يمر اليوم أكثر من شهر على القصف الهمجي لقطاع
غزة، بينما لم تزل المواقف
العربية تتراوح بين التصريح الخجول والتصريح الخذول؛ بما لا يؤشر على أدنى مؤازرة
حقيقية أو تعاطف إنساني، إن لم يكن تعاطف الدم والدين، على الرغم من أعداد الشهداء
التي فاقت عشرة آلاف، 70 في المئة من الأطفال والنساء، والدمار
الهائل الذي أصاب القطاع من جهاته الأربع. ولا أدري كيف يتخيل هؤلاء الساقطون من
العروبة والإسلام ما سيكتبه عنهم التاريخ، وما سترويه الأجيال المتعاقبة عن
مواقفهم الجبانة المتخاذلة من هذه الأحداث الجسام التي لا يمكن وصفها بأقل من
جريمة الحرب والإبادة الجماعية على أعينهم وأعين العالم المنافق ومسمعهما..
صحيح أن بعض الدول العربية كان لها مواقف معقولة مما يجري كالجزائر وتونس
وقطر، إلا أن حجمها السياسي وقدراتها العسكرية، وموقعها الجغرافي؛ لا تمنحها
الفرصة لاتخاذ موقف يتسم بالتحدي والصلابة، بينما ثمة دول مطبعة تمتلك قدرات
عسكرية ووزنا سياسيا نسبيا وقفت موقف المتفرج أو المشارك المصطف في جانب العدو،
كموقف
مصر المتخاذل الهش الذي عرته المعركة، وكشفت ظهره فوق ما كان قبل المعركة،
وربما كانت مصر هي الدولة العربية الوحيدة القادرة على التدخل -بثقلها التاريخي- دبلوماسيا
أو عسكريا؛ لو كان فيها قيادة محترمة وجيش على أهبة الاستعداد، لا يعمل في بيع
الطماطم والبطاطا، ولا يعمل مزارعا في المزارع الفاشلة التي صرف عليها مئات
الملايين من الجنيهات عبثا..
لو كانت مصر تحت قيادة مخلصة شجاعة؛ لما كان لغزة أن تتعرض لكل هذا القصف
الجنوني المدفوع بفصول التوراة المحرفة التي استدعى نتنياهو بعضها في حديثه حين
تلا ما يأتي من سفر التثنية وغيره، وهو يخاطب العالم اليهودي والمسيحي مبررا قتل
الأطفال والنساء: "احرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار".. "اقتلوا
كل ذكر من الأطفال وكل امرأة".. "احرقوا حتى بنيهم وبناتهم بالنار"،
إضافة إلى فصول أخرى لا يتسع المجال لذكرها.. ومصر والدول العربية في واد
والجماهير العربية في واد آخر؛ فإذا كان ما يدعونه من أن الشعب هو مصدر السلطات
كما في معظم الدساتير؛ فأين هي دولنا العربية من المواقف الجريئة فقط؟ لا نريد لهم
أن يتورطوا في حرب هم ليسوا أكفاء لها، فقط نطالبهم بأن يهددوا.. بأن يصرخوا.. بأن
يفتحوا الحدود.. لكن كيف يكون ذلك، ومهمتهم الأولى حراسة الحدود مع الكيان الغاصب؟!
المواقف العربية أقل ما يقال فيها أنها مواقف ذل وعار، فهي أقرب إلى مواقف المشاركين في الحرب منها إلى مواقف الحياد، إن لم يكن الانتصار لدم الأخ والجار القريب الذي يشارك أخاه العربي دينه وعروبته وتاريخه ومصيره المشترك
وفي الأثناء يقول وزير الخارجية المصري سامح شكري
بأن بلاده تمتلك خطوط اتصالات قائمة مع حركة المقاومة الإسلامية
"حماس" منذ زمن طويل بموجب الاتفاق بين مصر ودولة الاحتلال
الإسرائيلي، وأن مصر "تستخدم هذه الاتصالات الآن؛ لتتمكن من
التوصل إلى اتفاق بشأن خروج الرعايا الأجانب".. ولا تقطر من جبينه قطرة حياء وهو يقول بأن مصر تستخدم هذه
الاتصالات للتوصل إلى اتفاق بشأن خروج الرعايا الأجانب، أما
الفلسطينيون؛ فهم لا
يستحقون مجرد المحاولة لإيقاف ما يتعرضون له من مذبحة ممنهجة لم تحرك لسانه بكلمة
عن دماء الأطفال والنساء؛ فالأجانب لهم قداسة، ودم الفلسطينيين رخيص في عرفه وعرف نظامه.
المواقف العربية أقل ما يقال فيها أنها مواقف ذل وعار، فهي أقرب إلى مواقف
المشاركين في الحرب منها إلى مواقف الحياد، إن لم يكن الانتصار لدم الأخ والجار
القريب الذي يشارك أخاه العربي دينه وعروبته وتاريخه ومصيره المشترك، فقد كانت مصر
وبلاد الشام منطقة تشارُك دائم في الحرب والسلم عبر التاريخ، لم يكن لفلسطين أن
تنفصل عن جسم مصر في يوم من الأيام، واليوم تسلمها مصر لمصيرها القاتم دون أدنى ردة فعل تتسم
بالرجولة. ولا يمكننا تجاهل حديث الرئيس المصري الذي قال: "مصر لم تقم بإغلاق معبر رفح منذ اندلاع الحرب في غزة"، وأن "التطورات على
الأرض وتكرار القصف الإسرائيلي للجانب الفلسطيني للمعبر حال دون استمرار عمله".
