رَفْعِ
الاحتلال لسقف أهدافه من العدوان على
غزة منذ اليوم الأول،
بدعم أمريكي غربي مباشر، كان ينم عن لحظة غضب وتفكير برأس حامية، نتيجة الضربة
الكبيرة والنوعية التي تلقاها الكيان في السابع من أكتوبر، على يد ألفٍ من قوات
النخبة القسّامية.
كما تشير تلك القرارات المستعجَلة إلى حالة من التفكير الانفعالي،
المبني على صورة انتصار متخيّلة، لا تستند إلى معلومات دقيقة لدى جيش الاحتلال
وأجهزته الأمنية التي برز فشلها في التكهن أو استشراف فرضية إقدام القسام على
مهاجمة فرقة غزة في عقر دارها في
فلسطين المحتلة عام 48.
ولعلّ ما شجّع واشنطن على دعم إسرائيل في هذا التوجه وتلك القرارات
الكبيرة، إضافة إلى خشيتها على مستقبل الكيان الإسرائيلي ووجوده، هو استعراضها
للخرائط الجغرافية والطبوغرافية لقطاع غزة، وعدد المقاومة وإمكاناتها، فظنّت أن
الأمر مجرّد جولة تدريبية لقواتها، تستحق المغامرة لمدة أسبوعين أو ثلاثة حتى تكون
غزة وحماس عبرة لمن بعدها، بعد الإطاحة بها بالضربة القاضية.
الآن ومع الشهر الثاني من المعارك الضارية، وتكبّد الاحتلال لخسائر
تاريخية في عتاده وعديده، ومع ارتفاع منسوب الأدرينالين في رأس قيادة الاحتلال
السياسية والعسكرية، بدا المشهد أكثر تعقيداً، وبدأ التوتر والغضب يتملّك قيادة
الاحتلال، ما دَفَعَ البيت الأبيض في أكثر من محطة لكبح جماح تلك القيادة عن
التهور في اتخاذ قرارات قد تجر واشنطن والمنقطة إلى أتون معركة قد لا تنتهي قريباً.
في مرور سريع على التحولات والتحدّيات التي تواجه قيادة الاحتلال،
وتشكّل له صداعاً مستداماً، يمكن في عجالة رصد النقاط التالية:
أولاً ـ التحوّل الكبير في الرأي العام الدولي، خاصة في واشنطن ولندن
وباريس ومدريد وغيرها من العواصم الأوروبية، ضد سياسة إسرائيل وقتلها الأطفال
والمدنيين العزّل وقصفها المستشفيات والمراكز الصحية، ما شكّل سقوطاً لسردية
الاحتلال وصورته التي عمل عليها طوال 75 سنة ككيان ديموقراطي أخلاقي متحضّر، ما
أدى بدوره إلى حَرَج وضغط شديد على الحكومات الغربية التي أشبعت العالم حديثاً
وتنظيراً عن القانون والأخلاق وحقوق الإنسان.
قيادة الكيان السياسية والعسكرية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، وحسب تصريحاتهم وظهورهم المتكرّر أمام وسائل الإعلام، يتملّكهم الاحتقان والغضب والمرارة لفشلهم في تحقيق إنجازات تُذكر يمكن التباهي بها أمام الجمهور الإسرائيلي أو حتى الدول الداعمة، ما يزيد لديهم مشاعر العجز المتضخّم والمكافئ لمستوى القوة المفرِطة التي تعجز عن التقدّم في قطاع غزة.
ثانياً ـ فَشَل الكيان الإسرائيلي؛ في وسْم حماس بالإرهاب في مجلس
الأمن، وفشله في الجمعية العامة التي دعت لفتح ممرات إنسانية تُفضي لوقف العدوان
على غزة، ناهيك عن تعاظم الانتقادات الدولية لجرائم الاحتلال، والتي كان آخرها
تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون الذي طالب إسرائيل بوقف استهدافها للمدنيين
والمستشفيات، داعياً لوقف
الحرب، هذا ناهيك عن مواقف رئيس وزراء النرويج، ونائبة
رئيس وزراء بلجيكا، وتصريحات الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش الذي أكّد
مؤخراً؛ أن ما قامت به حماس لا يبرر العقاب الجماعي الذي تمارسه إسرائيل بحق قطاع غزة.
