لو حاولنا حصر جميع القادة الفلسطينيين، عسكريين والسياسيين، من كل الفصائل، الذين اغتالتهم – خلال الخمسين سنة الأخيرة، سيحتاج الأمر إلى جهد ووقت بسبب كثرة عددهم وتنوعهم.
ورغم ذلك، بدل أن يتوقف النضال الفلسطيني، استمر وتكثف وأخذ أشكالا وفق تنوّع الظروف.
قامت إسرائيل منذ اللحظة الأولى على القتل. وجعلت من تصفية الفلسطينيين، أفرادا ومجموعات، عقيدة أساسية غير قابلة للنقاش.
لكن المحصلة أن
الاغتيالات لم تنفع إسرائيل ولم تحقق لها مرادها. لو كانت تنفع لَما وصلنا إلى 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. ربما يجوز القول إن الاغتيالات أضرَّت بإسرائيل أكثر مما نفعتها.
لهذا لن تختلف عملية اغتيال القيادي في حركة حماس صالح العاروري عن عشرات الاغتيالات السابقة التي طالت قادة فلسطينيين، ولن تؤثر في العمق على مسار النضال الفلسطيني.
من الضروري الإقرار بأن التصفيات التي استهدفت كبار قادة منظمة التحرير في الخارج ربما ساهمت، بطريقة ما وضمن أسباب أخرى، في جنوح المنظمة نحو المفاوضات والبحث عن حلول سياسية. ذلك الجنوح هو الذي قاد إلى اتفاقات أوسلو المثيرة للجدل وما تلاها.
لكن مع حماس اختلف الأمر بوضوح. نشأت الحركة ودخلت مسرح العمل السياسي والعسكري تزامنا مع تراجع منظمة التحرير وجنوحها نحو التسويات السياسية.
بدأت حماس مبكرا إحكام قبضتها الاجتماعية على قطاع
غزة. ثم تمكنت منه انتخابيا فعسكريا خلال سنتي 2006 و2007. لكن صراعها الدامي مع إسرائيل بدأ قبل قضية غزة بسنوات، وتجلى في عمليات انتحارية ردَا على ممارسات جيش
الاحتلال الإسرائيلي وداخل أراضي فلسطين التاريخية، وردود إسرائيلية ميدانية قاسية تخللها اغتيال قادة في الحركة كلما سنحت الفرصة.
طالت الاغتيالات قياديين عسكريين وسياسيين، أبرزهم عماد عقل (1993) ويحيى عياش (1996) وجمال منصور (2001) وصلاح شحادة (2002). ثم بلغت الاغتيالات ذروتها مع استهداف إسرائيل اثنين من أبرز قياديي حماس خلال أقل من أربعة أسابيع: المؤسس الشيخ أحمد ياسين في 22 آذار (مارس) 2004 وعبد العزيز الرنتيسي يوم 17 نيسان (إبريل) من السنة نفسها.
من المهم ملاحظة أن كل هذه الاغتيالات، والكثير من الاعتقالات، ارتُكبت قبل إحكام حماس سيطرتها على قطاع غزة. من المفروض أن حركة مقاومة تفقد أكبر قيادييها دوريا بوتيرة متسارعة تنتهي إلى زوال، وفي أحسن الأحوال إلى تراجع كبير. لكن الذي حدث أن حماس وسَّعت وجودها أكثر وراكمت قدرة على الصمود وخبرة حربية وميدانية وتصنيعية أثمرت 7 تشرين الأول (أكتوبر) الذي أذهل قادة العالم.
ليس هناك شك أن الجميع في إسرائيل يدركون هذه الحقيقة، إلا أنهم يرفضون الاعتراف بها والاستجابة لها. هناك أسباب تفرض على القادة الإسرائيليين الاستمرار في حالة الإنكار هذه. منها أن التصفية الجسدية عقيدة ثابتة لديهم وتحصيل حاصل منذ ثمانية عقود، وأيضا لأن الاغتيالات «النوعية» مفيدة على أكثر من صعيد داخليا وخارجيا. داخليا توفر للحكومات المأزومة سياسيا وعسكريا، كما هو حال حكومة نتنياهو حاليا، متنفسا سياسيا واجتماعيا ومعنويا، وتمنح المجتمع شعورا مؤقتا بالفخر والزهو. خارجيا تعزز عامل الردع وتبعث رسائل صارمة لأكثر من جهة، خصوصا الطرف المستهدف ومنتسبيه والداعمين له في كل مكان، مفادها أننا قادرون وفاعلون وقادمون ولا أحد في منأى. أذكر جيدا وقع الصدمة وحجم الذهول بين الفلسطينيين وفي الإعلام العربي إثر اغتيال إسرائيل الشيخ ياسين ثم الرنتيسي بعد سبعة وعشرين يوما. لكن الذي حدث أن حماس، وبدل أن تنكسر، سادت على كل قطاع غزة بعد نحو سنتين من الاغتيالين وأصبحت دولة قائمة بذاتها.
استهداف العاروري نموذج عن هذا المتنفس المتعدد الأبعاد الذي كان نتنياهو وقادته العسكريون في أمسِّ الحاجة إليه: العجز عن تحقيق أيٍّ من أهداف الحرب بعد ثلاثة أشهر من بدئها تطلَّب تقديم «انتصار» ما للمجتمع الإسرائيلي الذي يمر بواحدة من أكثر مراحل وجوده تأزما. لم يكن ممكنا أن تمضي الحكومة والجيش الإسرائيليان في هذه الحرب من دون تقديم شيء لهذا المجتمع المصدوم والضاغط بشدة.
من المؤكد أن أطيافا واسعة من المجتمع الإسرائيلي ابتهجت لاغتيال العاروري، لكن لا أحد يعرف هل وكم ستستمر هذه البهجة، لأن الاغتيال لم يُعِد الأسرى لدى حماس ولن يقتلعها مثلما لم تقتلعها اغتيالات أخرى سابقة.
من الوارد أن يصل جيش الاحتلال واستخباراته إلى يحيى السنوار وغيره من القادة داخل غزة. لكن المؤكد أن ذلك لن يطفئ شعلة المقاومة لأنها أكبر من قضية زعامات وقيادات.
لا يجوز إنكار أن للاغتيال أثرا نفسيا عميقا في معسكر القيادي المستهدف، لكن من الحكمة استذكار أن الاغتيال تضحية حزينة في مسار لن يتوقف مع رحيل قائد بعينه.
يحتاج الإسرائيليون والذين يحرّضونهم في السر والعلن، الأمريكيون، إلى أن يفهموا أن اغتيال قيادات كبيرة في أيِّ حركة المقاومة، عبر العالم والتاريخ، وضمنها الفلسطينية، لا يحقق لهم شيئا لأنه يستهدف أصحاب الأرض والحق، أناس مغروسون في أرضهم لا يملكون أرضا أخرى يذهبون إليها. وهذا عكس الجيوش الغازية، خصوصا الغربية، التي إذا لحقت بها خسائر كبيرة ومتكررة، وتزامن ذلك مع ضغوط من مجتمعاتها، يصبح تفكير قادتها في الهروب واجبا وطنيا.
(القدس العربي)