يمكن تلخيص كفاح شعوب
المغرب العربي طوال
عقود الاحتلال الفرنسي المتحول بعد توقيف القتال وتقرير المصير إلى استحلال مغلف
بالاستقلال!! (راجعوا مقالنا في عربي 21 ليوم 10 يوليو 2023) ويمكن تلخيص ذلك
الكفاح الطويل في جملة واحدة مفادها: "لولا تمسك الشعوب المغاربية بثوابت
الهوية المحمدية لصارت اليوم غرناطة
فرنسية".
فبتلك الروح الوطنية والوحدوية (الشعبية
والثقافية) وذلك الإيمان الراسخ قاوم هذا الشعب جميع الغزاة الصليبيين المتعاقبين
على الأرض وفجر ثورة حققت أكبر انتصار للأمة لم تعرفه منذ يوسف بن تاشفين وصلاح
الدين على الصليبيين وأتباعهم قبل المئات من السنين في فلسطين.. وكل ذلك كان تحت
راية الشعب المسلم الواحد المتجانس بلا حدود والدليل على ذلك نجده ناطقا في حي
المغاربة في القدس الشريف حتى الآن.
هذا الشعب الذي قاوم كل أنواع الاحتلال وفجر
ثوراته التحريرية الثلاث بشعاراتها ذات الأركان الثلاثة المكونة لوجوده والضامنة
لبقائه وتميزه عن عدوه المحتل الصليبي الدخيل، وهي: "الإسلام ديننا، العربية لغتنا، وشمال
أفريقيا وطننا"، وكل من كان خارج هذا الإطار الموحد صنفته الثورات التحريرية
في عداد الأعداء وحاربته مثلهم على حد سواء، كما تثبته وثائق الحركة الوطنية في
البلدان المغاربية كلها وفي مقدمتها ثورة المليون ونصف المليون شهيد التي اندلعت
في الفاتح من نوفمبر (تشرين الأول سنة 1954.
وها هي تلك المبادئ التي آمنت بها شعوب
الأمة في كل البلدان وشارك أحرارها في إنجاحها بكل إخلاص وصدق وإيمان وصنفوا
أعداءها خونة وعملاء وحاربوهم مثل الأعداء، وإن كثرة الشهداء والقادة والزعماء في
بعض الأقطار والجهات هي متناسبة مع كثرة الخونة والعملاء أيضا من كل الأصناف
والأعمار والفئات الاجتماعية والمستويات التعليمية والمعيشية في هذه الأقطار.. وعلى
قدر أهل العزم تأتي العزائم والمغانم.. كما تأتي على
قدر الخيانات الهزائم والمظالم والجرائم...
ولذلك ما فتئنا نؤكد بأن الخيانات والتضحيات
الفردية والوطنية في البلدان المغاربية هي مسألة فئات وأفراد وعائلات وليست مسألة
عنصرية أو عرقية أو تفوق جهات على جهات في احتكار البطولات والزعامات القيادية
والسياسية الوطنية والجهوية والقومية. فالزعامات والتضحيات كانت دائما تطوعا وتضحية
وتكليفا... وليست سيطرة أو منا من أحد على أحد أو تشريفا، وأن البيان الثوري في
نصه وروحه يخاطب المواطنين كشعب واحد دون تمييز إلا بالقدرة على البذل والتضحية من
أجل الوطن.. ويحدد لهم أهداف الثورة التحريرية التي يدعوهم إلى خوضها كوسيلة حتمية
وحيدة لتحقيق مجموعة من الأهداف التي نذكر منها ما يتعلق بالانتماء والوجود
والهوية الوطنية والقومية في البنود التالية:
الهدف الأول: "إقامة الدولة الجزائرية
الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ إلا إسلامية" غير الشيوعية وغير
العنصرية وغير الطائفية وغير القبلية وغير الوثنية.
الهدف الثاني: "تحقيق وحدة شمال
إفريقيا في إطارها الطبيعي العربي الإسلامي".
ويلاحظ هنا الإعلان الثوري الجهادي الصريح
عن الانتماء الطبيعي والهوية الوطنية ذات الأصل الثقافي والبعد الجغرافي الطبيعي
"العربي الإسلامي"، وليس الإفريقي أو الفينيقي أو النوميدي، فضلا عن
البربري (الوثني) الروماني أو "الفرنكفوني"!!.