وهنا يقفز السؤال المركزي حول وزن مصر في عهد
السيسي ومدى قدرتها على إثبات وجودها كدولة محورية ذات كيان مستقل؛ فعجزها عن فرض
إرادة صغيرة بإلزام العدو بالسماح الآمن لإدخال المواد الطبية والتموينية والوقود
للمستشفيات يؤشر على انعدام دورها الإقليمي والدولي؛ فهي تتربص كالتائه الخائف
الذي يخشى على قفاه من صفعة تأتيه في أي وقت؛ فيضحّي بمصر ومكانتها وسمعتها من أجل
بضعة ملايين قد تفقدها مصر المنهكة اقتصاديا فيما لو اتخذت موقفا مقبولا في الحد
الأدنى.
يقفز السؤال المركزي حول وزن مصر في عهد السيسي ومدى قدرتها على إثبات وجودها كدولة محورية ذات كيان مستقل؛ فعجزها عن فرض إرادة صغيرة بإلزام العدو بالسماح الآمن لإدخال المواد الطبية والتموينية والوقود للمستشفيات يؤشر على انعدام دورها الإقليمي والدولي؛ فهي تتربص كالتائه الخائف الذي يخشى على قفاه من صفعة تأتيه في أي وقت؛ فيضحّي بمصر ومكانتها وسمعتها
يأتي الموقف العربي المتخاذل في ظل محرقة لا
تتوقف، واجتياح بري تتصدى له المقاومة بتحد وشجاعة وعنفوان عز مثيله في أي بقعة من
العالم، بينما تنتفض الشعوب العربية كالأسود التي تحيط بها همجية القوة العسكرية
وإغلاق الحدود؛ ولو فتحت الحدود لوجدت طوفانا عربيا بشريا بالملايين يقتحمون أرض
فلسطين من جهاتها الأربع؛ لكن قدرنا أن تحيط بفلسطين أنظمة خانعة مستسلمة جبانة،
كل ما يعنيها أن تبقى على كراسيها وإن كانت تلك الكراسي من قش، لا وزن لها ولا
قيمة.
في المقابل فإن صمود أهل قطاع غزة ومقاومته تؤشر
على انتصار كبير على الرغم مما تتعرض له من تدمير، ومحاولة للاجتياح والتهجير،
وقتل ممنهج على سمع العالم المتآمر وبصره. وهنا لا بد من أن نشير إلى أن غزة وإن
تكبدت عشرات الآلاف بين شهيد وجريح إلا أنها بخاصة وفلسطين بعامة أمة ولادة سرعان
ما تعوض الشهيد بعشرة مشاريع شهادة؛ ففي غزة وحدها معدل الولادة سنويا يقدر بـ55
ألف طفل، وفي شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي كان عدد النساء اللواتي سيلدن 5500
امرأة حامل، ولا ندري كم منهن استطعن الولادة بأمان، وكم منهن استشهدن هنّ وأجنّتهن،
لكن كل ما نعرفه أن غزة قادرة على الصمود وأن كل جيل يأتي للحياة يكون أكثر قوة
وتحديا وإصرارا على الانتصار، كيف لا؟ ولا يوجد بيت في القطاع إلا وفيه شهيد أو
جريح أو أسير..!!
ولنا في قوله تعالى: "إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون،
وترجون من الله ما لا يرجون"؛ فالكيان يألم ألما شديدا؛ جراء قتلاه وأسراه
والدمار الذي أحدثته صواريخ المقاومة، في تل أبيب وعسقلان وسيديروت وكيسوفيم
وأسدود وكل مستوطنات غلاف غزة التي أفرغت من سكانها؛ فشكل ذلك عبئا كبيرا على
الكيان المحتل الذي يتخبط فيما آلت إليه الأوضاع الميدانية والسياسية التي تنخر في
جسم الكيان وتعرضه لأكبر حالة انقسام داخلي يبشر بسقوط نتنياهو وحدوث أزمات
داخلية، هذا ناهيك عن عملية طوفان الأقصى بحد ذاتها، التي جردت الكيان من كبريائه
المزعوم وهيلمانه الكاذب.
ويكفي أن نتابع ما يجري في الكيان من مماحكات ومشكلات ذات صلة بالأسرى لدى
حركة حماس؛ الذين قتل منهم تحت القصف نحو 60 أسيرا حتى اليوم. وهو ما أدى إلى
توترات وارتباكات وأكاذيب كلها تصب في مطلب واحد ألا وهو إسقاط نتنياهو وإخراجه
بعيدا عن الساحة السياسية ومحاكمته ورفضه من جموع
الصهاينة بكل أطيافهم العرقية والأيديولوجية باستثناء بعض حلفائه من اليمين
المتطرف.
أما الاجتياح الذي بدأ في قطاع غزة، فلا أظنه سينجح، ولا أراه قادرا على
الصمود، فالمقاومة أعدت له ما يلزم من الطاقات البشرية والأسلحة المؤاتية، ومهما
بلغت التضحيات فغزة منتصرة، والعدو إلى خسار وبوار، بإذن الله.