ثالثاً ـ أهم تحدي تواجهه إسرائيل هو فشلها العسكري والاستخباري في
عدوانها المفتوح على قطاع غزة، في ظل الخسائر الكبيرة التي تتكبّدها منذ بدء الحرب
البريّة قبل أسبوعين؛ حيث أعلنت كتائب القسام عن تدمير نحو 160 دبابة وآلية
عسكرية، واعترف الاحتلال بمقتل وإصابة المئات من جنوده، في وقت يتحوّل فيه تقدم
قوات الاحتلال في غزة إلى استنزاف ونزف شديد أمام ضربات كتائب القسام والمقاومة
الفلسطينية.
رابعاً ـ التحوّل التدريجي في الجبهة الإسرائيلية الداخلية من داعمة
للحرب إلى متشككة في نتائجها؛ لشعورها بفقدان الأمن جنوباً مع غزة، وشمالاً مع
لبنان بفعل النزوح الذي تجاوز الربع مليون إنسان، وتراجُع الاقتصاد حيث بلغت تكلفة
العدوان على غزة نحو 260 مليون دولار يومياً حسب بعض التقارير الغربية، ناهيك عن
الشلل الذي ضرب قطاع السياحة والخدمات، وتراجع قيمة العملة والأسهم في البورصة،
إضافة إلى الجنود والضباط الأسرى لدى حركة حماس وفشل الاحتلال، رغم حشده لكافة
إمكاناته العسكرية والأمنية، في تحرير أيٍ منهم حتى اللحظة.
قيادة الكيان السياسية والعسكرية، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو، وحسب
تصريحاتهم وظهورهم المتكرّر أمام وسائل الإعلام، يتملّكهم الاحتقان والغضب
والمرارة لفشلهم في تحقيق إنجازات تُذكر يمكن التباهي بها أمام الجمهور الإسرائيلي
أو حتى الدول الداعمة، ما يزيد لديهم مشاعر العجز المتضخّم والمكافئ لمستوى القوة
المفرِطة التي تعجز عن التقدّم في قطاع غزة.
على صلة بالفشل جنوباً في غزة، ترتفع وتيرة الاشتباك شمالاً على
الحدود مع لبنان، ويرتفع معها حجم الخسائر في جنود الاحتلال، في مشهد مهين لم يعتد
الاحتلال عليه، ويحاول استيعابه والتعايش معه مكرهاً حتى لا تنحرف بوصلته عن النيل
من حماس في غزة، ما يزيد مستوى التوتر والقلق لدى بنيامين نتانياهو ووزارء حربه.
تراكم تلك العوامل بدأ يرسم مستقبل بنيامين نتانياهو الذي يعاني من
انحسار في مستوى التأييد له، حيث أعرب نحو 76% من الجمهور الإسرائيلي عن تأييدهم
لاستقالته من منصبه كرئيس للوزراء.
هذا السياق يتعارض مع طبيعة وتطلعات بنيامين نتانياهو العاشق للسلطة،
حتى لو كان على حساب الدولة، وهو ما قاده في أكثر من مرّة، عبر تغريدات إعلامية،
لتحميل الجيش والأجهزة الأمنية مسؤولية الفشل في مواجهة حركة حماس.
تبقى الهزيمة التي لم يعتد عليها الاحتلال ولا يتحمّلها كيانه وجودياً، أبعد خيار يمكن التفكير فيه، ما يفتح المجال أمام قيادة الاحتلال على خيارات شتّى لا تبدو أقل عنفاً مما يجري في قطاع غزة، ما يضع المنطقة برمّتها أمام مغامرات محتملة قادمة.