والذي يجادل في مبادئ البيان يجادل في
الاستقلال الوطني ذاته الناتج عن تطبيق هذا البيان بأغلى ثمن من الأرواح التي لم
يدفعها شعب مماثل في التاريخ المعاصر حسب اعتراف العارفين النزهاء حتى من الأعداء،
فضلا عن الأصدقاء والأشقاء الذين تضامنوا معها وشاركوا في إنجاحها مع أبنائها
الثوار بالبذل المشهود حتى تحقيق الهدف المنشود في اليوم الموعود.
العروبة كما أثبتنا في عدة مقالات هنا (في عربي21) هي بالثقافة والرسالة وليست بخرافة النقاوة العرقية للسلالة لأن ديننا الحنيف الذي اعتنقناه بملكنا وتحررنا بالجهاد تحت رايته كلنا قد علمنا "أن أكرمكم عند الله أتقاكم!!" وليس أذكاكم أو أغناكم أو أكثركم نفرا أو زيتونا وتمرا.
ولذلك لا يقبل الشرفاء أن يمس حرف واحد من
البيان المسطور دون استئذان الشهداء أنفسهم الذين سطروه بأقلامهم وطبقوه بدمائهم،
ومهروه بأرواحهم.. وفي غيابهم يستفتى شعبهم مثل استفتائه على الاستقلال الوطني
وتقرير المصير بعد التحرير، علما أن الاستثناءات التي تمثل الأقلية (الزائغة
والمرتدة) قد تؤكد القاعدة ولا تغيرها أو تلغيها لأنها وجدت لهذه المهمة مثل
الشيطان لتضليل الإنسان الذي لا يبوء إلا بالخسران، وهذه هي القاعدة المطبقة (مع
الأقلية) في كل الأنظمة الديمقراطية الشرعية الشعبية.. والحكم يبقى دائما للأغلبية
التي لا تجتمع على ضلالة أبدا عندما لا تزور إرادتها في صناديق الانتخاب ويعين على
رأسها الحكام بالانقلاب والإرهاب والاغتصاب.
الهدف الثالث: "احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز
عرقي أو ديني".
ونلاحظ أن البيان الثوري الوحدوي السيادي
يقر حرية الاعتقاد كما هو شأن كل البلاد الإسلامية، ولكنه يرفض التعدد اللغوي،
لأنه هو الفيصل القاطع في السيادة، وأن التلاعب فيه أو التلاعب به يؤدي حتما إلى
ما لا يقبل التعدد على الإطلاق ألا وهو الهوية الوطنية التي لا يستقيم تعددها مع وحدة
الشعب والوطن على الإطلاق لان الهوية الواحدة مثل الأم الوالدة وأن الفرد يمكنه في
أي بلد أن يكون (مسلما فرنسيا أو عربيا مسيحيا أو يهوديا) ولكنه لا يمكن أن يكون
(يهوديا مسلما أو عربيا فرنسيا.) على الإطلاق.. وهنا تكمن القضية الجوهرية في
مسألة الهوية الوطنية المسلمة العربية.
والعروبة كما أثبتنا في عدة مقالات هنا (في
عربي21) هي بالثقافة والرسالة وليست بخرافة النقاوة العرقية للسلالة لأن ديننا
الحنيف الذي اعتنقناه بملكنا وتحررنا بالجهاد تحت رايته كلنا قد علمنا "أن
أكرمكم عند الله أتقاكم!!" وليس أذكاكم أو أغناكم أو أكثركم نفرا أو زيتونا
وتمرا.
وقال نبي الإسلام في زواج المسلم "أضفر
بذات الدين تربت يداك" وقال أيضا: "من ترضون دينه فزوجوه"، وهذا هو
العامل الأساسي في اختلاط الدماء وتماهي الأنساب والأرحام بين المسلمين في مشارق
الأرض ومغاربها على مر التاريخ الإسلامي وحتى يومنا هذا..
ولذلك أؤكد على مسؤوليتي أننا هنا في شمال
أفريقيا كلنا عبارة عن خليط من مختلف الأعراق والألوان البشرية من كل القارات كما
تثبت تحليلات الأحماض النووية في المخابر العلمية التي هي تحت تصرف كل المتشككين
في انحدارهم من نفس واحدة في أصولها الآدمية.. لا يفصل بينها إلا الدين... لكم
دينكم ولي دين. وأن الناس وإن ولدوا في أوطانهم وعائلاتهم مكرهين غير مخيرين فإنهم
أصبحوا مسلمين بالاختيار وتصاهروا مع العرب المسلمين (كحالة الأدارسة في المغرب)
طواعية وتبركا دون إجبار.. فضلا عن أن العروبة كما قلنا هي لسان وانتماء يربط أهل
الأرض بوحي السماء وليست عرقا مميزا أو دما مفضلا على الدماء الآدمية على الإطلاق..
