بعد أن أثبتت عملية طوفان الأقصى في السابع من شهر
تشرين الأول/ أكتوبر هذا العام هشاشة الكيان الصهيوني المحتل، وتكبده من قبل أفراد
المقاومة خسائر فادحة لم يتعود عليها هذا الكيان الهش منذ نشأته حتى الآن، سارعت
الولايات المتحدة الأمريكية ومعها أوروبا العجوز بطرح مسألة حل الدولتين، كما ورد في
توصية التقسيم رقم (181) الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكل مرة يطرح
هذا الحل سيئ السمعة مع بداية أي قتال ينشب بين الكيان والمقاومة الفلسطينية،
للتخدير والتضليل، وما ضاعت القدس إلا بفعل التوصية سالفة الذكر حينما نصت على
تدويلها. وحاليا تتردد تصريحات صريحة وغير صريحة بضرورة تدويل قطاع
غزة، وهو ما
يخالف
القانون الدولي، خاصة أن فصائل المقاومة الفلسطينية تعد في القانون الدولي
حركات تحرر وطني، لا يجوز نزع سلاحها، بل بالعكس، المجتمع الدولي بأشخاصه وآلياته
مطالب بمساعدتها عسكريا حتى تنال استقلالها.
والكيان الصهيوني الهش ومعه الولايات المتحدة قد ارتكبا
الجرائم كافة المنصوص عليها بالمادة الخامسة من ميثاق روما والسادسة والسابعة
والثامنة والثامنة مكرر، بل أضافا إليها جرائم لم ترتكب من قبل، وخالفا وانتهكا القواعد والأحكام كافة، الواردة في القانون الإنساني الدولي، ولا سيما اتفاقيات جنيف
الأربع لعام 1949م، وخاصة الاتفاقية الرابعة الخاصة بحماية المدنيين في النزاعات
المسلحة الدولية وغير الدولية والبروتوكولين الإضافيين لها لعام 1977م.
وارتكب الكيان الصهيوني -الذى ظهرت هشاشته بشكل واضح
بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في هذا العام-، والولايات
المتحدة التي تعد فاعلا أصليا في الجرائم المرتكبة كافة ضد المدنيين والمستشفيات
والأطقم الطبية والمدارس والمصالح الحكومية في غزة.
لم تترك القوى الكبرى في المجتمع الدولي وسيلة من
الوسائل المشروعة وغير المشروعة، إلا وتستخدمها لبسط هيمنها وسيطرتها على أشخاص
وآليات المجتمع الدولي، فالصراع بين الخير والشر موجود على مر العصور وكل الدهور،
بل إن المجتمع الدولي لم ينعم طيلة حياته بالأمن والسلام سوى سنوات معدودات، وهذا
الصراع أخذ عدة أشكال ومراحل، وأشد هذه الصراعات فتكا وإجراما وخطورة، تتمثل في
الصراعات الدينية أو العقدية، فهي أشد أنواع الصراعات ضراوة. لم تترك هذه القوى
الكبرى وسيلة من وسائل الحرب المشروعة وغير المشروعة وحتى غير الإنسانية، إلا
واستخدمتها بضراوة وإجرام غير مسبوقين، وبلا قيود أو ضوابط أو رحمة أو إنسانية.
وهذه الوسائل والحروب تتلون في كل عصر بلونه، وتستخدم آلياته السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، بل نستطيع القول ودون مغالاة؛ إن أشد الأسلحة فتكا وخطورة وآثارا أنتجت لذلك.
ومن الوسائل المستحدثة التي تستخدمها القوى الكبرى في
عصرنا الحالي، وسيلة تدويل الأزمات الداخلية الوطنية المفتعلة داخل الدول، وخاصة في
منطقتنا العربية والإسلامية. وقد بدأت هذه الحيلة في الأيام الأخيرة من الخلافة
الإسلامية العثمانية، تحت مزاعم باطلة تتمثل في الدفاع عن الأقليات، وخاصة الدينية
في ولايات الخلافة العثمانية. وتحت هذا الزعم الباطل، تم الحديث عن حقوق هذه
الأقليات والتباكي المصطنع على إهدار حقوقها، وضرورة رفع الظلم عن هذه الأقليات
والسماح لها بممارسة شعائرها وطقوسها الدينية بحرية، وحقها في أن يكون لها قضاء
مستقل وقانون خاص ينظم مسائل تخص العقيدة وخاصة مسائل الزواج والطلاق، التي أطلق
عليها زورا وبهتانا "الأحوال الشخصية".
وبعد الدفاع المزعوم عن الأقليات الدينية، بات يطالب
بحق هذه الأقليات في تقرير مصيرها، وهو المبدأ السياسي الذي دخل القانون الدولي
لتحقيق أغراض سياسية، والدفاع عن مصالح مزعومة غير مشروعة، وليس عن حقوق ثابتة،
وتقدمت المؤامرة خطوة أخرى بضرورة تقرير حق المصير لهذه الأقليات، حتى تتمكن من
ممارسة حريتها الدينية والوطنية. من أجل ذلك نشأت دويلات ودول دون أن تمتلك آليات
وإمكانات الدولة، سواء السياسية أو الاقتصادية وغيرها.
وفي عصرنا الحاضر، يتم تدويل قضايا وطنية داخلية تخضع
بالكامل لسلطة الدولة وسيادتها، وتعتبر من صميم الشؤون الداخلية للدولة، ومنها
تدويل قضية الحرب حاليا على غزة، ومحاولة وضع غزة تحت الوصاية الدولية كما كانت
فلسطين من قبل تحت الانتداب في عهد العصبة، ثم الوصاية الدولية في ميثاق الأمم
المتحدة، وأبرز ما جاء في توصية التقسيم ما يتعلق بمدينة القدس الشريف، التي سلمتها
الأمم المتحدة للصهاينة كمدخل لاقتطاع جزء مهم من فلسطين المحتلة.
1- تدويل غزة بداية لنزع سلاح المقاومة الفلسطينية عن
طريق الهيئة الدولية والمجتمع الدولي، حتى يستريح الكيان الإسرائيلي في فلسطين
المحتلة من السلاح الوحيد الذي استطاع أن يفاجئ كلا من الولايات المتحدة والكيان
الإسرائيلي لأول مرة في تاريخ الصراع.
2- التخلص من سلاح المقاومة بنعته أمام العالم
والمجتمع الدولي بالإرهاب، وليس لتحرير الأرض من المحتل.
3- تشويه صورة المقاومة الفلسطينية، خاصة أنها
إسلامية، مما يجعل منهج المقاومة يعود بقوة إلى الصراع العربي الغربي، وليس فقط
الصراع العربي الصهيوني.
تدويل القضايا الوطنية يعتبر انتهاكا صريحا لمبدأ
السيادة والمساواة فيها في القانون الدولي، المنصوص عليه في المادة الثانية الفقرة
الأولى من ميثاق الأمم المتحدة، التي نصت على: "تقوم الهيئة على مبدأ المساواة
في السيادة بين جميع أعضائها"، وكذلك مبدأ تنفيذ الالتزامات الدولية بحسن نية، الوارد في ميثاق الأمم المتحدة في المادة الثانية الفقرة الثانية، التي نصت على: "لكي
يكفل جميع أعضاء الهيئة لأنفسهم الحقوق والمزايا المترتبة على صفة العضوية، يقومون
بحسن نية بالالتزامات التي أخذوها على أنفسهم بهذا الميثاق".
تدويل غزة يتم بسوء نية من قبل الدول الكبرى، وخاصة
الولايات المتحدة؛ لتحقيق أهداف غير مشروعة ومخالفة تماما للقانون الدولي، وخاصة
القواعد العامة الآمرة فيه، التي لا يجوز حتى الاتفاق على مخالفتها من قبل
الأطراف المعنية، وأي مخالفة لذلك باطلة بطلانا مطلقا، أي لا يرتب عليها القانون
الدولي أي آثار قانونية، ولا يعتبرها القانون الدولي تصرفا قانونيا، بل يعدها عملا ماديا
يقف عند حده، وكذلك مبدأ حق تقرير المصير الذي نص عليه ميثاق الأمم المتحدة في
المادة الأولى (الفقرة الثانية)، والمادة الخامسة الخمسين من الميثاق.
أيضا مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، الوارد
في المادة الثانية الفقرة السابعة من ميثاق الأمم المتحدة، التي نصت على: " تتدخل في الشؤون
التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن
يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحل بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخلّ
بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع". وتطبيقا لهذه الفقرة، يتبين
عدم أحقية الأمم المتحدة في التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة في المجتمع
الدولي، كما حظرت هذه الفقرة على الدول عرض ما يُعتبر من صميم السلطان الداخلي
للحل بناء على ميثاق الأمم المتحدة، أي أن الأمم المتحدة ليست مختصة بالنظر في
المسائل الداخلية للدول الأعضاء.
ختاما: نقرر أن تدويل غزة مخالف للقواعد العامة/
الآمرة في القانون الدولي العام، مخالفة صريحة وكبيرة، مما يجعله عملا ماديا وليس
تصرفا قانونيا، أي إن التدويل باطل بطلانا مطلقا في القانون الدولي العام، ولا
يجوز الاتفاق على مخالفته من قبل الأطراف المعنية، ويعد كل اتفاق على مخالفته من
قبل المجتمع الدولي، أشخاصا وآليات، باطلا بطلانا مطلقا ولا يجوز تصحيحه بقبوله أو
الرضا به من قبل الأطراف.
لذلك؛ ينبغي العمل على إحالة مرتكبي الجرائم الدولية ضد
غزة للمحكمة الجنائية الدولية، أو تشكيل محكمة دولية خاصة مثل رواندا ويوغسلافيا،
أو طلب فتوى من محكمة العدل الدولية حول التكييف القانوني لتلك الجرائم، التي منها
جريمة الإبادة الجماعية طبقا لاتفاقية عدم تقادم جرائم الإبادة لعام 1968م، والعمل
بجد على عدم وضع غزة تحت الوصاية الدولية؛ حتى لا تضيع كما ضاعت مدينة القدس الشريف
بشرقها وغربها.