نشر موقع "
ميدل إيست آي" البريطاني مقالا للكاتب جوزيف مسعد، تحدث فيه عن ما تكشفه جرائم الإبادة الجماعية غير الأخلاقية التي ارتكبها كيسنجر، وتثبت أنه ممثل مخلص للنخب الأمريكية التي خدمها طوال حياته.
وقال مسعد في مقاله الذي ترجمته "عربي21" إنه عندما كان عمر كيسنجر 15 سنة، في سنة 1938، فر هو وعائلته من ألمانيا النازية إلى نيويورك قبل ليلة الكريستال. فعندما انتقل المراهق هاينز لكي يصبح هنري في الولايات المتحدة، لم يكن أحد ليتوقع أنه قد يأمر بقتل مئات الآلاف من الناس عندما يصبح بالغًا، ويصبح مليونيرًا نتيجة لذلك. في سنة 1943؛ عندما كان كيسنجر في العشرين من عمره، جُنِّدَ في الجيش الأمريكي، وحصل على الجنسية الأمريكية في السنة ذاتها. وخدم في قسم استخبارات الجيش بسبب طلاقته في اللغة الألمانية وتم تعيينه مسؤولًا عن فريق في ألمانيا التي تحتلها الولايات المتحدة، موكول بمهمة إزالة النازية.
بعد الحرب؛ التحق كيسنجر بجامعة هارفارد، وتخرج منها بدرجة البكالوريوس في العلوم السياسية عام 1950 والدكتوراه سنة 1954. وبينما كان لا يزال في المدرسة سنة 1952، عمل في مجلس الاستراتيجية النفسية التابع للحكومة الأمريكية، والذي شكله البيت الأبيض سنة 1951 للدعاية ضد الشيوعية ودعم الولايات المتحدة و"الديمقراطية"، وكان ذلك أثناء الغزو الأمريكي لكوريا عندما قتلت القوات الأمريكية ملايين الأشخاص.
"دمر كل شيء"
ونقل عن قائد القوات الجوية الأمريكية اللواء إيميت أودونيل تصريحاته في جلسة استماع بمجلس الشيوخ في ذلك الوقت: "لقد تم تدمير كل شيء. لا يوجد شيء بهذا الاسم… لم تعد هناك أهداف أخرى في كوريا لقصفها". ولا تزال الحرب النفسية الأمريكية تشير إلى جرائم الإبادة الجماعية الأمريكية في شبه الجزيرة الكورية باسم "الحرب الكورية". وخلال ندوة هارفارد الدولية، التي ساعد في تأسيسها كبرنامج صيفي يجمع قادة المستقبل الشباب من جميع أنحاء العالم، تطوع كيسنجر للتجسس على الحاضرين لصالح مكتب التحقيقات الفيدرالي وزملائه في هارفارد. وخلال مسيرته الأكاديمية؛ أصر كيسنجر على أن شرعية النظام الدولي لا تتطلب سوى موافقة القوى العظمى. أما بالنسبة للأخلاق؛ فقد قال إنها لا علاقة لها بالموضوع. وكما يوضح توماس ميني في مجلة نيويوركر، بالنسبة لكيسنجر، فقد "كان اللاتحديد الأخلاقي شرطًا لحرية الإنسان".
السياسة النووية
وأوضح أنه كان مديرًا لدراسة الأسلحة النووية والسياسة الخارجية في مجلس العلاقات الخارجية في الفترة من 1955 إلى 1956، ونشر كتابه الأسلحة النووية والسياسة الخارجية في سنة 1957؛ حيث جادل بأن الولايات المتحدة ينبغي أن تستخدم الأسلحة النووية التكتيكية على أساس منتظم في الحرب لضمان تحقيقها النصر.
