لم
تسقط دولة
الاحتلال الصهيوني فقط يوم "ضربة القرن" في السابع من تشرين
الأول/ أكتوبر الماضي، لكن سقطت جميع الأنظمة الإقليمية وبالطبع الدولية، ورغم اقتراب
العدوان من حاجز ثلاثة أشهر، فإن الفارس الوحيد هو الشعب الفلسطيني، وفي القلب منه
مقاومته الصلبة الشرسة أمام العدو، وأيضا الحركات المقاومة المنخرطة في المواجهة.
يستدعي
هذا العدوان الإشارةَ إلى نظام مبارك قبل الثورة في أثناء تعامله مع أي عدوان
صهيوني، فآخر عدوان خلال فترة حكمه عام 2008-2009، أعلنت قبله تسيبي ليفني من
القاهرة عزم بلادها ضرب
غزة، وبعد المؤتمر المشؤوم رافقها وزير الخارجية السابق
وأمين جامعة الدول العربية الحالي أحمد أبو الغيط واستندت عليه عندما تعثرت خطاها،
ثم ذكر في مذكراته أنه فعل ذلك بتلقائية، لأنه لا يليق أن يتركها تقع، بينما لم
نجد مثل هذه الشهامة في إنقاذ أهل غزة.
رغم
قبح المشهد، كان المعبر مفتوحا للجرحى جراء العدوان، ولم تكن هناك قوائم تُعرض على
الاحتلال للموافقة عليها أولا، بل كان يدخل مقاتلو المقاومة للعلاج أيضا، كما كانت
المساعدات تتدفق دون انقطاع على القطاع، ولم نجد وقتها كلمة عن "منع إسرائيل
دخول المساعدات"، كما يفعل النظام الحالي، وكان مبارك يسمح بالتظاهرات
الداعمة للقضية خاصة في الجامعات، وتزداد الحركة في الأنفاق وفوقها لإدخال حاجات
الناس هناك.
تُحاصَر القاهرة، فلا تظاهرات داعمة للفلسطينيين، وتخضع المساعدات للإملاءات الصهيونية، والجرحى لا يخرجون إلا بإرادتهم وموافقتهم، والمستشفيات الميدانية والدائمة تُقصف أو تعطَّل عن العمل، والنازحون بمئات الآلاف، والحدود مغلقة على السطح وأسفل التراب، ورغم كل هذا لا نجد تحركا يثبت أن هناك بقية نخوة أو كرامة أو رجولة لتخفيف المعاناة لا لوقف العدوان
كانت
العلاقات الدبلوماسية تنقطع بين
مصر والاحتلال إذا زاد الغضب الشعبي من الإجرام
الصهيوني، وتبقى القنوات الأساسية مفتوحة (القنوات الأمنية والعسكرية). كانت لمصر
مواقف ثابتة وواضحة في القضية، نتفق ونختلف معها، لكن كانت هناك ملامح لموقف مصري
مفهوم وواضح، أيضا يلبي قدرا من المحافظة على الحدود الدنيا من الحقوق الفلسطينية،
مثل رفض ما يمس القدس وحق العودة وإقامة دولة فلسطينية والعودة إلى حدود عام 1967.
الآن
تُحاصَر القاهرة، فلا تظاهرات داعمة للفلسطينيين، وتخضع المساعدات للإملاءات
الصهيونية، والجرحى لا يخرجون إلا بإرادتهم وموافقتهم، والمستشفيات الميدانية
والدائمة تُقصف أو تعطَّل عن العمل، والنازحون بمئات الآلاف، والحدود مغلقة على
السطح وأسفل التراب، ورغم كل هذا لا نجد تحركا يثبت أن هناك بقية نخوة أو كرامة أو
رجولة لتخفيف المعاناة لا لوقف العدوان.
