أكد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، غير مرة، ضرورة عودة السلطة
الفلسطينية إلى إدارة قطاع
غزة عقب انتهاء العدوان، متبنيا فرضية الاحتلال حول نجاحه في التخلص من حركة المقاومة "
حماس"، في وقت تتصاعد فيه حدة الحرب المدمرة على غزة، ويتكبد خلال الاحتلال خسائر فادحة في الأرواح والآليات.
وجاء الطرح الأمريكي الذي يردده بلينكن في المحافل الدولية منذ عدة أيام، بعد إعلان رئيس وزراء
الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، أن "على إسرائيل أن تولي المسؤولية الأمنية في غزة لفترة غير محددة بعد الحرب"، وهو ما يعارض رؤية الولايات المتحدة التي تؤكد ضرورة عدم التورط طويل الأمد في القطاع، فضلا عن معارضتها إعادة احتلاله.
وعاد نتنياهو للحديث عن مستقبل قطاع غزة بعد العدوان خلال لقاء مع شبكة "فوكس نيوز الأمريكية، أمس الخميس، زاعما أن "إسرائيل لا تسعى إلى غزو غزة، ولا تسعى لاحتلالها، ولا تسعى لحكمها". وأشار إلى "ضرورة تشكيل حكومة مدنية في غزة لضمان عدم تكرار ما حدث في السابع من تشرين الأول/أكتوبر"، دون التطرق إلى أي دور محتمل للسلطة الفلسطينية.
وترى الولايات المتحدة أن على السلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس، أن تؤدي دورا محوريا في ملء الفراغ، الذي سينتج عن الإطاحة بحركة حماس، بحسب الفرضية الإسرائيلية.
والأربعاء، شدد بلينكن بعد اجتماع لوزراء خارجية مجموعة السبع في العاصمة اليابانية طوكيو، على ضرورة أن تكون "أصوات الشعب الفلسطيني وتطلعاته في قلب مرحلة حكم ما بعد الأزمة في غزة. يجب أن يتضمن ذلك حكما بقيادة فلسطينية، وأن تكون غزة موحدة مع الضفة الغربية تحت السلطة الفلسطينية".
وأضاف: "كذلك يجب أن يشمل ذلك آلية مستدامة لإعادة الإعمار في غزة، ومسارا للإسرائيليين والفلسطينيين لكي يعيشوا جنبا إلى جنب كل في دولته المستقلة، مع معايير متساوية للأمن والحرية والفرص والكرامة".
"تشتيت الصف الفلسطيني"
ويفتح الطرح الأمريكي الذي ينطلق من فرضية نجاح الاحتلال في القضاء على حركة حماس، بكونها نتيجة حتمية للعدوان المتواصل على قطاع غزة، باب التساؤلات حول أسباب الإعلان عن الموقف الأمريكي الداعم لدور محتمل للسلطة الفلسطينية، فيما تتواصل المعارك الملتهبة بين المقاومة والاحتلال، وتمضي المقاتلات الإسرائيلية في مختلف مناطق القطاع في حرب إبادة جماعية غير مسبوقة على الشعب الفلسطيني.
الباحث في العلاقات الدولية، محمود علوش، أشار إلى أن الحديث الأمريكي عن دور محتمل للسلطة الفلسطينية في قطاع غزة الآن في ظل تواصل الحرب، هو محاولة لدفع السلطة عمليا لتكون جزءا من مشروع الإطاحة بحركة حماس، مشيرا إلى أن هذا الأمر ينطوي على مخاطر كبيرة بالنسبة للسلطة الفلسطينية في الوقت الراهن.
ورأى علوش خلال حديثه لـ "عربي21"، أن محمود عباس يريد أن تعود السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، لكنه لا يرغب في أن يظهر أنه جزء غير مباشر من هذه الحرب التي أحد أهدافها الرئيسية هي الإطاحة بحركة حماس.