وحسب كاتب سيرته الذاتية اليميني، نيال فيرغسون، فإن حجة كتاب كيسنجر "يمكن بسهولة تقديمها كدليل" على أنه كان "مصدر إلهام لرواية دكتور سترينغلوف لستانلي كوبريك". وحصل كيسنجر أخيرًا على وظيفة في جامعة هارفارد بدعم من العميد ماك جورج بندي، على الرغم من اعتراض أعضاء هيئة التدريس بأن كتابه عن الأسلحة النووية لم يكن ذا صبغة أكاديمية. ولم يقتصر عمله على المجال الأكاديمي، بل أصبح مستشارًا للسياسيين والمرشحين للرئاسة، مثل نيلسون روكفلر، وعندما أصبح بندي مستشار الأمن القومي للرئيس جون كينيدي في سنة 1961، انضم إليه كيسنجر كمستشار، وهو المنصب الذي حافظ عليه في عهد ليندون جونسون.
وأكد المقال أنه على ضوء تعاطف كيسنجر مع استخدام الأسلحة النووية التكتيكية، فقد دُعي لزيارة "إسرائيل" في سنة 1962، ومرة أخرى في سنة 1965، على الأرجح من قبل المهندس الإسرائيلي للبرنامج النووي الإسرائيلي، شيمون بيريز. وتكشف الوثائق الحديثة أنه في تقريره إلى السفارة الأمريكية في تل أبيب لسنة 1965، بناءً على اجتماعات مع مسؤولين وعلماء إسرائيليين، كان يعتقد بالفعل أن "إسرائيل" كانت تطور أسلحة نووية، وهو البرنامج الذي نُظِرَ إليه "بتفهم كبير، إن لم يكن بتعاطف". وهذا ما من شأنه أن يقوده في سنة 1969؛ كمستشار للأمن القومي لنيكسون، إلى التوسط في تفاهم إدارة نيكسون بشأن برنامج الأسلحة النووية الإسرائيلي الذي طوّر بالفعل.
ورغم أن كيسنجر كان يؤمن بعدم جدوى الحرب الأمريكية في فيتنام، إلا أنه تآمر مع حملة ريتشارد نيكسون الانتخابية سنة 1968 من خلال تسريب معلومات إليها من محادثات السلام في باريس لإطالة أمد الحرب، خشية فوز الديمقراطيين في الانتخابات. وبمجرد انتخاب نيكسون؛ فقد تولى كيسنجر منصب مستشار الأمن القومي في كانون الثاني/ يناير 1969، وهو المنصب الذي شغله حتى سنة 1975.
حملة كمبوديا القاسية
قرر كيسنجر؛ العازم على هزيمة جبهة التحرير الوطني الفيتنامية الجنوبية وفيتنام الشمالية، تكثيف القصف التكتيكي السري لكمبوديا، والذي بدأ في عهد جونسون في سنة 1965، ليتحول إلى حملة وحشية من القصف الشامل استمرت حتى سنة 1973. وبحلول سنة 1973؛ قُتل ما بين 150 ألفًا ونصف مليون كمبودي. وقد وصف كيسنجر القصف المفرط بقوله: "نحن نفضل أن نخطئ في القيام بالكثير".
وأشرف كيسنجر شخصيًّا على جداول عمليات القصف وتوزيع الطائرات من منطقة إلى أخرى، وبحسب ما ورد كان يحب لعب الـ"بومباردييه". وعندما بدأ هو هو ونيكسون في قصف فيتنام الشمالية مرة أخرى، كان كيسنجر متحمسًا جدًا لـ"حجم الحفر التي خلفتها القنبلة". وتماشيًا مع دعمه لاستخدام الأسلحة النووية، ابتكر خطة لقصف فيتنام الشمالية بالقنابل النووية في سنة 1969 كجزء من عملية تسمى دوك هوك.
وبينما وصفه البعض في دوائره الاجتماعية بأنه "كيسنجر المحبوب"، ووُصِف في المجلات النسائية بأنه "ودود دائمًا، لا سيما مع النساء"، فلم يكن لطيفًا عندما يتحدث عن النساء اللواتي كان يكرههن، مثل رئيسة الوزراء الهندية السابقة أنديرا غاندي، التي وصفها بـ"العاهرة" و"الساحرة"، في حين نعت الهنود بـ"الأوغاد".
