تعد الوظيفة والدلالة الرمزية وفاعليتها من أهم
الأشكال المؤثرة في التصورات والإدراكات؛ وهناك العديد من الرموز الدالة، ومنها الشعار الذي يجمع بين كلمات
الشهادة والشهود "لا إله"؛ يستشرف كلمة
التوحيد التي تشكل الصبغة
الأساسية لهذه الرؤية التوحيدية للعالم؛ والتي تفرز بدورها رؤية متميزة للإنسان
والكون والحياة، وبما يعبر عن ساحة حضارية وفاعل حضاري وتفاعلات وأشكال من
العلاقات والمسارات يمكن أن تتجلى على صفحة الحياة.
ومن هنا فإن الشهادة
التأسيسية "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" التي تشكل عقد
التوحيد بين الفعل الحضاري والرسالة التي يحملها إنما تكمن في الكلمة الأولى التي
تبدأ بها منطوق الشهادة كلمة "لا"، والتي تشكل روح الثورة الحقيقة حينما
تثور على شئون الواقع بما يفرضه من موروثات وما يستشرفه من رؤية جديدة. وهذا
النداء كما يتعلق بالإنسانية يتعلق أيضا بمقام الألوهية، فوحدة الخالق وتعدد
المخلوقين إنما يشكلان أهم مبدأ يقوم على تحرير الإنسان من كل أنواع العبودية إلا
حالة من التعبيد لله سبحانه وتعالى؛ لا تستعبده مادة ولا يستعبده إنسان ولا
يستعبده المكان ولا يهيمن عليه الزمان، إنما تلك الطاقة التوحيدية.
لا إله الا الله تشكل
دعوة إلى الحرية بكل أشكالها وأنواعها، لأنها تحيل العبودية لله وحده، أما كل
أنواع الاستعباد الدنيوي فهي مرفوضة بل منهي عنها باعتبارها شركا يفضي إلى أشكال
هيمنة لا يمكن بأي حال من الأحوال قبولها بمقتضى التكريم الإلهي للإنسان، فلا
يستكبر فيطغى؛ ولا يذل فيخضع ويخنع.
هذه الرؤية التوحيدية
المؤسسة للحرية لا تقوم فقط على حالة سلوكية، ولكنها مسبوقة برؤية إيمانية داعية،
ورؤية معرفية واعية. ومن هنا يمكننا أن نتفهم ما يمكن تسميتها بجملة النداءات
الحركية في القرآن الكريم، فكان هناك مثلث من تلك النداءات يقوم على "أقرأ"،
ثم "أعدوا"، ثم "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا"..
يترتب على هذه الثلاثية حركة، ونظر، ومسير، إنها الحقيقة الكبرى التي تتأكد فيها
هذه النداءات الحركية القرآنية ومنظوماتها الأخرى؛ في علاقتها ببيانات كلية إلهية
يفيض بها القرآن على كامل مساحات وساحات المخاطبين به بالهداية الكاملة والحركة
الدافعة الرافعة الفاعلة.
كما تأكد لدينا فإننا في حاجة أن نطور من العناصر
المكونة لمعمار رؤية العالم وهندستها والتي تقع في مركز هذه الرؤية، نفتتحها
بالتأسيس التوحيدي "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَة"
(البقرة: 138)، الذي يشكل تلك الصبغة التي تجمع بين عناصر الرؤية الكلية فلا ترى
إلا بها ومن خلالها، فترى الثلاثية الكلية (للإنسان والكون والحياة) وترى الثلاثية
الواصلة (الاستخلاف والتزكية والعمران)، وتؤسس عناصر الكليات السبع التي تخرج
جميعا من مشكاة واحدة موحدة "مشكاة التوحيد"؛ التوحيد بين هذه الكليات
السبع من المحكمات التي تتفاعل مع بعضها البعض، عقيدة دافعة؛ شرعة رافعة؛ قيم كلية
ومعايير أساسية حاكمة؛ أمة جامعة؛ حضارة عمرانية شاهدة فاعلة؛ وسنن ماضية قاضية؛
ومقاصد حاضنة حافظة.
هذه السباعية بما تتضمنه من عناصر كلية هي جوهر
البينات المبثوثة في الكتاب التي تشكل الميزان، البينات كليات واضحة تحدد عناصر
البيان والبنية والعلاقات البينية الواجبة لتنظم فيما بينها، أصول المنهج الناظمة
لتلك الكليات الواضحة، وكتاب يهدي للتي هي أقوم في إطار من الإحسان الحضاري كنسق
مفتوح للإنسان وحركته وفاعليته، والميزان هو المعيار الذي تقوم به العوالم
المختلفة والأنساق المختلفة.
