رعب
واعتقال وتعذيب وقنص وتهديد وقتل بدم بارد، هذا ما تواجهه
الكوادر الطبية، البلسم الشافي،
المرابطة في الخطوط الخلفية في قطاع
غزة من شماله إلى جنوبه.
بحت
حناجر هذه الكوادر وهي تصرخ في الضمير العالمي لوقف استهداف المستشفيات وكوادرها، التي
لم تعد قادرة على تقديم أية خدمة للمصابين الذين في غالبيتهم مصابون بجروح خطرة، يموتون
وهم ينزفون أمام الكاميرات.
غالبية
المستشفيات والعيادات والمرافق الصحية والطبية أخرجت من الخدمة بعد قصف الاحتلال لمبانيها،
وتحويلها إلى ثكنات عسكرية يحتجز بداخلها عشرات من الكوادر الطبية والمرضى والنازحين.
مصير
مجهول يواجهه أكثر من 110 من الكوادر الطبية في غزة، الذين قام الاحتلال باختطافهم في أثناء
قيامهم بواجبهم الإنساني؛ عقابا لهم على صمودهم في أماكن عملهم، ورفضهم التخلي عن واجبهم
المهني والوطني والإنساني.
فيما
كتبت الشهادة لأكثر من 300 من العاملين في هذا القطاع، من طب وتمريض ومختبرات وأشعة
وصيدلة وإسعاف، وغيرها من الخدمات الطبية المساعدة.
لا يتوقف
الاحتلال الفاشي الذي تمرد على جميع المواثيق والقوانين والعهود الأخلاقية التي عرفها
الإنسان المعاصر، عن عمليات الخطف والتعذيب للأطباء والممرضين الفلسطينيين بشكل ممنهج،
واستهداف سيارات الإسعاف، أمام أنظار العالم الذي يتموضع على بعد أمتار من الإبادة.
على
رأس الكوادر المختطفة، يبدو مدير مستشفى الشفاء الدكتور محمد أبو سلمية، الذي اعتقله
جيش الاحتلال لأنه رفض أن يتخلى عن مرضاه، وبقي صامدا في خندق الإنسانية يخدم مرضاه
في الخطوط الخلفية، خطوط النار والرصاص والمدافع والدبابات.
فيما
كانت إصابة الدكتور منير البرش المدير العام لوزارة الصحة في قطاع غزة بجروح مع جميع
أفراد عائلته، واستشهاد ابنته الحافظة لكتاب الله في قصف إسرائيلي استهدف منزلا في
جباليا، رسالة بأن العقل المريض الذي يدير هذه الحرب في تل أبيب، مجرد من أية مشاعر
أو أحاسيس، وبأنه يعامل الفلسطينيين وكأنهم خارج العنصر البشري.
ورغم
أنها تعمل في حقول الألغام، تهز هذه الكوادر ما في العالم من إنسانية وقيم، لفتح الأبواب
على مصراعيها لإنقاذ حياة 5 آلاف من جرحى العدوان على القطاع، الذين يصنفون بأنهم حالات
خطرة ومعقدة يجب إخراجهم للعلاج في الخارج لإنقاذ أرواحهم.
ومن
بين 53 ألف جريح منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، لم يخرج للعلاج من قطاع
غزة سوى 411 مواطنا فقط.
ورصدت
وزارة الصحة الفلسطينية في غزة ما يزيد عن 50 ألف سيدة حامل، ونحو 900 ألف طفل يعانون
من سوء التغذية.
أمام
هذه المحرقة والجرائم المتواصلة، تكتفي الجهات
الدولية ذات العلاقة والصلة مثل منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر ومنظمة اليونسيف
ووكالة "الأونروا"، بموقف المتفرج العاجز الحيران والبارد الذي يكتفي بدور
إحصاء الموتى والكوارث، وكأنها منظمات لحفر القبور، والبكاء على الأطلال.
الكوادر
الطبية يعملون بلا أدوات، والمساعدات التي تدخل قطاع غزة شحيحة ولا تغني ولا تسمن من
جوع، لا يتجاوز عددها 70 شاحنة يوميا، في الوقت الذي تتطلب فيه احتياجات السكان دخول
ألف شاحنة يوميا وأكثر.
واضطر
الأطباء أحيانا لإجراء عمليات جراحية دون تخدير لعدم توفره، وبعض المصابين مات من الصدمة
وبعضهم مات وهو ينزف، ومن كتبت له النجاة لا يزال يعاني من أثار الإصابة والصدمة العصبية.
مشهد
لا ينسى من الذاكرة؛ قيام أحد الأطباء بإجراء عملية جراحية صعبة لابنه دون تخدير، ولم
يحتمل الابن صدمة الألم، فصرخ صرخته الأخيرة تاركا والده يكافح دموعه وانهياره الأبوي.
كانت
مشاهد هذه الكوادر وهم يتلقون أنباء وفاة عائلاتهم وهم على رأس عملهم مؤثرة، ومغرقة
في التراجيديا والمأساة والعويل، الذي هو إعلان رسمي عن موت الضمير والقيم.
وتعمد
استهداف الكوادر الطبية يضع سكان قطاع غزة في دائرة الموت بالاستهداف المباشر أو القتل، في ظل نقص الوقود والأطقم الطبية والإمداد، مما قد يدفعهم إلى المغادرة القسرية بحثا
عن العلاج والمأوى.
مئات
الآلاف من الجرحى والحوامل والأطفال والمرضى المزمنين، بلا خدمات صحية ويقضون أياما
كاملة دون تناول الطعام، فيما تقترب غزة من المجاعة بسبب الحصار وإغلاق أهم معبر والمتنفس
الوحيدة لغزة، معبر رفح الحدودي مع مصر.
حملة
ممنهجة وشرسة، ضد مستشفيات القطاع، خاصة في المناطق الشمالية تتراوح بين الاستهداف
الجوي والمدفعي، والمحاصرة والاقتحام والاعتقال والقصف، الأمر الذي هدد حياة آلاف المرضى
والجرحى في مناطق عمل هذه المستشفيات.
خرج
25 مستشفى عن الخدمة من أصل 35، وخرج 53 عيادة صحية من أصل 72، ومن بقي يعمل لا تتوفر
له أية أدوات مساعدة.
ويبرر
الاحتلال استهدافه مستشفيات القطاع بأنها تضم
مراكز لإدارة عمليات حركة حماس، على حد زعمهم، وهو الأمر الذي تنفيه دائما وزارة الصحة
في قطاع غزة وحركة حماس على حد سواء، ولم يقدم الاحتلال أي دليل على زعمه الذي انكشف
أمام العالم وتهاوى.
الاحتلال
حول المستشفيات إلى مقابر وإلى مراكز للمعاناة والموت والتحقيق بفعل الصمت العالمي
ودفاع الولايات المتحدة الأمريكية عن
جرائم الاحتلال، وبعد أن فجر الاحتلال المستشفى
المعمداني وتسبب في مقتل أكثر من 500 فلسطيني ولم يعاقب، فقد اعتبر ذلك تصريحا بالقتل
وتدميرا لكل معاني الحياة في غزة.
العالم
بصمته وتخاذله وإنكاره للمعاناة الفلسطينية، يسمح للاحتلال بارتكاب جميع الجرائم والموبقات
والفظائع التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا.
رغم
كل ذلك، تبقى الكوادر الطبية والصحية مرابطة في الخطوط الخلفية تحت أحزمة النار والبارود،
وعلى صوت الدبابات والصواريخ ورصاص البنادق.
فتستحق
أن تكون من بين أبرز وجوه عام 2023 إلى جانب الإعلاميين والصحفيين ورجال المقاومة، وجيل
"زد" من الشبان الذين يحركون الرأي العالم.