الانقلابات و"تفوق البيض"
وأضاف أن كيسنجر دعم في سنة 1971حملة الإبادة الجماعية التي شنها الرئيس الباكستاني السابق يحيى خان ضد باكستان الشرقية (بنغلاديش)، وفي سنة 1975، أيد حرب الإبادة الجماعية التي شنها الدكتاتور الإندونيسي سوهارتو على شعب تيمور الشرقية، والتي قُتل فيها ثلث السكان. ووصل سوهارتو إلى السلطة من خلال انقلاب دعمته الولايات المتحدة في عام 1965، والذي أطلق العنان لمذابح ضد ما يصل إلى مليون إندونيسي باعتبارهم شيوعيين مشتبها بهم.
وعندما انتُخب الاشتراكي سلفادور الليندي في سنة 1970 رئيساً لتشيلي؛ علق كيسنجر قائلًا: "لا أفهم لماذا يتعين علينا أن نقف مكتوفي الأيدي ونراقب بلدًا يتحول إلى الشيوعية بسبب عدم مسؤولية شعبه". ودفع نيكسون لتنظيم انقلاب عنيف ضد الليندي، ما أخضع البلاد للحكم الفاشي على مدى العقد ونصف العقد التاليين، مع مقتل الآلاف على يد المجلس العسكري المدعوم من الولايات المتحدة.
أما بالنسبة للشرق الأوسط؛ فإلى جانب تعزيز العلاقات مع مستعمرة إسرائيل الاستيطانية الصهيونية، التي أصبحت حليفًا رئيسياً للولايات المتحدة خلال سنوات نيكسون وفورد، فقد سعى كيسنجر إلى تسليح إسرائيل خلال حرب سنة 1973 من أجل "منع النصر العربي". وأدت مساعدته العسكرية الطارئة لإسرائيل خلال الحرب إلى عكس الانتصارات المبكرة للجيشين المصري والسوري وضمنت فوز إسرائيل في الحرب، كما أنه ضمن عدم إمكانية إقامة علاقات أمريكية مع منظمة التحرير الفلسطينية.
ووقع كيسنجر في أيلول/ سبتمبر 1975،"مذكرة تفاهم" مع الإسرائيليين تلزم الولايات المتحدة بعدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية أو التفاوض معها ما لم تعترف "بحق إسرائيل في الوجود" كدولة نظام عنصري تؤمن بالتفوق اليهودي. وأخيرا، قام رئيس منظمة التحرير الفلسطينية السابق ياسر عرفات بذلك في عام 1988 في جنيف، ومرة أخرى في سنة 1993 مع التوقيع على اتفاق أوسلو.
سجل مرعب
ونوه المقال بأن كيسنجر ضمن تواصل الاستعمار الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية لعقود قادمة، فلقد كان مهندس استسلام الرئيس المصري السابق أنور السادات لإسرائيل وبيع الحقوق الفلسطينية في كامب ديفيد، وصمم ما يسمى "عملية السلام" التي ترعاها الولايات المتحدة، والتي حددت سياسة الولايات المتحدة تجاه الفلسطينيين وإسرائيل والتي جلبت منذ ذلك الحين المزيد من الاضطرابات في معظم أنحاء العالم العربي.
وتابع بأنه في ظل الترويج للحرب التي شارك فيها كيسنجر حول العالم، ومساعدة الطغاة الفاشيين على الوصول إلى السلطة ودعم تفوق البيض في المستعمرات الاستيطانية في جنوب إفريقيا وفلسطين، يُنسب إليه الفضل في السعي إلى الانفراج مع الاتحاد السوفييتي وفتح العلاقات الدبلوماسية مع الصين. حتى إنه حصل على جائزة نوبل للسلام لتفاوضه على "السلام" مع فيتنام الشمالية وسط قصفه الوحشي لكمبوديا.