لقد ارتبطت رسالات التوحيد بدعوة التحرير الشامل،
وقد جعل منها الإسلام مشروعا إنسانيا حضاريا عمرانيا كبيرا عبر شريعته الشاملة، أبرزت
الحضارة الإسلامية نموذجا مكن لهذا المعنى: إنسانية حرة في الاندراج في المكان
والزمان والمجالات المختلفة بغض النظر عن قيود لا كسب له فيها؛ من العنصر، أو
اللون أو اللغة أو الجغرافيا أو المال أو النسب.. ومنها قامت "دولة الفكرة"
و"مسيرة الدعوة" التي جعلت من الاختيار الإنساني مبدأ مركزيا؛ أن تتوطن
أو تنتقل، أن تشارك أو تنفرد، أن تحافظ أو تجدد، وجعلت من الجهاد العملي والاجتهاد
الفكري آلية الحياة الطيبة.
هكذا تشتمل شعارات المقاومة على كلمة التوحيد التي
تتمثل في الشهادة "لا إله إلا الله" المشفوعة بالرسالة "وأن محمدا
رسول الله" مرتبطا بالوعاء القرآني الهادي "إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي
لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ".. فهي مسكونة بكلمة التوحيد التي تفيض بالحرية
والتحرير ومقاومة كل ظلم وغصب واستكبار.
ومن هنا تبدو لنا كلمة التوحيد في عمقها، والتي
يجب أن تكون مركزا للإنسان المسلم في حماية العمران ومقاومة الطغيان أي كانت صوره.
إن القضية الأساسية التي تتعلق بهذا الأمر يمكن أن نشير إليها في ثقافة الجهاد
والمقاومة التي تجعل من كلمة التوحيد مدخلا لتمكين تلك الثقافة في الأمر، يحمي
حياضها، ويؤكد على رفعتها ونهوضها.
إن الجهاد لكونه جهدا بل غاية الجهد، واجتهاد هو
غاية الاجتهاد، يشكل في حقيقة الأمر تصنيع المقاومات في الأمة؛ المقاومة الفكرية،
والمقاومة الحركية، والمقاومة الدعوية، والمقاومة الإعلامية، والمقاومة التنموية، والمقاومة
التربوية وغيرها؛ كل ذلك يبدو لنا في مسالك الجهاد المختلفة التي يجب أن تتربى
عليها الأمة، وتنعقد بها معاقلها، وترسخ مكنات النصر، وشروط التمكين.
وفي هذا السياق الذي تفيض فيه كلمة التوحيد علينا
وارتباطها بمنظومة الجهاد والاجتهاد فإنما يتطلب منا تدبر أمر يتعلق بالدعوة الماضية
والمستمرة والمتجددة، وهي الكامنة في كلمات الأذان للصلاة التي تنطلق من المساجد (خير
بقاع الأرض) كل يوم خمس مرات، فتذكر أول ما تذكر "الله أكبر"، كلمة تقع
في مفتتح الآذان؛ وفي يقين المسلم ليست كلمة عادية يمكن أن نمر عليها مرور الكرام،
ولكنها في حقيقة الأمر اعتقاد وإيمان، وتصور وعمل، ووعي وسعي.
إن معنى الألوهية في هذا المقام إنما يشير إلى أن
الله أكبر من كل كبير، وإذا ما استخدمت كل هذه الكلمات الأوصاف لدولة هنا أو هناك،
فتلك دولة عظمى وأخرى دولة كبرى، ولكن في حقيقة الأمر أن الله أكبر من كل هؤلاء. وهذه
كلمة علينا أن نتدبر فيها المعنى والمغزى؛ المعنى الذي يفيد بالتفرد بالألوهية والمعنى
الذي يتعلق بالقدرة والعظمة والإجلال، فتستلهم بذلك ألا تضعف النفس البشرية حيال
أي عالم من عوالم المخلوقين، هو فقط يتعلق بالإله الواحد الصمد، الذي يجعل فعل ذلك
المسلم من أهم الأفعال التي يقوم عليها ضمن كلمة الشهادة المتكررة في الأذان،
والعبادة الأساسية المتعلقة بالتعبير عن ذلك التوحيد، ممثلا في تلك الصلاة التي
تعبر عن صلة المخلوق بالخالق، فيتأهب من صلاته التي تعبر عن إيمانه وعبوديته لله،
إلى فلاحه في السعي والجهاد، فإنها دعوة لا يكون فيها أي مسلم إلا طاقة فاعلة
وعزيمة مستنفرة، فيصير ذلك نداء بالفلاح والنجاح، نداء بالجهاد والانتصار (حي على الفلاح)،
نداءات في الأذان بعضها من بعض تؤكد على قيمة التوحيد الكبرى التي تنساب في كيان
الأمة وعافيتها؛ وتشكل ثقافة الجهاد بكل شمولها ومعانيها.
في هذا السياق نختتم هذا المعنى بمعنيين؛ أولهما
المعنى الذي يتعلق بالشهود والحضور، وثانيها ذلك الذي يتعلق بالشهادة، والشهادة
ذات منظومة يتولد منها شهادة الحق والعدل التي يجب أن يقوم بها الإنسان المسلم،
وكذلك شهادة على العالمين "وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ اُمَّة وَسَطا لِتَكُونُوا
شُهَدَٓاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهيدا"..