لم
يسقط النظام المصري فقط في وحل التخاذل أو التواطؤ، بل سقطت كل الأنظمة العربية،
وسقطت معظم الأنظمة الإسلامية أيضا ومنها تركيا، ولا أدري كيف يمكن لحاكم يرتبط
بالفلسطينيين بأي رباط ديني أو قومي فضلا عن بعض الإنسانية ويستطيع أن ينام بعدما
شاهد الجثث المتحللة، وقوافل النزوح، وتعرية المعتقلين، والأطفال الموتى على أَسرَّة
المستشفيات، والإعدامات الميدانية، واعتقال النساء لا سيما الحوامل منهن.
كيف
ينامون والأطفال والكبار يلتحفون السماء في برد قارس، ولا يجدون لقمة عيش أو وجبة
تعينهم ولو قليلا على برد الشتاء، هُدِّمت البيوت على رؤوس ساكنيها دون أن يرف
لحاكم جفن ويلقي بكل ثقله لإيقاف العدوان لا للقتال، فأهل فلسطين يكفون وحدهم
لهزيمة الغاصب مع الزمن.
كيف
يتصالحون مع أنفسهم بعدما رأوا الأطفال يرتجفون من وقع القصف رجفة الخوف لا البرد!
تبا للسياسة ولحساباتها إذا لم تكن هناك كرامة ونخوة، لقد كان الحكام قبل ثورات
الربيع العربي يقفون عند حدود معينة لا يتخطونها، أما الآن فلم تعد هناك حدود
للسقوط ولا العمالة.
لن ننخدع بمسرحيات المعارك الدبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة المنشئة للكيان الغاصب، ولا بالمساعدات الرمزية، ولا بالمستشفيات الميدانية المحدودة، ولا بمحطات تحلية المياه ذات الضخ المنخفض الكثافة، ولا باستضافة مئات الجرحى وترك عشرات الآلاف، فكل ذلك يحدث لتخفيف الضغط عن الاحتلال لا لتخفيف معاناة الفلسطينيين
ربما
أخطأنا عندما وصفنا بعض الحكام بالعمالة قبل الثورات، هؤلاء كانوا مشغولين بأمنهم
أكثر من شعوبهم فاتهمناهم بالعمالة لتهويل جرمهم، أما اليوم فنحن أمام متعاونين
دون لَبْس، لقد تُرك الفلسطينيون وحدهم، ولم تقف معهم إلا إيران. هذه هي الحقيقة
التي لا يمكن تجاهلها، ولا يعنينا الدافع الإيراني بقدر ما تعنينا النصرة
الإيرانية من اليمن والعراق ولبنان.
لن
ننخدع بمسرحيات المعارك الدبلوماسية في أروقة الأمم المتحدة المنشئة للكيان الغاصب،
ولا بالمساعدات الرمزية، ولا بالمستشفيات الميدانية المحدودة، ولا بمحطات تحلية
المياه ذات الضخ المنخفض الكثافة، ولا باستضافة مئات الجرحى وترك عشرات الآلاف،
فكل ذلك يحدث لتخفيف الضغط عن الاحتلال لا لتخفيف معاناة الفلسطينيين، ولن يبقى
لأي حاكم من هؤلاء في التاريخ سوى أوصاف الخيانة كالصالح إسماعيل الذي تحالف مع
الصليبيين، أو المعلم يعقوب الذي تحالف مع نابليون، وغيرهما الكثير ممن باعوا
أوطانهم وبلادهم وسلموها للغاصبين المعتدين.
لقد
سقط الجميع في اختبار غزة سقوطا مقرونا بالخزي، ولم ينجُ منه إلا الذين صمدوا في
أرضهم وهم عُزّل لإفشال مخططات التهجير، والذين وهبوا أرواحهم في سبيل أرضهم
وقضيتهم، ولن يكون الشيخ الشهيد صالح العاروري ورفاقه آخرهم، فساحات الشام تَعرِف
الرجال، وساحات فلسطين تعرف أشدَّهم بأسا.