هذا الغرور لدى بنيامين نتنياهو، والتطرف لدى وزير حربه يوآف غالانت
والذي اقترح توجيه ضربة مباغتة وخاطفة لحزب الله في الأيام الأولى من المعركة، قد
يسوق المشهد إلى احتمالين أساسيين:
الاحتمال الأول، يَقْضي باستخدام المزيد من القوّة المفرِطة ضد قطاع
غزة وحركة حماس، وهو خيار غير مضمون النتائج بالقضاء على حركة حماس، وفقاً لمعطيات
الميدان المبينة على مقاومة نوعية ناجحة لكتائب القسام، وصمود أسطوري للشعب
الفلسطيني، ما يعني وصول الاحتلال إلى حائط مسدود وفشل مدويٍ سيُفضي حكماً إلى
البحث عن مخرج من مستنقع قطاع غزة، بعد أن تكون إسرائيل قد دُمغت بهزيمة تاريخية
استثنائية أمام حركة حماس والشعب الفلسطيني في غزة.
الاحتمال الثاني، أن يلجأ بنيامين نتانياهو وقادته العسكريين إلى
الهروب إلى الأمام، باستهداف لبنان وحزب الله والمقاومة الفلسطينية هناك، بتوسيع
دائرة المعركة بمبادرة إسرائيلية مباغتة، لأسباب شخصية تتعلق بمستقبل بنيامين
نتانياهو الذي يبحث عن خشبة إنقاذ وصورة انتصار، عبر جر الولايات المتحدة إلى قلب
المعركة والتخلّص من ضغوطها، الناتجة عن خشية واشنطن من تورّط إسرائيل وتوريطها في
الشرق الأوسط، وإشغالها تالياً عن مواجهة روسيا والصعود الصيني عالمياً.
قد يقود النزق والاستعلاء لدى بنيامين نتنياهو، وهو الذي لا ينسجم مع
الرئيس بايدن وسياساته بالعموم، إلى الاقدام على مغامرة بتوسيع دائرة الاشتباك مع
لبنان، لفرض أمر واقع على واشنطن والاتحاد الأوروبي وتوريطهم في المعركة، بهدف
التخلّص من حركة حماس وحزب الله دفعة واحدة، والظهور بمظهر الزعيم المخلّص
لإسرائيل، ولضمان بقائه في السلطة.
لا شك أن أي خطوة إسرائيلية من هذا القبيل ليست محل ترحيب من
المنظومة الغربية ومن واشنطن والرئيس الأمريكي بايدن، الذي يخشى التورّط في معركة
واسعة في الشرق الأوسط قُبيل الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني/
نوفمبر من العام القادم، لكن المأزق الذي تمر به إسرائيل والأنانية التي تعتري
قيادة الاحتلال قد تأخذهم إلى مغامرة يرون فيها مصلحتهم ومصلحة كيانهم مقدّمةٌ على
مصلحة الآخرين حتى الحلفاء منهم؛ أليسوا هم صفوة الخَلْق والآخرون أغيار حيوانات
في خدمتهم حسب عقيدتهم التي تعشعش في رؤوسهم وخاصة المتطرفين منهم الذين هم اليوم
يمسكون برأس بنيامين نتانياهو ويتحكمون في مصير حكومته أمثال بن غفير وسموتريتش؟
الخيارات أمام قيادة الاحتلال تبدو كلها صعبة ومعقّدة، وطالما جبهة
غزة صامدة، فإن بنيامين نتنياهو وقيادته العسكرية سيبقون في الزاوية وخياراتهم بين
السيّء والأسوأ، بين الهزيمة في غزة أو التصعيد الذي قد تُمليه إكراهات السياسة
وليس خيارات السّاسَة المأخوذة برأس بارد فقدته قيادة الاحتلال منذ السابع من
أكتوبر.
تبقى الهزيمة التي لم يعتد عليها الاحتلال ولا يتحمّلها كيانه
وجودياً، أبعد خيار يمكن التفكير فيه، ما يفتح المجال أمام قيادة الاحتلال على
خيارات شتّى لا تبدو أقل عنفاً مما يجري في قطاع غزة، ما يضع المنطقة برمّتها أمام
مغامرات محتملة قادمة.