وهذه العروبة الإسلامية هي التي أخرجت أبا
لهب (عم الرسول القرشي) دمويا من الملة والأمة وقربت بلالا الحبشي وصهيبا الرومي
وسلمانا الفارسي عقديا وجعلتهم جميعا من الصحابة المقربين كما ورد في الحديث
النبوي الشريف "ليست العربية (أي العروبة) بأحدكم من أب أو أم وإنما هي
باللسان فمن تكلم العربية فهو عربي" و"سلمان منا آل البيت".
وتكلّم أي فرد للعربية هي مسألة في متناول
كل إنسان سليم الحواس موفور الإرادة ككل الأسلاف في شمال أفريقيا بعد الفتح
الإسلامي واستبدال العربية بالرومانية والبونيقية..
وشأن البلاد المغربية في ذلك شأن نصف مليار
مسلم ناطق بالعربية كلغة علم وتعليم وتواصل وثقافة وعبادة من خليج عمان إلى تطوان
على امتداد اللسان والآذان وسماع القرآن بالعربية في كل مكان.
والعربية كانت وما تزال تنتشر بالإسلام كظله
في كل البلدان مع تطور وسائل التعليم والإعلام والتواصل بين المسلمين للتفقه في
الدين مصداقا لقوله تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"..
والذكر هنا هو القرآن ولا قرآن دون لسان عربي مبين كما وصفه منزله وأوجب النطق به
في التشهد وإقامة الصلاة اليومية التي لا تسقط عن العبد المسلم مدى الحياة.. وأن
الذي أخرج الكفر من قلبه لا يمنعه إلا التعصب والكبر أن يكيف لسانه مع قلبه كأجداده
الأولين إن كان صادقا في إيمانه مع ربه وغير متعصب لوثنية بعض المرتدين من قومه..
وهذه العلاقة العضوية بين الإسلام والعربية
هي التي كونت الهوية الوطنية لشعوب كل البلاد المسلمة الناطقة بالعربية في القارة
الأفريقية والأسيوية.. وهو امتزاج وارتباط اجتماعي ثقافي لساني قرآني لا انفصام له
لدى المؤمنين الصادقين إلى يوم الدين.. وهذا الانصهار التلقائي تم بالاختيار الحر
للأغلبية وليس بالإجبار على الإطلاق كما قلنا ولو كنا غير ذلك لما قدمنا الملايين
من الشهداء لنظل عربا مسلمين وقد كانت أمام شعوبنا الفرصة السانحة لأكثر من قرن من
ظلام الاحتلال لنرتد عن الإسلام لو كنا مكرهين عليه وعلى لسانه كما يروج المرتدون
وما يزالون يرددون ذلك مع أسيادهم المرجفين على الضفتين إلى حين دون خجل أو ملل..
ولعل فرنسا بخليطها البشري من كل الألوان
والأصول الآدمية المحافظة على وحدتها اللسانية والسيادية على كامل أرضها هي أقوى
الأدلة العلمية والسياسية والقانونية على ما نقول.. فكيف للشعب الجزائري والمغاربي
عموما أن يكون "عربيا مسلما" تحت الاحتلال ثم يصبح "فرنسيا
لائكيا" أو "مشركا وثنيا" بعد الاستقلال.!؟
ولذلك يطالب البيان الجهادي (في البند
الرابع من الأهداف) فرنسا صراحة "بالاعتراف بالجنسية الجزائرية بطريقة علنية
ورسمية ملغية بذلك كل القرارات والقوانين التي تجعل من الجزائر أرضا فرنسية
التاريخ والجغرافيا واللغة والدين والعادات للشعب الجزائري".
هذه العروبة الإسلامية هي التي أخرجت أبا لهب (عم الرسول القرشي) دمويا من الملة والأمة وقربت بلالا الحبشي وصهيبا الرومي وسلمانا الفارسي عقديا وجعلتهم جميعا من الصحابة المقربين كما ورد في الحديث النبوي الشريف "ليست العربية (أي العروبة) بأحدكم من أب أو أم وإنما هي باللسان فمن تكلم العربية فهو عربي" و"سلمان منا آل البيت".
ونعتقد أن هذا الرفض القاطع للجنسية
الفرنسية وهويتها اللغوية والدينية والثقافية بالذات من قادة الثورة الذين يصرحون
فيه بأن للجزائر هوية متميزة تتكامل فيها كل المقومات التاريخية والجغرافية
واللغوية والدينية والثقافية التي تجعلها أمة مختلفة عن الأمة الفرنسية المعتدية
اختلاف الإسلام عن الكفر والغنى عن الفقر واختلاف الحياة الدنيا عن ما بعد القبر
والحشر.. وهو ما قاله الإمام عبد الحميد بن باديس قبل ذلك بعقود وكأنه يشارك في
كتابة البيان الجهادي بيده وروحه بعد رحيله حيث يقول: "إن هذا الشعب له لغته
وهي العربية ودينه وهو الإسلام ووطنه وهو الجزائر.. إنكم لا تعرفون شيئا عن
هذا الشعب وتريدون كل مرة وبجرة قلم أن تستبدلوا بحضارته حضارة أخرى ومقوماته
بمقومات أخرى وتاريخه بتاريخ آخر، وهذا مستحيل".
ويقول تأكيدا لاختلاط المسلمين الفاتحين مع
السكان القائمين من كل الأخلاط البشرية في كيان واحد: "إن أبناء يعرب وأبناء
مازيغ، وحد بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا. ثم دأبت تلك القرون تمزج
بينهم في الشدة والرخاء. حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا. أمه
الجزائر وأبوه الإسلام".
ويتبين من روح البيان أن الجزائر وإن انهزمت
عسكريا بعد وقوعها تحت الاحتلال المديد قبل احتلال وبعد استقلال كل الأشقاء الذين
كان لهم دور مشهود في الوقوف بصدق إلى جانب الجزائر في جهادها المصيري حتى
النهاية.. فإنها لم ترضخ أبدا ولم تستسلم قط لإرادة المحتل على الإطلاق.
وطوال 132 سنة لم تعرف المقاومة الشعبية تحت
لواء الإسلام والعربية معنى الراحة، وقد سارت هذه المقاومة في خطين متوازيين
(ثقافي هوياتي وسياسي جهادي) دون هوادة أو انقطاع، حتى الاستفتاء على تقرير المصير
في 3 يوليو 1962 والذي تم بموجب نتائجه الساحقة والشفافة أمام أعين العالم كله ب
97 % (بنعم) للاستقلال الوطني في إطار السيادة الكاملة والمعاملة بالمثل مع الدولة
الفرنسية على الورق الموقع.. لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة كما صرح بذلك رئيس وزراء
فرنسا في خطاب خاص بالبرلمان يوم 20 مارس 1962، إي في اليوم التالي من دخول توقيف
القتال حيز التنفيذ بقوله: "وإذا توقف القتال الذي بدأناه منذ 132 سنة...
فإننا سنواصله بطرق أخرى".
وهذا الاستفتاء كان بإلحاح من الجنرال دوجول
كما قال لي الرئيس بن يوسف بن خدة رحمه الله الذي فاوض الجنرال على توقيف
القتال وتقرير المصير والاستقلال.. وقال لي أيضا لقد تعجبنا من هذا الإلحاح على الاستفتاء
وقلنا هل يشك في ولاء الشعب الجزائري لثورته وقيادتها ويظن أنه سيصوت على بقاء
الاحتلال المناهض لأهدافها والمعاكس لرغبة ملايين الشهداء من خيرة أبنائها؟
ويقول: قبلنا بالاستفتاء واثقين مراهنين على
وطنية شعبنا الأصيل الذي كان في مستوى الآمال وثقة الرجال.
ولو صوت الشعب الجزائري في غالبيته يومئذ ب
(لا) في الاستفتاء المذكور لبقينا فرنسيين إلى الأبد وأعضاء مؤسسين في الاتحاد
الأوروبي كما قال الرئيس عبد العزيز بتوفيقه في بروكسيل سنة 2000، وردد قوله وزير
خارجيته مراد مدلسي سنة 2010.. وقد أحدث تصريحه يومئذ هزة عنيفة تحسب لهذا الشعب
الوطني الذي يرفض أي تبديل أو تحويل عن نهجه ومعدنه الأصيل.
وكما قلنا مرارا بأنه: "لا يوجد احتلال
دائم ولا استقلال دائم.. ولكن توجد خيانات وارتدادات مستمرة، ويوجد جهاد قائم
وقانون صارم، ورئيس منتخب حاكم"..
وإنه لا يفل الحديد إلا الحديد وليس للفاسد والظالم والمزور والخائن والمرتد ما يخسره
إن لم يجد في الأمة الحية والدولة القوية من الحكمة والشدة والصرامة ما يردعه.