زعيم سياسي بوسنوي،
وفيلسوف أخلاقي أوروپي، ومفكر مُسلم من أعلام القرن العشرين (1925-2003م). درس القانون
وأُجيز فيه (1956م)، بعد أن قضى قبلها ثلاث سنوات طالبا مُجِدّا في كليَّة الزراعة؛
استنفدت شغفه. كانت أسرته المتوسطة قد انتقلَت إلى سراييفو بعد عامين من ولادته،
وفي العاصمة اكتمل تعليمه. أُصيب أبوه إصابات بالغة إبَّان الحرب العالمية
الثانية، وظلَّ طريح الفراش طوال العقد الأخير من حياته. وهو الأب الذي كان ينتمي
إلى أسرة ثريَّة من التجار، بيد أن تجارته بارَت؛ فازدادت حياة العاصمة على أسرته
مشقَّة إبَّان الفترة التي توسَّطَت الحربين. وقد تأثر عزَّتبيغوڤيتش تأثُّرا عميقا
بالعناية التي أحاطت بها والدته زوجها المُقعَد، وظلَّ يستعيدها بإجلالٍ طوال
حياته؛ مُشيرا إلى والدته بأنها سيدة تقيَّة، ومؤكدا أن تقواها هذه كانت عاملا
جوهريّا في محبَّته هذا الدين.
وإبَّان هذه الفترة
العصيبة نفسها، استوى الأستاذ شابّا؛ باحثا عن غاية لحياته في خضم الصراع المرير
بين الأيديولوجيات الغربيَّة المتناحرة. وتحت تأثير فيض الصحف والمنشورات
اليساريَّة والإلحادية، انجرف الشاب هُنيهة إلى الشك؛ بيد أنه آب سريعا، إذ لم
يستسغ الپروپاغاندا
الشيوعيَّة، التي صوَّرَت الإله حليفا للمُستَغِلِّين. وقد صار هو نفسه -لاحقا- ضحيَّة
للنظام الشيوعي في يوغوسلاڤيا، وخصمه في بادئ أمره وفي مُنتهاه؛ إذ اعتُقِلَ (عام 1946م) في موجة الاعتقالات
الأولى، التي أعقَبَت استيلاء الشيوعيين على السلطة، وسُجِن ثلاثة أعوام كاملة. ثم
اعتقلوه وحاكموه ثانية (في 1983م)، وحُكم عليه بأربعة عشر عاما؛ قضى منها خمسة أعوام وثمانية أشهُر
فحسب، إذ عجَّل سقوط النظام الشيوعي بإطلاق سراحه، ومباشرته العمل السياسي؛ فأسس
حزب العمل الديمقراطي (في 1990م)، وهو الحزب الذي فاز فوزا كاسحا بكل انتخابات حُرَّة خاضها حتى
عام 2002م.
صار هو نفسه -لاحقا- ضحيَّة للنظام الشيوعي في يوغوسلاڤيا، وخصمه في بادئ أمره وفي مُنتهاه؛ إذ اعتُقِلَ (عام 1946م) في موجة الاعتقالات الأولى، التي أعقَبَت استيلاء الشيوعيين على السلطة، وسُجِن ثلاثة أعوام كاملة. ثم اعتقلوه وحاكموه ثانية (في 1983م)، وحُكم عليه بأربعة عشر عاما؛ قضى منها خمسة أعوام وثمانية أشهُر فحسب، إذ عجَّل سقوط النظام الشيوعي بإطلاق سراحه، ومباشرته العمل السياسي
وقد نشر ثمانية
كتب في
حياته، منها الخمسة المحوريَّة التي يعرفها العرب: "عوائق النهضة
الإسلاميَّة"، و"الإسلام بين الشرق والغرب"، و"الإعلان
الإسلامي"، و"هروبٌ إلى الحريَّة"، و"سيرة
ذاتية". ثم أُعيدت "هيكلة" ثلاثة من كتبه بعد وفاته؛ فبلغ
إجمالي عددها اليوم أحد عشر كتابا، منها الخمسة المذكورة آنفا.
* *
*
لقد كان مبدأ المسؤولية الأخلاقيَّة أولى القيم الإيمانيَّة التي
غُرِسَت في روع عزَّتبيغوڤيتش شابّا، وأعظمها أثرا في تكوينه. إذ وجد أن
الإيمان بالله يُلزِمُ صاحبه بأن يكون مسؤولا؛ فكان هذا الإيمان مُتضافرا مع
المسؤوليَّة المقترنة به، هُما المعونة الإلهيَّة التي استنقذه الله تعالى بها من
نفسه، ومن مصائب الدنيا.
