناؤهما قبل نصف قرن تقريبا من قبل شركة يوغسلافية، سيظل موضع نقاش حاد؛ فانهيار سد وادي
درنة (يتألف من جزأين، سد سيدي أبو منصور وسد البلاد وهو أكبرهما والأقرب جغرافيا إلى المدينة) لم يكن حسبان أحد، لذلك لم تكن هناك خطة للتعاطي مع تبعات الانهيار. يقول مختار المدينة، الصديق بن طاهر الذي يقدر طول السد بـ 70 كيلومترا: «بني السد عام 1961، وتمت صيانته خلال عامي 1977 و1986. وفي المرة الأخيرة، أضيف إليه سد صغير لزيادة قوة تحمله. لكن مع مرور الوقت، تهالكت بنيته التحتية، وخصوصا بالوعات (مجاري) التصريف التي من المفترض أن تسرب فائض السد». ولم يتم صيانة السدّين منذ العام 2002. وقد تم تشييد السد كاملا بواسطة شركة «هيدروبروجيكت»اليوغسلافية، نيابة عن وزارة الزراعة في ليبيا. واستمرت عملية البناء أربع سنوات من 1973 إلى عام 1977.
وطوال العقود الخمسة من عمر السد، كانت هناك تحذيرات من الأخطار التي ستنجم عن تصدعه، وصدرت دعوات لوضع خطط للطوارئ، ولكن أحدا لم يتفاعل معها. ففي العام الماضي نشر أحد الأكاديميين بحثا أكد فيه أن تكرار
الفيضانات يهدد السدود المبنية في الوادي، وهو عبارة عن مجرى نهر جاف في العادة، وحث على إجراء أعمال الصيانة بشكل فوري. وكتب عبد الونيس عاشور الخبير في علوم المياه من جامعة عمر المختار الليبية: «إذا حدث فيضان ضخم، ستكون النتيجة كارثية على سكان الوادي والمدينة». ويفترض أن مدينة درنة التي حدث فيها الفيضان خاضعة لسلطة اللواء خليفة حفتر، والسلطات التابعة له، ومن ثم هي المسؤولة عن المدينة.
إن بناء السدود سياسة متبعة في الدول التي تتمتع بمصادر مائية جارية كالأنهار، وتصبح هذه السدود سببا لخلافات سياسية عندما يشترك في تلك الأنهار أكثر من بلد، كما هو الحال مع نهر النيل في مصر أو نهري دجلة والفرات في العراق. فليبيا بلد صحراوي يمتلك ثروة نفطية عملاقة، ولكنه يفقتر إلى الماء الذي يوفر له القدرة على تطوير زراعته، خصوصا مع مساحته الجغرافية الشاسعة.ٍ فبالإضافة إلى السدّين المذكورين، هناك ما يسمى «النهر العظيم» الذي اعتبره معمر القذافي «الأعجوبة الثامنة» في العالم بعد عجائب الدنيا السبع. إنه مشروع ضخم، وضع حجر أساسه في العام 1984 لنقل المياه الجوفية إلى المناطق الزراعية والمدن كثيفة السكان في شمال ليبيا بتكلفة 35 مليار دولار. ويعيش حوالي 80 في المائة من سكان ليبيا البالغ عددهم 6 ملايين نسمة على امتداد ساحل البلاد على البحر المتوسط أو بالقرب منه، ويعتمدون على المياه العذبة التي تضخ عبر الأنابيب من خزانات جوفية في جنوب البلاد، حيث تقع أيضا الحقول الغنية بالنفط في ليبيا. وتقول دائرة المعارف البريطانية؛ إن «النهر الصناعي العظيم» عبارة عن شبكة واسعة من خطوط الأنابيب والقنوات الجوفية، التي تجلب المياه العذبة عالية الجودة من طبقات المياه الجوفية في أعماق الصحراء إلى الساحل الليبي للاستخدام المنزلي والزراعة والصناعة».
هذا الاهتمام بتوفير الاحتياجات المائية، يستدعي كذلك خططا وقائية فاعلة، سواء لمنع الحوادث المدمرة كما حدث الآن، أم لتوفير مصادر بديلة حين تعجز هذه المصادر عن توفير الماء سواء لأسباب فنية ام كارثية. ومن المؤكد أن الحكومتين المتوازيتين حاليا ستتعرضان لضغوط شعبية وسياسية كبيرة، لبذل اهتمام أكبر ليس بالمصادر المائية فحسب، بل بتأمينها لمنع تكرر ما حدث. ففقد أكثر من عشرين ألف إنسان بالشكل الذي حدث، مأساة حقيقية كان تلافيها ممكنا فيما لو كانت هناك خطط لصيانة السدّين اللذين لم يحظيا بذلك منذ تشييدهما قبل قرابة نصف قرن، إلا بشكل سطحي ومتقطع. فمن المسؤول عن ذلك؟ صحيح أن البلاد شهدت مرحلة اضطراب سياسي وأمني منذ نهاية حكم القذافي، ولكن ذلك ليس مبررا للحكومتين لترك الأمور على عواهنها. فحكومة طرابلس برئاسة عبد الحميد دبيبة، مطالبة بتقديم تفسيرات مقنعة لذوي الضحايا، الذين دفعوا بحياتهم ثمن عجز الحكومتين عن القيام بوظيفتيهما.
والخشية أن تتدخل قوى خارجية لتأجيج الوضع الداخلي، خصوصا بعد فشل خطة للتطبيع مع «إسرائيل» بدأتها وزيرة الخارجية الشهر الماضي. وما إن انتشر الخبر حتى خرجت احتجاجات واسعة أجبرت الوزيرة على الهرب من البلاد، وتحولت التظاهرات إلى حركة تطالب رئيس الوزراء بالاستقالة. كما حدثت في الشهر نفسه في العاصمة مواجهات مسلحة بين مجموعتين أدت لقتل 45 شخصا، الأمر الذي يكشف عمق وجود المليشيات المسلحة في ليبيا، وغياب السلطة المركزية الفاعلة. وليس جديدا القول بأن هناك نزعات انفصالية بين عشائر الجنوب تستهويها فكرة الانفصال، وتشجعها جهات خارجية على ذلك.
وفيما بدأ الليبيون بإحصاء خسائرهم البشرية والمادية بسبب الفيضانات، بدأ الأوروبيون سلسلة من المشاورات تحسبا لتبعات الكارثة الليبية. وأهم ما يقلق الأوروبيين عودة تدفق اللاجئين بأعداد أكبر إلى سواحل بلدانهم المطلة على البحر المتوسط مثل إيطاليا واليونان. فبرغم الاحتياطات كافة، ما تزال القوارب البدائية التي تنقل اللاجئين مستمرة بنمط يومي، ويتوقع أن تزداد أعدادهم في الأسابيع والشهور المقبلة، سواء من ليبيا نفسها أم من الدول المجاورة التي سيستغل مواطنوها ما حدث في ليبيا لشد الرحال إلى أوروبا، انطلاقا من ليبيا التي كانت نقطة عبورهم في السنوات الأخيرة. وفي الأعوام الماضية، استفاد المهرّبون والمليشيات من حالة الاضطراب في ليبيا لتهريب اللاجئين من ستة بلدان، من بينها مصر والجزائر والسودان. وتتضاعف الأزمة المعيشية لدى الليبين نتيجة التلاعب بمدخولات النفط من جهة، وتراجع معدلات التصدير بسبب التوترات الداخلية من جهة ثانية، والخلاف على الحصص النفطية المخصصة للمجموعات المسلحة والمليشيات ثالثا. مع ذلك، كانت الكارثة فرصة لاستعادة قوة اللحمة الليبية، فهرع المواطنون لإغاثة المنكوبين بروح الأخوّة والشعور بالمسؤولية، وتراجعت أسباب التوتر التي تخلقه السياسة وحسابات المصلحة. مع ذلك، يتوقع أن تتضاعف الضغوط على الفصيلين الحكوميين، خصوصا الجنرال خليفة حفتر الذي تقع مدينة درنة المنكوبة في دائرة سلطته. ستتكثف الضغوط لتوحيد ليبيا وإنهاء نظام الحكومتين للحفاظ على وحدة البلاد.
(صحيفة القدس العربي)