تتوالى المؤشرات السلبية الكاشفة عن وضع
الاقتصاد المصري، لكن المؤشرات هذه المرة تأتي في ظل ظروف إقليمية صعبة، حيث تتزامن مع حرب دائرة على حدود مصر الشرقية في قطاع
غزة، لا يُعرف متى تنتهي، ما يعني تأزم جديد للحالة الاقتصادية المصرية.
للمرة الثانية خلال العام الجاري، خفضت وكالة "فيتش ريتنغز" تصنيف مصر الائتماني طويل الأجل إلى "B-" من "B"، بنظرة مستقبلية مستقرة، لافتة إلى بطء التقدم في الإصلاحات، والانتقال إلى نظام أكثر مرونة لسعر الصرف، وفي مراجعات برامج صندوق النقد الدولي، وفق ما نقلته "بلومبيرغ".
أوضحت "فيتش" أن هذا الانخفاض يعكس "المخاطر المتزايدة على تمويل مصر الخارجي، واستقرار الاقتصاد الكلي، ومسار الدين الحكومي المرتفع بالفعل".
وتواجه مصر أزمة تمويل حادة منذ هروب نحو 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من البلاد منذ آذار/ مارس 2022، بجانب تراجع الدعم الخليجي لرئيس النظام المصري، عبد الفتاح
السيسي، الذي وضعت سياساته البلاد في أزمة ديون خارجية وصلت نحو 165 مليار دولار، فيما تضغط آجال الديون وفوائدها على الموازنة العامة للبلاد.
وكشفت "فيتش" عن ارتفاع كبير في استحقاقات الديون الخارجية المصرية، من 4.3 مليار دولار في السنة المالية 2023، إلى 8.8 مليار دولار في السنة المالية المنتهية في حزيران/ يونيو 2024، و9.2 مليار دولار في العام المالي 2025.
"مستقبل مستقر"
وكان لافتا حديث وكالة التصنيف الدولية عن "النظرة المستقبلية المستقرة"، للاقتصاد المصري على الرغم من تخفيض التصنيف، إذا قالت "فيتش" إنها تعكس رؤية الوكالة الأساسية بأن الإصلاحات، بما في ذلك الخصخصة، وتباطؤ المشاريع العملاقة، وتعديل سعر الصرف، "سوف تتسارع بعد الانتخابات الرئاسية في كانون الأول/ ديسمبر المقبل".
وتوقعت أن "يمهد ذلك الطريق على الأرجح لبرنامج جديد وأكبر محتمل لصندوق النقد الدولي، ودعم إضافي من دول مجلس التعاون الخليجي"، مشيرة لاحتمال أن تستكمل مصر الإصلاحات الاقتصادية في كانون الأول/ ديسمبر المقبل.
ويقترب السيسي، من الفوز بولاية رئاسية ثالثة تنتهي في 2030، بعد إزاحة السياسي المصري المعارض وصاحب الحضور الشعبي، أحمد الطنطاوي، من المنافسة على الرئاسيات المقررة الشهر المقبل، وبقاء 3 مرشحين يصفهم مراقبون بالداعمين للسيسي، أكثر من المنافسين.
"التعويم والتضخم"
لكن "فيتش ريتنغز"، ترى أن قدرة البنك المركزي المصري على استعادة سعر الصرف والمصداقية النقدية باتت "غير مؤكدة"، فيما أشارت إلى احتمالات تفاقم أزمات المصريين.
وقالت إن تعويم الجنيه المصري، دون إعادة بناء الثقة وتوفير السيولة الأجنبية في السوق الرسمية، قد يصاحبه تجاوز كبير لأسعار الفائدة والتضخم على حساب استقرار الاقتصاد الكلي والاجتماعي والمالية العامة، لافتة إلى أن التأخير سيؤدي إلى تفاقم هذه المخاطر.
إلى ذلك، يتزامن تخفيض وكالة "فيتش" تصنيف مصر الائتماني من (B إلى –B) مع نظرة مستقبلية مستقرة، مع رفع الحكومة المصرية سعر البنزين للمرة الثانية العام الجاري، وبنسبة 14.3 بالمئة، في زيادة هي الـ15 لسعر الوقود في 4 سنوات.
ويعاني المصريون من تفاقم مفرط في أسعار جميع السلع، ما يكشف عنه وصول معدلات التضخم إلى نسب تاريخية قياسية تعدت 40 بالمئة لكامل الجمهورية على أساس سنوي في أيلول/ سبتمبر الماضي.
وتظل الحكومة المصرية وفق مراقبين، عاجزة عن حل أزمة المصريين مع الغلاء، ومع أزمة انخفاض القيمة الشرائية للجنيه المصري، الذي تراجع مقابل العملات الأجنبية 3 مرات منذ الربع الأول من 2022، حيث يفقد الجنيه نحو نصف قيمته، فيما يبلغ سعر صرف الجنيه رسميا نحو 31 أمام الدولار، ما يقابله بالسوق الموازية نحو 46 جنيها.
أما بخصوص المثير في بيان "فيتش ريتنغز"، فهو توقعها أن تشكل الحرب بين إسرائيل وحركة المقاومة الإسلامية "حماس" مخاطر سلبية كبيرة على السياحة المصرية، مرجحة تضرر القطاع الحيوي على المدى القريب، وكذلك التأثير على "معنويات المستثمرين بقوة".
في الوقت ذاته، أشارت إلى زيادة عدم الاستقرار والمخاطر الأمنية في مصر، قائلة إن قرب مصر من الصراع بين إسرائيل وحماس، والتدفق المحتمل للاجئين، "يزيد من المخاطر الأمنية، خاصة في منطقة سيناء".
"فيتش ريتنغز" التي كانت قد خفضت في أيار/ مايو الماضي، تصنيف مصر الائتماني طويل الأجل إلى "B" من "+B"، بنظرة مستقبلية سلبية، يأتي خفضها الجديد بعد سلسلة تخفيضات دولية أخرى.
وخفضت وكالة "موديز انفستورز سيرفيس" تصنيف إصدارات الحكومة المصرية طويلة الأجل بالعملتين الأجنبية والمحلية إلى "Caa1" من "B3"، في أيلول/ سبتمبر الماضي، فيما خفضت "ستاندرد أند بورز" العالمية تصنيفها الائتماني لديون مصر السيادية طويلة الأجل بالعملة الأجنبية والمحلية إلى "-B" من "B"، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
"حقيقة مهمة مؤلمة"
وفي قراءته الاقتصادية، لبيان وكالة "فيتش ريتنغز"، عن خفض تصنيف مصر والنظرة المستقبلية له، قال الخبير الاقتصادي والأكاديمي المصري، مصطفى شاهين، إن: "تقليل تصنيف مصر يعكس حقيقة مهمة جدا وهي أنها لم تستطيع التغلب على مشاكل سعر الصرف للعملات الأجنبية وخاصة الدولار، وأن الأمر في سبيله إلى التفاقم".
وأكد مدرس الاقتصاد بكلية أوكلاند الأمريكية، في حديثه لـ"عربي21"، أن "هذا الأمر في الحقيقة ارتبطت ارتباطا شديدا بأن عوائد مصر من النقد الأجنبي والتي كانت قائمة على الاقتراض –في عهد السيسي- لم تعد كما كانت في السابق، والأمر الآن أصبح شديد السوء بالنسبة للحكومة المصرية".
وعن تأثير حرب غزة على وضع مصر الاقتصادي في المستقبل القريب، يرى شاهين، أنها "تؤثر على المنطقة بالكامل، وقطاع السياحة المصري، خاصة وأننا مقبلون على موسم الرحلات والإجازات (الكريسماس) في جنوب سيناء، وخاصة من الأوروبيين مثل الألمان والإيطاليين، وكذلك الروس، الذين يرتادون شواطئ شرم الشيخ"، لافتا إلى "تأثر حصيلة البلاد من النقد الأجنبي".
وقال إن "كل ما أخشاه أن تأخذ الحرب اتجاها تصاعديا وتُجر له أطراف أخرى بالمنطقة، وممكن جدا أن تصبح حربا إقليمية بدخول (حزب الله اللبناني)، أو إيران أو سوريا أو الأردن على الخط وكلها احتمالات واردة بنسب مختلفة؛ ولكنها بكل الأحوال ستؤثر جدا على الاقتصاد المصري، أسوأ من الوضع القائم بكثير".
وحول رؤيته لتوقعات الوكالة للاقتصاد المصري برؤية مستقبلية مستقرة، أعرب الأكاديمي المصري عن أسفه من أنه "لو ظلت هذه الحرب ستكون لها تأثيرات سلبية كثيرة عليه"، مستدركا: "لكن أحيانا كثيرة في أوقات الحروب تتجه الدول إلى الإنتاج الداخلي".
لكنه ختم بالقول: "بأمانة شديدة جدا؛ لا أرى ذلك لمصر، لأن النظام الموجود بها نظام حقيقة دمر اقتصاد البلاد، جعلها مدينة بكل هذا الكم من الديون الضخمة، وكل مشروعات التنمية التي أنشأها غير منتجة الإنتاج المربح".
"هنا الأزمة"
وفي تعليقه، قال الكاتب والمحلل الاقتصادي، محمد نصر الحويطي، إن "وكالة فيتش أقل وكالات التصنيف الدولية تأثيرا، وليست مثل موديز أو ستاندرد آند بورز، لكنها في كل الأحوال حذت حذو الوكالات الأخرى في الآونة الأخيرة بتخفيض تصنيف الاقتصاد المصري، ولكن بدرجة أقل من الدرجات السابقة".
وأكد الصحفي المتخصص في الشؤون الاقتصادية، لـ"عربي21"، أن "هذا أمر معروفة أسبابه"، موضحا أن "لدينا مشكلة في تدبير العملات الصعبة من الدولار، ومشكلة مع خروج الأجانب بما يسمى بعمليات استرداد الأرباح أو العوائد على استثمارات الأجانب، ومعروف أن لدينا ندرة بالدولار وعدم كفاية العملات الأجنبية حاجة البلاد".
ويعتقد أن "ما أثارته (فيتش) حول مسألة الانتخابات الرئاسية أو وصول أحد المرشحين لمنصب الرئيس، وكذلك أزمة الحرب الإسرائيلية على غزة؛ كلها عوامل هامشية"، مؤكدا أن "العامل الرئيسي هو أزمة العملة الصعبة، وكل ما حول هذه المسألة عوامل هامشية".
وأوضح أنه "معروف أن الحرب الإسرائيلية على غزة تؤثر على القطاع السياحي تحديدا في جنوب سيناء، ولكن ليس بشكل كبير لأننا لم نصل الموسم السياحي، ولكن هذا الوضع يؤثر بشكل أو بآخر على عوائد الدولار من السياحة".
"إملاءات سياسية"
وقال الحويطي، إن "(فيتش)، كباقي وكالات التصنيف في جزء النظرة المستقبلية المستقرة لمصر، مبينا أنها "تقارير معظمها تقارير سياسية قبل أن تكون اقتصادية، وبها جزء كبير ينطوي على مواءمات سياسية وإملاءات وضغوط لها علاقة بأشياء أخرى".
وأشار إلى احتمالات "مثل ضغوط تمرير مسألة إعادة تسكين أهل غزة في مناطق مصرية، أو ضغوط لإجراء (التعويم) أو تعديل سعر صرف جديد، أو لأشياء لها علاقة بالعملية السياسية برمتها، والانتخابات الرئاسية وإعادة الترشح؛ كلها مسائل ممكنة، لأنه ليس كل تقارير التصنيف تنطوي على عوامل اقتصادية ولديها جانب سياسي".
وقال المحلل الاقتصادي المصري، إن "الاقتصاد المصري في أزمة طاحنة وغير مسبوقة"، موضحا أنه "لدينا ندرة في الدولار، وارتفاع دائم في الأسعار نتيجة عدم القدرة على توفير السلع، لأن معظم استهلاكنا عبارة عن سلع مستوردة وليست محلية الصنع".
وأضاف: "حتى السلع المحلية نلجأ لتصديرها لتوفير عملة صعبة لكي نوفر عملة لاستيراد المازوت لتدوير محطات الكهرباء أو استيراد البنزين"؛ مؤكدا: "لدينا مشكلة عميقة في توفير العملة الصعبة تؤثر ولا تزال تؤثر وستظل تؤثر على المناحي الحياتية، وعلى قدرة الاستثمارات الأجنبية في أن تتخارج، لأن خروجها أهم من دخولها، ولأن ألف باء الاستثمار هو سهولة ذلك وهذا غير متاح لدينا".
ويختم الحويطي، بالقول: "وبالتالي فإن أية وكالة تصنيف تنظر لهذا الموضوع على أنه غير ديناميكي، وحالة غير طبيعية، وبالتالي ستخفض التصنيف مستقبلا مرارا، ما لم يتم ضبط مسألة حصيلة وعوائد الدولار ".
"مخاطر عالية"
وعبر موقع "فيسبوك"، قال الأكاديمي المصري والخبير الاقتصادي، علي عبد العزيز، إن خفض وكالة فيتش تصنيف مصر الائتماني من B إلى -B مع نظرة مستقبلية مستقرة، "يعكس مخاطرة عالية في التمويل".
وأضاف: "يبدو أن (فيتش) اعتمدت على تأخر مصر في تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، وصعوبات حصولها على تمويل خارجي خلال الشهور الماضية، في ظل التزامات خارجية تتجاوز 20 مليار دولار حتى آذار/ مارس 2024".
ويرى مراقبون أن تخفيض تصنيف مصر يجعل من الصعب عليها الحصول على قروض من الخارج، في الوقت الذي يستوجب على الحكومة دفع 29.3 مليار دولار كفوائد للقروض العام المقبل، وأن هذا الوضع يدفعها إلى المزيد من بيع الأصول والتفريط في ممتلكات البلاد بأبخس الأثمان.