واستمر كيسنجر في تقديم المشورة لرؤساء الولايات المتحدة اللاحقين ودعم حروبهم، بما في ذلك رونالد ريغان وجورج دبليو بوش. ففي سنة 1982؛ أسس شركته الاستشارية الخاصة، كيسنجر أسوشيتس، بقائمة عملاء سرية للغاية، لتقديم المشورة للشركات والبنوك الإمبريالية الأمريكية والأوروبية، ودكتاتوريي العالم الثالث المدعومين من الغرب، والمستعمرات الاستيطانية العنصرية البيضاء. وبلغ آخر صافي ثروته المبلغ عنها حوالي 50 مليون دولار. في المقابل، جعل سجل كيسنجر المروع محبوبًا لدى العديد من الساسة الليبراليين في الولايات المتحدة، فلقد أحبه آل كلينتون كثيرًا وحضروا حفلات أعياد ميلاده. ولم تستطع هيلاري كلينتون التوقف عن الثناء عليه على النصيحة التي قدمها لها عندما كانت وزيرة للخارجية، مؤكدة أن "كيسنجر كان بمثابة صديق بالنسبة لها".
واستشهد الرئيس السابق باراك أوباما بكيسنجر باعتباره يدعم وجهات نظره الخاصة بشأن إيران خلال الحملة الرئاسية لسنة 2008، لكن كيسنجر نفى ذلك. واستخدم إدارة أوباما سنة 2010، سياسات كيسنجر القاتلة في كمبوديا لتبرير عمليات القتل المميتة التي ارتكبها أوباما باستخدام طائرات بدون طيار ضد مواطنين أمريكيين وغير أمريكيين في مختلف أنحاء العالم.
لم يكن شخصية مستقلة
وأكد الكاتب أن وزير دفاع أوباما منح كيسنجر المتهم بكونه مجرم حرب سنة 2016، جائزة "تكريمًا على سنوات خدمته العامة المتميزة". وفي السنوات القليلة الماضية، دعي من قبل العديد من الجامعات الأمريكية الليبرالية، بما في ذلك معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وجامعة ييل، وجامعة نيويورك، والتي احتفلت بالذكرى الخامسة والأربعين لحصوله على جائزة نوبل. وفي نيسان/ أبريل 2018، كان كيسنجر ضيفًا في أول عشاء رسمي لترامب في البيت الأبيض، إلى جانب أصدقاء ترامب المليارديرات.
وتجدر الإشارة إلى أنه في كتابه عن كيسنجر، اتهمه هيتشنز بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم "ضد القانون العام أو العرفي أو الدولي، بما في ذلك التآمر لارتكاب جرائم قتل واختطاف وتعذيب". ولكن يبدو أن هيتشنز لم يدرك أن كيسنجر لم يكن شخصية مستقلة، وأن كل جريمة من هذه الجرائم ينبغي توجيهها ضد حكومة الولايات المتحدة بشكل عام. في الواقع، لم تحد كل السياسات الإمبريالية القاتلة التي انتهجها كيسنجر عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة قبل عهده أو بعده. وهذا ما جعله شخصية شعبية بين رجال الأعمال والنخبة الفكرية الأمريكية، الليبراليين والمحافظين على حد سواء.
وخلص الموقع إلى القول إن جرائم الإبادة الجماعية غير الأخلاقية التي ارتكبها كيسنجر ليست أكثر وحشية من جرائم الولايات المتحدة منذ تأسيسها. إن كيسنجر لم يكن سوى ممثل مخلص للنخب الأمريكية المجرمة التي خدمها طوال حياته - والتي ضمنت له حياة طويلة من الشهرة والثروة والرفاهية. والجدير بالذكر أن وفاة كيسنجر في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تزامنت مع اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني.