هناك تكالب يصعب استيعابه على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين
الفلسطينيين المعروفة بالأونروا. حملة مسعورة على أكثر المنظمات الإغاثية إنسانيةً وأهمية في العالم، فقط على ضوء اتهامات من دولة مارقة وجيش يرتكب إبادة وفظاعات. يكفي هذا الجيش أنه قتل 11 ألف طفل ومثلهم تقريبا من النساء. من المفروض أن هذا يكفي ويزيد لجعل أي اتهامات تصدر عنه لا تساوي الحبر الذي تُكتب به. لكن بما أننا في عالم أعوج بغيض لا بأس من توقّع أيّ شيء.
تعمل الوكالة بتنسيق كامل مع إسرائيل في ما يتعلق بحركة المساعدات. وتزودها حتى بقوائم الموظفين والمتبرعين لديها. لهذا من المستبعد أن الاستخبارات الإسرائيلية فاتها أن بعض موظفي الوكالة على صلة بحماس أو الجهاد الإسلامي كما زعمت في حملتها التي، لصدفة ما، انطلقت فور صدور حكم محكمة العدل الدولية (جزء كبير من دفوع وفد جنوب إفريقيا في المحكمة اعتمد على شهادات الوكالة وبياناتها).
يُعرف عن موظفي
الأونروا الأجانب إخلاصهم لمسؤولياتهم وللوكالة. ويُعرف عنهم أن معاناة اللاجئين الفلسطينيين أصبحت جزءا منهم لكثرة ما رأوا وعايشوا من تفاصيلها في يومياتهم. فلا غرابة أن شوهد كبار مسؤولي الوكالة ينهارون في مقابلات تلفزيونية حزنا وبكاء على حال سكان غزة. ولا لوم عليهم إن أمروا بفصل بعض المنتسبين للوكالة بداعي مشاركتهم في هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، فالضغوط الإسرائيلية والغربية عليهم حتما كانت رهيبة.
الآن وقد انساق قادة أكثر من 15 دولة بسرعة كالقطيع لتصديق الاتهامات الإسرائيلية للأونروا وعلّقوا تبرعات حكوماتهم لها، وجب على غيرهم التحرك وملء الفراغ.
هناك حاجة للنظر إلى حالة الأونروا نظرتين: الشكل والمضمون. الشكل يشمل ما تمثله الوكالة من رمزية وتذكير بالجريمة الأصلية التي أفضت إلى المأساة الفلسطينية المفتوحة منذ ثمانية عقود. الأونروا هي وصمة العار على جبين العالم التي يكره الإسرائيليون رؤيتها ورؤية كل ما يرمز إليها وترمز إليه. رمزية الوكالة لا تقل أهمية عن عملها المادي. هي باختصار شوكة في ذاكرة إسرائيل وتاريخها.
المضمون يعني شيئا واحدا هو التمويل. منذ نشأتها في بداية عام 1949، تعتمد الوكالة بالأساس على التمويل الغربي. قبول الغرب بتمويل المنظمة بسخاء يحمل في طياته نوعا من الشعور بالذنب والرغبة في الاعتذار عن كونه هو المتسبب في الكارثة الإنسانية التي تطلبت وجود الوكالة. لكنه رد فعل إنساني لا يرقى إلى درجة الجرم الأساسي. كأن تطرد عائلة من بيتها وأرضها ثم تلهي أطفالها ببعض المأكل والملبس علّهم يغفروا لك.
غداة نكبة 1948 وفي العقود اللاحقة كان التمويل الغربي مفهوما وحتى مطلوبا لأن الغرب كان سيّد العالم والباقي مستعمرات أو مجرد دول هشّة.
لكن بعد ذلك على مر السنوات وُجدت دول ومنظمات جديدة، العديد منها قريبة من الحالة الفلسطينية وجدانيا حتى لو كانت بعيدة عنها جغرافيا. أطراف أفضل حالا ماديا تستطيع أن تساهم في تمويل الأونروا مثل الغرب.
هناك قائمة لا بأس بها من الجهات التي تستطيع أن تفعل الكثير لو توفرت الإرادات ونُسِّقت الجهود.
على رأس القائمة الدول العربية. تستطيع هذه الأخيرة منفردة أن تضع جانبا قليلا مما تنفق على الحفلات الصاخبة والمهرجانات والتبرع بها للأونروا. في إمكان العرب العمل جماعيا أيضا. جامعة الدول العربية (رغم أنها كسيحة بلا فائدة) يمكن إنعاشها لتلعب دورا في الرعاية المعنوية والتنسيق بين الدول العربية.
هل تذكرون جهة اسمها منظمة المؤتمر الإسلامي؟ نعم، لا تزال موجودة وتضم في عضويتها 57 دولة، فيها الفقيرة والغنية والنفطية والغازية الكبيرة والصغيرة القريبة والبعيدة. يحلو للمنظمة أن تسمي نفسها «الصوت الجماعي للعالم الإسلامي» رغم أنها لا تضم في عضويتها كل الدول الإسلامية.
تأسست المنظمة أساسا على التضامن الروحي والمعنوي بين أعضاء قاسمهم المشترك الدين الإسلامي أكثر من أيّ مصلحة مادية أو استراتيجية أخرى. هذا العامل كفيل بتسهيل العمل تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين في شقها الإنساني من دون حرج أو خوف من التبعات التي تترتب عادة عن المواقف السياسية والاستراتيجية.
بعيدا عن التضامن العربي والإسلامي مع فلسطين، يوجد في الجزء الجنوبي من هذا العالم العديد من المنظمات والدول التي لن تتردد في الاصطفاف إلى جانب الفلسطينيين في مأساتهم. جنوب إفريقيا أسست لسابقة ورسخت نموذجا يحتذى. المطلوب فقط البناء على التحوّل الكبير الذي أحدثته الحرب الحالية على غزة في الرأي العام العالمي، في الغرب وغيره، للوصول إلى نتائج تخدم الأونروا وعملها الإنساني الكبير.
لو اجتمعت كل التكتلات المذكورة آنفا والمنظمات، ومعها الدول الأوروبية التي رفضت الانصياع للضغوط الإسرائيلية والأمريكية، سيتوفر للأونروا تمويلا يحميها من الإفلاس الذي تحلم به إسرائيل.
يجب حماية الأونروا مما يحاك لها وتعزيز دورها. ويجب توفير الحماية القانونية والسياسية للقائمين عليها لأن إسرائيل تتربص بهم مدفوعة بحقد أعمى ولن ترحمهم إذا ما استطاعت.
الأونروا أكثر من مجرد منظمة خيرية تتوسل التبرعات لتعيد توزيعها على المحتاجين. إنها ذاكرة مأساة وشاهد أساسي على إبادة سابقة وأخرى تجري الآن.
بقاء الأونروا ضرورة تاريخية وأولوية قصوى، أما موضوع التمويل فيأتي لاحقا. وحتى لو انتهى بها المطاف بلا تبرعات وبلا تمويل، يجب أن تبقى الوكالة على قيد الحياة لما تحمل من رمزية تؤرق عتاة المتطرفين والعنصريين في إسرائيل وكل المتواطئين معهم.
(القدس العربي)