نشر
موقع "
نيويورك ريفيو أوف بوكس"، مقالا للكاتب طارق باقوني، حمل عنوان: "
غزة
بدون ادعاءات"، أكد فيه أن محاولات
الاحتلال الإسرائيلي في إخضاع الشعب
الفلسطيني على مدى العقود الماضية كانت فاشلة.
واعتبر
أن عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها المقاومة في غلاف غزة السبت
الماضي، وضعت حدا لفرضيات وادعاءات الاحتلال بشأن إخضاع الفلسطينيين.
وفيما
يلي النص الكامل للمقال الذي ترجمته "عربي21":
خلال
الساعات التي تبعت شن حماس لهجومها المباغت على إسرائيل، استذكر العديد من
المعلقين – إسرائيليين وفلسطينيين – هجوماً مباغتاً آخر كان قد وقع في القرن
الماضي، ألا وهو هجوم تيت، الذي شنته شمال فيتنام وقوات الفياتكونغ ضد القوات
الأمريكية والفيتنامية الجنوبية في عام 1968. رغم الاختلاف الكبير بينهما، إلا أن
ثمة تشابهاً بين الهجومين، ليس فقط من حيث المستوى والتنسيق، ولكن أيضاً من حيث
السرعة التي بها تم وضع حد للفرضيات التي ظن الخصوم أنهم يقاتلون انطلاقاً منها.
في
الحالة الفيتنامية، أفاق الهجوم الجمهور الأمريكي من سباته، ليرى مدى تهافت
الاعتقاد بأن النصر مضمون.
وفي
الحالة الفلسطينية، لم تزل إسرائيل تتصرف منذ عقود مدعية أنها قادرة على توفير
الأمن لمواطنيها، بينما تستمر في إخضاع الشعب الفلسطيني لنظام من الفصل العنصري
(الأبارتيد). ما حصل الآن هو أن مثل هذا الادعاء تهاوى وتكسر.
للمرة
الأولى منذ عام 1948، وجدت إسرائيل نفسها تقاتل في مواجهة اجتياح فلسطيني متواصل
داخل أراضيها. في ساعات الصباح الباكر من يوم السبت، في نهاية عيد الظلة (العرش)
وبعد يوم واحد من الذكرى السنوية الخمسين لبدء حرب أكتوبر 1973 (يوم الغفران)،
تسلل مقاتلو حماس إلى تلك المنطقة من البحر والجو والبر تحت غطاء وابل من الصواريخ
انطلقت من الشريط الساحلي الضيق الذي يشتمل على قطاع غزة، مخترقين ومحلقين فوق
السياج الذي أقامته إسرائيل حول غزة.
تمكن
هؤلاء المقاتلون خلال ساعات من حصار بلدات إسرائيلية بأكملها والدخول إليها، وهناك
اقتحموا المنازل وقتلوا ما لا يقل عن 1200 إسرائيلي وخطفوا ما لا يقل عن 150 آخرين
لاستخدامهم في التفاوض على تحرير آلاف الفلسطينيين المسجونين (من بينهم مئات من
المعتقلين بلا تهم وبدون محاكمة).
إنه
أكبر عدد من القتلى تتكبده إسرائيل في هجوم واحد منذ عام 1948، وما من شك في أنه
الأشنع على الإطلاق. لم تنشر وسائل الإعلام الإسرائيلية بعد تفاصيل هويات وبيانات
الضحايا من مدنيين وعسكريين، ولكن سرعان ما انتشرت أخبار تفيد بأن المسلحين
الفلسطينيين انقضوا على المشاركين في حفل صاخب على الحدود مع غزة، فقتلوا المئات
وأسروا العشرات.
بعد
مرور ثمانية وأربعين ساعة على الهجوم، وبينما كنت عاكفاً على كتابة هذا المقال،
كانت القوات الإسرائيلية ما تزال تخوض حرباً داخل البلدات المحيطة بغزة، حيث استمر
مقاتلو حماس في التجول بين المنازل، يأسرون البعض ويقتلون البعض الآخر. في نفس
الوقت، بدأ سلاح الجو الإسرائيلي بقصف قطاع غزة، مستهدفاً مخيم الشاطئ، يدمر
الأسواق والمساجد، ويسوي الأرض بالأبراج السكنية.
قتل
حتى اللحظة أكثر من ألف فلسطيني، في سنة تعتبر الأكثر دموية بالنسبة للفلسطينيين
منذ عقود، سنة شهدت مقتل أكبر عدد من الأطفال، حيث كان وصل عدد من قتل من
الفلسطينيين حتى ما قبل نهاية الأسبوع الفائت إلى 227 بما في ذلك 44 طفلاً، كلهم
قتلوا في عام 2023 على يد الجنود أو المستوطنين الإسرائيليين.
لم
تزل إسرائيل منذ عام 1948 تستخدم القصف والاجتياح والاعتقال وشبكات العملاء والخنق
الاقتصادي للتحكم بقطاع غزة وكتم أنفاس من يطالب من الفلسطينيين بالعودة إلى
ديارهم التي أخرجوا منها عنوة بدءاً من عام 1947. كثير من هذه الديار يقع على بعد
بضعة أميال منهم فقط.
عندما
وصلت حركة حماس – وهي الحزب الإسلامي الذي ولد في عام 1987 من رحم الفرع الفلسطيني
لجماعة الإخوان المسلمين – إلى السلطة في عام 2006 وسيطرت على غزة، استخدمت
إسرائيل التزام الجماعة بالمقاومة المسلحة ضد الاحتلال ذريعة لفرض حصار على قطاع
غزة لم يزل مستمراً منذ أكثر من 16 عاماً، وهو الحصار الذي نددت به الأمم المتحدة
ومنظمات حقوق الإنسان باعتباره عقاباً جماعياً غير قانوني يوجه إلى ما يقرب من 2.3
مليون من الفلسطينيين الذين يعيشون هناك، الغالبية العظمى منهم من اللاجئين.
لطالما
اعتبرت إسرائيل حماس مجرد منظمة إرهابية، ومع ذلك هي التي عززت دورها منذ 2007
كسلطة حاكمة للقطاع، حيث أتاحت آلية، أفضل ما يمكن أن توصف به هو أنها "توازن
العنف". فطوال تلك الفترة تبنت إسرائيل سياسة قصف قطاع غزة لجز قدرات حماس
العسكرية من خلال تدمير مواقعها العسكرية واغتيال قادتها – وهو ما يشير إليه الجيش
الإسرائيلي بعبارة "جز العشب" – وفي نفس الوقت استمرت في الاعتماد على
حماس للحفاظ على حالة من الاستقرار داخل القطاع. من جهتها، تصرفت حماس بصفتها
السلطة الحاكمة بينما استمرت في مساعيها لتطوير ترسانتها وقدراتها العسكرية.
كلما
احتاجت الحكومة الإسرائيلية إلى تشتيت انتباه الجمهور بعيداً عن الانشغال بقضية
محلية ما، أو كلما غدا الحصار خانقاً جداً لسكان قطاع غزة، ينفجر التوازن على هيئة
مواجهة عنيفة. تعتمد حماس بالدرجة الأولى على الصواريخ والقذائف، بالإضافة إلى
أساليب تتضمن مهاجمة الأهداف العسكرية الإسرائيلية عبر شبكة من الأنفاق المتجاوزة
للحدود وتوجيه الطائرات الورقية المشتعلة نحو الحقول الإسرائيلية. أما إسرائيل فتشن
على قطاع غزة قصفاً جوياً غير متكافئ، عادة ما يفضي إلى مقتل المدنيين، وذلك سعياً
منها لاستعادة القدرة على الردع. ثم تنتهي المواجهات بوقف لإطلاق النار بشروط
تتضمن تخفيف إسرائيل للقيود المفروضة على حركة البضائع والناس من وإلى القطاع المحاصر،
ويستمر الوضع على ذلك إلى حين تكرار نفس الأمر.
كان
معروفاً بأن هذا التوازن غير مستدام، وخاصة لأنه يطمس المطالب السياسية التي تقع
في القلب من مشروع حماس ومن الواقع الذي تعيشه غزة. ولكن طالما استمر، فإنه يحقق
الغايات الاستراتيجية للجانبين. بالنسبة لإسرائيل، كان الإبقاء على حماس كياناً
حاكماً في قطاع غزة – بدلاً من السعي لتدميرها ثم تحمل أعباء التعامل مباشرة مع
الفلسطينيين في غزة –بطريقة ما يبرر جهودها لحصار القطاع وعزله تماماً عن بقية
فلسطين. إن خلق وضع من المفترض فيه أن مليونين من الفلسطينيين لم يعودوا مشكلتها
هي يساعد الدولة على الاحتفاظ بأغلبية يهودية اسمية، حتى فيما لو تجاوز عدد
الفلسطينيين عدد اليهود داخل المناطق التي تقع تحت سيادتها. وحماس من جهتها لطالما
سعت للتنصل من مسؤولياتها في حكم القطاع، مؤثرة البقاء حركة مقاومة مسلحة جل همها
العمليات العسكرية التي تقوم بها، ولكن السيطرة على قطعة من الأرض يسمح لها بتطوير
معسكرات التدريب والكليات الحربية وتكديس الترسانات تحت الأرض والعمل بقدر من
الاستقلال الذاتي النسبي.
يختلف
احتلال إسرائيل لقطاع غزة تماماً عن احتلالها للضفة الغربية، وذلك أن التحكم بقطاع
غزة يتم من الخارج، فلا توجد مداهمات ليلية أو غزوات استيطانية. بإمكان
الفلسطينيين في الداخل التصرف بقدر من الحرية، بينما في الضفة الغربية تخضع كل
أشكال العمل الفلسطيني المنظم للكبت الشديد. كثيراً ما كان المسؤولون الإسرائيليون
يتمنون لو أن قطاع غزة يختفي من الوجود، وبالفعل، لقد مسح بشكل أو بآخر من الوجدان
الإسرائيلي، واعتقدت إسرائيل أن سكان غزة لسوف يرضخون بصمت لتجويعهم حتى الموت
بينما تستمر الحياة بالنسبة لمواطنيها هي بهدوء وإلى الأبد، حتى في المناطق
المحاذية مباشرة للقطاع المحاصر.
أحد
جوانب هذا الترتيب هو احتواء حماس داخل قطاع غزة. (وهذا ما أشرحه بالتفصيل في
كتابي الذي صدر بعنوان "احتواء حماس: ترويض المقاومة الفلسطينية" عن دار
جامعة ستانفورد للنشر في عام 2008). ولكن كان معروفاً باستمرار أن هذا الأمر على
الأغلب وضع مؤقت. على النقيض من منظمة التحرير الفلسطينية قبلها – والتي تخلت عن
التزامها بالكفاح المسلح واعترفت بحق إسرائيل في الوجود على 78 بالمائة من أرض
فلسطين على أمل أن تضمن الحصول على حكم ذاتي فيما تبقى من 22 بالمائة من الأرض –
ظلت حماس باستمرار تعارض فكرة تقسيم فلسطين وأكدت على أنها لم تتخل عن المقاومة
المسلحة. وبدلاً من ذلك، أكدت أنها ستمضي في مسار التحرير الطويل. يمكن أن يستنتج
المرء من أحداث الأيام الماضية أن احتواء حماس هو بالضبط ما أتاح لها فرصة الإعداد
لشن هجوم بهذا الحجم وعلى هذا المستوى.
في
تصريحه الذي أدلى به يوم السبت، دعا محمد الضيف، رئيس الجناح العسكري في حماس،
جميع الفلسطينيين إلى أن يضعوا جانباً الانقسام الذي فرضته عليهم السلطة الاستعمارية
الإسرائيلية، والاحتشاد كشعب واحد، منصباً نفسه بذلك قائداً وطنياً لهم. في
المقابل، هناك السلطة الفلسطينية التي لا يُرى فحسب أنها تتحدث باسم الفلسطينيين
في الضفة الغربية فقط لا غير، بل وتعتبر كذلك جزءاً من نظام الأبارتيد الإسرائيلي،
والذي تنسق معه بشكل وطيد لإدارة الأمن. كثير من الفلسطينيين لا يشاطرون حماس
فكرها، إلا أن الحركة نصبت جيشها خط دفاع أول عن الفلسطينيين ضد العدوان
الإسرائيلي متجاوزة غزة، عبر إطلاق الصواريخ والقذائف من حين لآخر باتجاه إسرائيل
كلما هددت هذه الأخيرة الأماكن المقدسة في القدس أو أطلقت العنان لعنف المستوطنين
واعتداءاتهم في الضفة الغربية.
منذ
بداية الهجوم، سارع الزعماء الغربيون إلى الوقوف بدون تحفظ إلى جانب الحكومة
الإسرائيلية. يصعب ألا يلاحظ المرء النفاق في البيانات الصادرة عن سياسيين ينددون
فيها بسفك الدماء الذي تمارسه حماس، ولكن نفس هؤلاء السياسيين يمتنعون عن انتقاد
شهور من الاعتداءات الجسورة والدموية التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي
والمستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين. ففي عهد أكثر الحكومات اليمينية تطرفاً في
تاريخها، شنت إسرائيل اجتياحات واسعة النطاق ضد المخيمات والبلدات الفلسطينية في
الضفة الغربية، وقتلت وأصابت بجروح عشرات الفلسطينيين. كثيراً ما يقتحم المقاتلون
الإسرائيليون المسلحون شوارع ومنازل الفلسطينيين ليلاً وبشكل يومي تقريباً، وعادة
ما يسحبون الأطفال من فراشهم في منتصف الليل ويجرونهم إلى مراكز الاعتقال الإداري
– أعمال إرهاب تمر على الأغلب دون أدنى ذكر لها في الصحافة الغربية.
لقد
صعدت دولة الاحتلال من وتيرة طرد الفلسطينيين من منازلهم في القدس وفي الضفة الغربية
ووسعت بناء المستوطنات غير القانونية. ويشن المستوطنون اعتداءات أسبوعية على القرى
الفلسطينية، فيهاجمون الفلسطينيين وأحياناً يقتلونهم، ويضرمون النيران ببيوتهم
ويدمرون ممتلكاتهم. وعادة ما يتم ذلك بحماية الجنود الإسرائيليين. وتقوم الشرطة
السرية المحلية بتسهيل وتحفيز ممارسة العنف ضد المواطنين الفلسطينيين.
في هذه
الأثناء يزداد كبار المسؤولين في الحكومة والمتطرفون اليهود المهدويون عنفاً فيما
يمارسونه من استفزازات داخل وحول المسجد الأقصى في القدس الشرقية المحتلة. خلال
الأسابيع التي سبقت هجوم حماس، شددت الدولة من الحصار المفروض على قطاع غزة من خلال
مزيد من القيود على الحركة من وإلى داخل القطاع.
ردت
إدارة الرئيس بايدن على هذا التصعيد في العنف بالتأكيد مجدداً على دعمها الذي لا
يتزحزح لإسرائيل. ومؤخراً أضافت الإدارة إسرائيل إلى قائمة الدول التي يعفى
مواطنوها من تأشيرة الدخول دون ضمان المعاملة بالمثل. كما سعت إلى مد جسور المودة
بين إسرائيل وبلدان المنطقة مثل المملكة العربية السعودية من خلال الدفع نحو إبرام
اتفاقيات تطبيع، ضمن توجه كان قد بدأ في عهد إدارة الرئيس ترامب. مثل هذه
المبادرات يمكن أن تفهم فقط على أنها دليل على أن الإدارة تفترض أن حياة
الفلسطينيين لا قيمة لها، وأن العنف الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين ليس أزمة
تستحق الإدانة وإنما إجراء روتيني مقبول.
من
المتوقع رداً على العنف الذي وقع خلال الأيام الأربعة السابقة أن تبذل الجهود لتجديد
الالتزام بالتقسيم: لإعادة الفلسطينيين إلى صندوقهم. فقد أعلن يؤاف غالانت، وزير الحرب الإسرائيلي، يوم الاثنين بأن غزة الآن رهن"الحصار التام". وأنها
قد قطعت عنها المياه والأطعمة والكهرباء. وقال: "إننا نقاتل حيوانات
بشرية." قد يوحي هذا العنف المدمر الذي أطلق له العنان على غزة بوجود طريقة
ما على المستوى القصير لإعادة التوازن الذي كان قائماً قبل بضع سنين. إلا أن هجوم
حماس أثبت بأن هذا التقسيم العرقي في فلسطين لا يمكن أن يكون بديلاً للمساواة
الحقيقية وللعدل. لا ريب أن استخدام جرافة لتدمير السياج الحدودي سوف يبقى محفوراً
إلى الأبد في الخيال الفلسطيني. فخلال دقائق، ما كان يُظن أنه منشأة لا تقهر، بما
زود به من أحدث تقنيات الرقابة والاستكشاف وبما يقف على حراسته من قناصة
إسرائيليين، انهار كما لو كان شريحة من المعدن الرقيق. والآن، أما وقد انتقل العنف
في غزة إلى المنطقة التي تسيطر عليها إسرائيل، فقد تبدد الوهم بأن بإمكان إسرائيل
الحفاظ على أمنها بينما تبقي الفلسطينيين إلى الأبد داخل الحبس.