وفي السياق ذاته، نوهت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية إلى أن عباس ينتظر بفارغ الصبر موعد العودة الكبرى إلى قطاع غزة، مشيرة إلى أن رئيس السلطة الفلسطيني كشف عن جزء من لعبته أمام وزير الخارجية الأمريكي خلال لقائهما الأخير في رام الله، إذ قال؛ إن "قطاع غزة جزء لا يتجزأ من دولة فلسطين، وسنتحمل المسؤولية كاملة في إطار الحل السياسي الشامل للضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة".
وشدد علوش على أن جانب أساسي من الدوافع الأمريكية لمحاولة طرح رؤية لإدارة مستقبل غزة ما بعد الحرب تشمل دور للسلطة الفلسطينية، هو محاولة لتخفيف الضغط الدولي على إسرائيل الناجم عن هذه الحرب، ومحاولة أيضا لخلق فجوة في الموقف الفلسطيني بين السلطة وحماس.
بدوره، أوضح الباحث في الشؤون الإسرائيلية صلاح الدين العواودة أن الحديث الأمريكي عن مرحلة ما بعد حماس، هو نوع من الحرب النفسية ضد المقاومة، مؤكدا أنه من غير المنطقي الحديث عن أي سيناريو يستبعد المقاومة صاحبة الفعل على الأرض.
وذكر في حديثه لـ"عربي21"، أن مخاطبة السلطة الآن والحديث عن دور لها في قطاع غزة، يهدف إلى إسكاتها وضمان دورها الأمني في الضفة الغربية ضد التضامن مع غزة، فضلا عن إيهامها بإنجاز سياسي لها بعد الحرب ثمنا لذلك.
وأضاف أن "الطرح الأمريكي يأتي من باب بيع الوهم للعملاء إلى أن تنقضي الحاجة منهم"، بحسب تعبيره.
والخميس، شدد محمود عباس على "أهمية الاعتراف بدولة فلسطين، وأنه لا حل أمنيا أو عسكريا لقطاع غزة"، مؤكدا أن القطاع المحاصر "جزء لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية، ولا يمكن القبول أو التعامل مع مخططات سلطات الاحتلال".
ودعا إلى "وجوب تنفيذ الحل السياسي القائم على الشرعية الدولية، من أجل نيل الشعب الفلسطيني حريته واستقلاله وسيادته، وهو ما يضمن الأمن والاستقرار للجميع في المنطقة".
"رفض إسرائيلي لدور السلطة"
في الوقت الذي تمني فيه الإدارة الأمريكية السلطة الفلسطينية بالعودة إلى قطاع غزة عقب انتهاء العدوان، يرى علوش أن الطرح الأمريكي علاوة على أنه مبكر ويقوم على فرضية أن إسرائيل ستنجح في القضاء على حركة حماس، لكنه أيضا هو طرح غير واقعي؛ لأن السلطة وفق تقديراته، لن تكون قادرة على ملء أي فراغ ناجم عن الإطاحة بحركة حماس في قطاع غزة، فضلا عن أن مشروعية السلطة في غزة ستكون في محل شك كبير في حال تولت إدارة القطاع نتيجة للحرب.
ونوه علوش إلى أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بدورها لا تملك أي رغبة جدية في عودة السلطة إلى إدارة قطاع غزة، مشيرا إلى أن نتنياهو قال بشكل واضح؛ إن "إسرائيل ستدير الأمن في قطاع غزة في مرحلة ما بعد الإطاحة بحركة حماس لفترة غير محدودة".
العواودة اتفق مع طرح علوش حول عدم رغبة الاحتلال في عودة السلطة الفلسطينية، وشدد على أن نتنياهو لا يرى أي دور للسلطة، وبالنسبة له الحديث عن عملية سياسية مع الفلسطينيين كابوس، موضحا أن رئيس الحكومة اليمينية المتطرفة "مقتنع تماما بأن التطبيع مع العالم العربي، ممكن دون الحل مع الفلسطينيين".
وأضاف أن "نتنياهو يرى أن دولة الاحتلال هي الوحيدة القادرة على حفظ الأمن في الضفة والقطاع، لذلك يرفض فكرة التنازل عن الدور الأمني المباشر، ولا يريد من السلطة إلا الاستمرار في إدارة الشؤون المدنية للفلسطينيين تحت الاحتلال وسيطرته الكاملة"، موضحا أن الولايات المتحدة تدرك جيدا موقف نتنياهو لذا تطرح مبادراتها، سيما وأن توجه هذا الأخير يضر بالجهود الأمريكية للتغطية على الجرائم الإسرائيلية".
وأكد الباحث الفلسطيني أن "تعليق آمال العودة إلى حكم قطاع غزة على ظهر الدبابات الإسرائيلية من أبشع الحماقات، لاسيما أن نتنياهو وكل قادة الاحتلال الحاليين ومن سيأتي بعدهم، لا يرون في السلطة شريكا للتسوية".
"تدمير مقومات قيام دولة فلسطينية"
من جانب آخر، أشار علوش إلى أن "حديث نتنياهو عن تولي مسؤولية القطاع لفترة غير محدودة، يعكس جانب مهم من هذا الحرب، وهو أن إسرائيل تسعى لتحقيق أهداف أخرى تتجاوز القضاء على حركة حماس، تتمثل في إحداث تغيير ديمغرافي كبير في خريطة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من خلال محاولة تهجير سكان غزة، بالتوازي مع عمليات التهجير الجديدة التي يقوم بها المستوطنون في بعض مناطق الضفة الغربية".
وشدد خلال حديثه لـ"عربي21"، على أن الهدف من كل هذه التحركات الإسرائيلية، هو تقويض وتدمير كل مقومات قيام دولة فلسطينية في المستقبل، مبيّنا أنه رغم الدعم الأمريكي الواضح لإسرائيل في هذه الحرب، إلا أن هناك اختلافا كبيرا في المقاربتين الأمريكية والإسرائيلية إزاء مستقبل قطاع غزة على وجه الخصوص، وأيضا لمرحلة ما بعد انتهاء الحرب.
وأوضح علوش أن "الموقف الأمريكي يركز على ضرورة أن يكون هناك عملية سلام جديدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، تؤدي إلى حل الدولتين بعد انتهاء الحرب الراهنة. في حين أن إسرائيل التي كانت في ظل حكومات أقل تطرفا خلال العقود الماضية، لم تنخرط بشكل حقيقي في شروط حل الدولتين، لذلك من غير المرجح أن تكون اليوم جزءا من تصور هذا الحل، بينما تقودها أكثر الحكومات يمينية في تاريخها، وتهيمن الحركة الاستيطانية على قرارها".
وبحسب الباحث السياسي، فإن نجاح أي مشروع من هذا القبيل يتوقف على عاملين أساسيين؛ الأول مدى قدرة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على الصمود، وإفشال الأهداف الإسرائيلية الكبرى في هذه الحرب، وثانيا على استعداد دولة الاحتلال نفسها على القبول بعودة السلطة إلى قطاع غزة، والقبول أيضا بالدخول في نقاش جوهري وحقيقي حول سلام يؤدي إلى حل الدولتين.
ورأى علوش أن الاحتلال "لا يبدو مستعدا لمثل هذا الخيار حتى الآن، لذلك فإنه بقدر ما تعكس الجهود الأمريكية من محاولات للحد من هذا الصراع، وتأكيد دور واشنطن كضابط إيقاع فيه، تعكس أيضا مأزق الإدارة الأمريكية في إدارة موقفها من هذه الحرب".
ولليوم الخامس والثلاثين على التوالي، يواصل الاحتلال عدوانه على غزة؛ في محاولة لإبادة أشكال الحياة كافة في القطاع، وتهجير سكانه قسريا، عبر تعمده استهداف المناطق والأحياء السكنية وقوافل النازحين، بالإضافة إلى مزودي الخدمات الطبية والمستشفيات.
وارتفعت حصيلة الشهداء جراء العدوان الوحشي إلى أكثر من 10812 شهيدا؛ بينهم 4412 طفلا و2918 سيدة، فضلا عن إصابة ما يزيد على الـ26 ألفا آخرين بجروح مختلفة، وفقا لأحدث أرقام وزارة الصحة في غزة.