ورغم أن عود أستاذنا
قد اشتدَّ في بيئة مسلمة، كان ذروة ما بلغه إدراكها للإسلام أنه إلهام أخلاقي
وصحوة ثقافيَّة للبوشناق؛ فإن جيله هو الذي حوَّل الإسلام إلى منصة حركيَّة،
وترسانة أيديولوجية؛ يُصارع بها الأيديولوجيات الغربيَّة الوافدة، ويُجسِّد حياة
الإسلام بوصفه تطبيقا لمُثُل العدالة والمساواة. وكما كان جيله هو الذي سعى لتجاوز
"تقوقُع" العلماء التقليديين على الإسلام، بوصفه حزمة من الطقوس
العباديَّة المجرَّدة، التي لا علاقة لها بالواقع؛ فقد كان هو نفسه الجيل الذي
انتقل بهذه الحركة "انتقالا طبيعيّا" إلى طور العمل الحزبي، بعد سقوط
الشيوعيَّة مباشرة.
وما من موطنٍ تبرُزُ
فيه أوروپية أستاذنا ويبرُزُ ولاؤه للإسلام؛ كما في الثنائيات التي يطرح من خلالها
نسقه
الفكري. إذ إنه رغم استيعابه كُليّا في الثنائيَّات التوحيدية (التي تتمخَّض
عن الثنائيَّة التأسيسية: الخالق والمخلوق)، وتصديقه بها، وتعمُّقه في إدراكها
تعمُّقا غير مسبوق لأوروپي -كما يتجلَّى في سفره الأهم: "الإسلام بين
الشرق والغرب" الذي انبنى على هذه الثنائيَّات- فإنه يرتكسُ في "الإعلان
الإسلامي" إلى معالجة ثُنائيَّات العصر، التي فرض السياق الشيوعي بعضها
بوصفه نقضا للنظام الرأسمالي، وفرضت الحضارة الغربيَّة -في مجملها- بعضها الآخر
بوصفها "مُنجزات" تلك الحضارة وإضافتها للمسيرة الإنسانيَّة.
لعلَّ المفارقة الكبرى في حياة الأستاذ أنه بدفاعه المستميت عن البوسنة الديمقراطيَّة، تلك "الفكرة النبيلة" التي يُفترض أن تؤوي أديانا وأعراقا مُختلفة؛ كان يذود عن الممارسة السياسيَّة الأوروپيَّة -التي ترسَّخت في القارة العجوز مذ نهاية الحرب- ويحاول استنقاذها من الاضمحلال
وهاهُنا يتجلَّى فيه
السياسي الحداثي، الذي لا يكتفي بإزالة الجذور السامَّة، وإنما يُساجل الواقع "الإسلامي"
تحت وطأة "التفوق" الغربي؛ ليُفسح مجالا لثُنائيات غربيَّة كُليّا مثل: التخلُّف
والتقدم، والدين والعلم! مُصرّا على أن كل ما "ينفع الناس" لا يُمكن
لفظه بوصفه "غير إسلامي"، فأي تقدُّم تقني أو علموي، يُعَدُّ عنده إسلاميّا
روحا؛ إذا انطبق عليه شرطان: أن يكون إنسانيّا حتى النخاع، وأن يكون كفؤا حتى
النخاع، وهذا بحد ذاته مُحالٌ على الفكر الإنساني؛ لأنهما سيفان لا يُجمعان إلا في
غمد الإسلام وميزانه الإلهي، كما يُعلمنا الأستاذ نفسه! لكنَّه يجنح مُضطرّا إلى
هذه الرؤية أحيانا، ويعمد لخطابٍ تحديثي يُفرغ الإسلام من روحانيته الباطِنَة (رغم
المسحة الصوفيَّة الثقيلة التي تصبغ نسقه وروحه هو شخصيّا!)؛ بدعوى أن الإسلام
دينٌ يُشجع العلوم الطبيعيَّة/ المادية، وينزع عنها جنوحها الإلحادي. وهي رؤية
تلفيقيَّة إلى حد كبير؛ أملاها الواقع المأزوم.
لهذا، فلعلَّ المفارقة
الكبرى في حياة الأستاذ أنه بدفاعه المستميت عن
البوسنة الديمقراطيَّة، تلك "الفكرة
النبيلة" التي يُفترض أن تؤوي أديانا وأعراقا مُختلفة؛ كان يذود عن الممارسة
السياسيَّة الأوروپيَّة -التي ترسَّخت في القارة العجوز مذ نهاية الحرب- ويحاول
استنقاذها من الاضمحلال!
twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry