لو كانت عملية "طوفان الأقصى" قد انتهت بمقتل العشرات من
الإسرائيليين، لكان الرد العسكري الإسرائيلي أقل قوة من الحرب الحالية بكثير،
ولكان الموقف الأمريكي محصورا بمعاقبة حركة "حماس" فقط، دون الإشارة من
قريب أو بعيد إلى مسألة قيام الدولة
الفلسطينية.
غير أن مقتل نحو 1200 إسرائيلي خلال يومين أرعب العقل السياسي الأمريكي،
ثم كان لصمود المقاومة في قطاع غزة والخسائر البشرية التي ألحقتها في قوات
الاحتلال على مدار أكثر من مئة يوم، أن دفعت الإدارة الأمريكية إلى إدراك أن
مجاراة إسرائيل في نسيان إقامة الدولة الفلسطينية مسألة خطيرة من شأنها أن تهدد
"الدولة" الإسرائيلية ذاتها.
مرحلة جديدة
على مدار العقد والنصف الأخيرين، ترسخت قناعة إسرائيلية بدأت من
الليكود ولقيت صدى لدى الإدارات الأمريكية، مفادها أن القوة والتعنت الإسرائيليين
سيدفعان الفلسطينيين والعرب هم بأنفسهم إلى تقديم تنازلات مجانية، لإدراكهم أن
موازين القوة في صالح إسرائيل أولا، وبسبب حالة الضعف العربية عقب ثورات
"الربيع العربي" ثانيا، وبسبب الانسحاب الأمريكي الجزئي من ملفات
المنطقة ثالثا.
وقد جاء الانفتاح الإماراتي غير المفهوم تجاه إسرائيل تجسيدا عمليا
لهذه القناعة، ثم تبعها اعتراف بحريني وتراخي سعودي كان مقدر له أن ينتهي كما
انتهى الأمر بالبحرين والإمارات، وقبلهم بدا التراخي المصري تجاه إسرائيل حادا منذ
وصول السيسي إلى السلطة عام 2013.
إلا أن عملية "طوفان الأقصى" غيرت من آلية التفكير الأمريكية،
ولهذا تحدث الرئيس الأمريكي جو بايدن أخيرا عن إمكانية إقامة دولة فلسطينية بعد
سنوات طويلة من صمت أمريكي نتيجة الضعف والهوان العربيين.
ووفقا لشبكة "سي أن أن" الأمريكية، فإن مسؤولي إدارة بايدن
ناقشوا إمكانية قيام دولة فلسطينية منزوعة السلاح في المستقبل، كما تمت مناقشة هذا
الأمر بين بايدن ونتنياهو.
لا يهمنا في هذه المقالة طبيعة الدولة الفلسطينية المرجوة، فهذه
مسألة معقدة للغاية، فضلا عن أن إقامة هذه الدولة في ظل عقود من الاستيطان تبدو
عملية مستحيلة وفق الصيغ العربية للحل السياسي.
على المستوى العربي، لا تكفي مواقف التنديد ولا وقف التطبيع مع إسرائيل كما حدث في الحالة السعودية، لأن مسار التطبيع قد يعود بعد أشهر أو سنوات، بما يفقد الأثر الاستراتيجي الذي حققته عملية "طوفان الأقصى".
لكن ما يهمنا هنا هو أن تغير الخطاب الأمريكي، أو عودة الخطاب الأمريكي
إلى سابق عهده فيما يتعلق بهذه المسألة، لم ينجم عن انعطافة أيديولوجية أو سياسية
تجاه الفلسطينيين، ولا عن وعي أخلاقي وحقوقي أمريكي مفاجئ، بل نجم عن حقيقة ساطعة
مفادها أن الفلسطينيين قادرين على تهديد إسرائيل وتوجيه ضربات قوية لها، وإن
استمرار السلوك الإسرائيلي سيوتر الوضع في الشرق الأوسط إلى درجة قد تنفلت الأمور
عن السيطرة.
ربما يكون هذا هو الدرس الأهم أو الرسالة التي أوصلتها عملية
"طوفان الأقصى": القوة العسكرية والسياسية تجاه إسرائيل هي الحل الوحيد
لإجبارها على تقديم تنازلات سياسية حقيقية.
لم يحدثنا التاريخ عن احتلالات انتهت نتيجة قناعات سياسية أو
أيديولوجية أو أخلاقية، بل انتهت نتيجة القوة المضادة للشعوب المحتلة.
وبهذا المعنى، فإن عملية "طوفان الأقصى" قد كشفت الواقع
الزائف الذي يعيشه الفلسطينيون والعرب، من حيث أن الفلسطينيين والعرب لديهم القدرة
على الفعل والتأثير، بما يؤدي إلى تثوير الوعي الفلسطيني والعربي معا، والعمل معا
على وضع استراتيجية موحدة ومتكاملة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي باعتباره نظام فصل
عنصري في العالم.
الانقسام الفلسطيني العربي
تتطلب أي استراتيجية وطنية أولا تجاوز الانقسام الوطني الفلسطيني من
أجل وضع استراتيجية موحدة أو متكاملة للنضال، على الرغم من أن هذه المسألة في غاية
الصعوبة بسبب تخاذل السلطة الفلسطينية لا ضعفها، وإذا كانت السنوات السابقة قد
كشفت ضعف السلطة، فإن موقفها وسلوكها عقب عملية "طوفان الأقصى" قد كشف
تخاذلها وخيانتها، وبالتالي فإن الحل لتجاوز هذا التخاذل لن يكون بقرار سياسي من
السلطة وإنما بخطوات شعبية بالضفة الغربية تجبر السلطة على تغيير سلوكها السياسي.
الفارق الرئيس بين السلطة الفلسطينية وحركة "حماس" هو أن
الأولى رضيت بالواقع القائم في الضفة الغربية ولم تعد تفكر بمستقبل الضفة، في حين
أن "حماس" والمقاومة الفلسطينية في غزة يفكرون دائما في مستقبل القضية
الفلسطينية بمجملها، وهذا فارق كبير واستراتيجي، يؤدي في الحالة الأولى إلى
الاستسلام وفي الحالة الثانية إلى القتال من أجل حقوق الشعب الفلسطيني، بغض النظر
عن مدى تحقيق هذا القتال لأهدافه السياسية.
إن عملية "طوفان الأقصى" هي الدرس الأبلغ الثاني الذي شهدته المنطقة العربية بعد ثورات "الربيع العربي" منذ عام 2011، وفي الحالتين أثبت الشعب العربي أنه ما زال قادرا على الفعل،
على المستوى العربي، لا تكفي مواقف التنديد ولا وقف التطبيع مع
إسرائيل كما حدث في الحالة السعودية، لأن مسار التطبيع قد يعود بعد أشهر أو سنوات،
بما يفقد الأثر الاستراتيجي الذي حققته عملية "طوفان الأقصى".
إن عملية "طوفان الأقصى" هي الدرس الأبلغ الثاني الذي
شهدته المنطقة العربية بعد ثورات "الربيع العربي" منذ عام 2011، وفي
الحالتين أثبت الشعب العربي أنه ما زال قادرا على الفعل، لكن المفارقة أن العواصم
الغربية أدركت قوة هذا الشعب وخشيتها منه، وعند هذه النقطة التقت مصالح إسرائيل
والولايات المتحدة مع مصالح الأنظمة الاستبدادية العربية في ضرورة قتل أي قدرة أو
فعل لدى الشعب العربي للحيلولة دون حصول أي تغيير في الواقع السياسي القائم.