فهم الحقيقة وإدراكها حتى لو كانت مرة كالعلقم، أهون بكثير من الصدمة وخيبة الآمال عندما تكتشفها الجماهير متأخرة، حينها ستنكسر روحها، وستدرك كم كانت مضلَّلة، ومنساقة خلف الأوهام، وأن تفكيرها كان رغائبياً، دون منطق، وأنها صدّقت كل ما قيل لها لأن ما قيل لها كان يدغدغ عواطفها، ويمنّيها بالأوهام، ويمنحها العزاء والتعويض.
سنكتشف (متأخرين) أن «المحللين الإستراتيجيين»، و»نجوم الفضائيات»، كانوا يسترزقون، وقد وجدوا في الحرب فرصتهم في الشهرة والإثراء.. وإذا افترضنا حسن النوايا، كانوا هم أنفسهم مضللين، ويفكرون برغباتهم وأهوائهم، ويقولون فقط ما كانت الجماهير تنتظره وتتمناه، كانوا منقادين مع الأكثرية وخاضعين لديكتاتورية الغوغاء.
سندرك حينها أن الجماهير والنخب والمحللين كانوا يتبادلون الأدوار، ويكملون بعضهم بعضاً، في مؤامرة خفية استهدفت الحقيقة، واستهدفت قبل ذلك الجماهير نفسها.. كنا جميعاً نمارس انتحاراً ذاتياً.. كنا نهرب من الحقيقة، نهرب إلى الأمام، ونفتش عن مزيد من الأوهام، فقط لنثبت أننا على حق، ولسنا مجموعات من الحمقى.
هنا لا ألوم أحداً، وليس من حقي إصدار الأحكام، وتصنيف الناس.. ولكن من واجبي لوم نفسي، فأنا في مراحل كثيرة كنتُ أصدّق، وأنساق.. لأني في أعماق نفسي أرغب بشدة، وأتمنى أن يتحقق كل ذلك، وأقصد أهداف ومبررات طوفان الأقصى؛ تحرير القدس، وتبييض السجون، واقتلاع المستوطنات، وكنس الاحتلال، وبناء دولتنا المستقلة .. كنت أتمنى لو أن رهانات المقاومة وحساباتها كانت صحيحة وصائبة، بأن تلتحق الجماهير بالطوفان، وأن يلتحم محور المقاومة في المعركة، وأن تجتاز الشعوب الحدود، وأن تُسقط أنظمتها الفاسدة، وأن تفرض على العالم تغيير النظام الدولي الجائر والظالم، وأن ينتهي كل ذلك بالتحرير والحرية .. لا حاجة للقول إن أياً من ذلك قد تحقق، أو في طريقه للتحقق.
نحن كبشر، ما زلنا غير منطقيين، نمزج بين الرغبة والواقع، ونريد لرغباتنا أن تتحقق حتى لو كانت غير واقعية، نحن انتقائيون بطبعنا، عقولنا مبرمجة على ذلك، نرى ما نريد فقط، ونتعامى عن كل ما هو دون ذلك، نصدّق فقط ما يتماشى مع أهوائنا، وما ينسجم مع أحكامنا المسبقة.. ونكذّب أي شيء يتعارض مع رغباتنا وأمنياتنا، ونرفض الحقيقة حتى لا تصدمنا، ولا تهز أعماقنا، حتى لا تخرجنا من تلك الفقاعة الآمنة والمريحة التي حشرنا أنفسنا فيها طويلاً.. نرفضها لأنها ستشكك في قناعاتنا، وتحرجنا، وتكشف لنا كم كنا أغبياء، وأننا مجرد قطيع.
لقد بنت قناة «الجزيرة» كل روايتها وصاغت رسالتها استناداً إلى ما تقدم شرحه، قدمت لنا وللعالم رواية منفصلة عن الواقع، رواية تقوم على تصوير العدوان الهمجي الإسرائيلي على
غزة على أنه حرب، وليست أي حرب، حرب شبه متكافئة، بين جيشين، بين إسرائيل وحماس، وأن حماس هي المستهدفة فقط، وهي فقط من يمثل المقاومة، ونموذجها في المقاومة هو النموذج الوحيد والصحيح، وما عداه تفريط واستسلام وخنوع.. المقاومة بدأت مع حماس، ومصيرها مرتبط فقط بحماس.. فإذا انكسرت حماس ستُكسر المقاومة (فكراً ونهجاً وممارسة)، وإذا هُزمت حماس هُزم الشعب
الفلسطيني كله.. ولكم أن تتخيلوا المشهد بعد نهاية الحرب، وطرح سؤال الهزيمة والنصر بعيداً عن الشعارات والخطب الإنشائية والشعبوية.. كيف ستكون الصدمة والنكسة والإحباط؟ وتبعاتها وتداعياتها الآنية والمستقبلية على الفلسطينيين وعلى الشعوب العربية.
وطوال فترة العدوان كان الطرح الإعلامي يقوم على فكرة وجود مقاومة قوية وقادرة ومتفوقة، تتحكم في سير المعركة، وتسيطر على الأرض، وتلحق بالعدو خسائر باهظة.. (لنعد إلى فكرة أننا انتقائيون، وعقولنا مبرمجة لنرى ما نريد فقط، ونصدق ما يتماشى مع أهوائنا..)، فحين نرى مقاتل القسام يطلق القذيفة على الدبابة الإسرائيلية ونرى وهج الانفجار، تأتي عقولنا لتكمل المشهد، فنتخيل أن في جوف الدبابة خمسة جنود على الأقل، ثم يأتي الخبر العاجل بأن المقاومة دمرت ألف دبابة وآلية، فيأتي «الدويري» ويقول أضرب الرقم في عشرة.. لنقتنع بأن خسائر العدو صارت بالآلاف، وأنه على وشك تلقي الهزيمة الساحقة الماحقة.
قبل بدء العدوان البري، كان المحللون يقسمون بأن العدو لن يجرؤ على الاجتياح البري، ثم صاروا يقولون إنه دخل من المناطق الرخوة، ثم قالوا إنه إن دخل فإنه لا يسيطر، وإنه لن يجرؤ على اقتحام مراكز المدن.. استمر هجوم الاحتلال وتقدمه، واستمرت التبريرات والتحليلات، وتحليل سير المعارك كما لو أنها بين حلفي وارسو والناتو.. حتى اقتحمت الدبابات قلب غزة، وقلب خان يونس، وكل القطاع..
يقول المحللون إن جيش الاحتلال يتقهقر، فيما يقول الواقع إن الجرحى المدنيين في الشوارع، لا يستطيع أحد الوصول إليهم، حتى يتصفى دمهم، ويسمح الاحتلال بجمع مئات الجثث وإلقائها في مقبرة جماعية..
يقولون إن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها (تصفية حماس، وتحرير الرهائن) وبالتالي فهي منهزمة.. بينما يقول الواقع إن هدف إسرائيل الحقيقي قد تحقق بالكامل (القتل والتدمير، وجعل غزة منطقة غير صالحة للحياة، وبلا مستقبل، ما سيدفع بأهلها للهجرة).
ويقولون إن الحرب ستفكك حكومة نتنياهو، وكأنَّ الصراع مع نتنياهو شخصياً، ولا وجود لدولة ومؤسسات وجيش وإستراتيجية مدروسة بعناية.. يعوّلون على خسائر إسرائيل الاقتصادية، متناسين أن الفاتورة جاهزة.
لست من دعاة الإحباط، وبث اليأس، والإقرار بالهزيمة.. لكني أرفض المشاركة في الخديعة.. أدرك تماماً أن ما يفعله المقاومون شيء خارق وبطولي وفي منتهى الشجاعة، وأنحني إجلالاً لتضحياتهم.. لكني أعلم حدود قدراتهم، وأنَّ ميزان القوى مختل بالكامل، وأنَّ المقاومة مع كل تقديري لبطولاتها لم تحمِ مواطناً من القتل، ولم تمنع عمليات النزوح، ولا الاعتقال، ولم تمنع التدمير ولم توقف المذابح.. وكل الصواريخ لم تقتل إسرائيلياً واحداً، وأن شبكة الأنفاق صارت مبرراً لإسرائيل لمواصلة عدوانها.. صحيح أنها أوقعت خسائر فادحة في الجيش، لكنها لم تمنع تقدمه وسيطرته.
حولت هذه الخديعة الإعلامية كل مواطن إلى متفرج ومصفق، أعفته من مسؤولياته، وأراحته من واجباته، وصار يتابع الحرب كما لو أنها فلم حربي، وهو مدرك أن النصر صبر ساعة، وأن مائة ألف ضحية مجرد رقم، وأعراض جانبية لحرب لم تستهدفهم أساساً، لأن المستهدف «حماس»، و»حماس» بخير.. وبالتالي لا بأس.. والله يرحم الشهداء، وأهل غزة معتادون على التضحية.. إلخ.
للأسف سندرك الحقيقة متأخرين، وبعد فوات الأوان.. ولن يكون لهذا الإدراك أي قيمة..
وبعد انتهاء الحرب، لن تجد من يتذكر غزة، ومن يتابع مأساة الغزيين، وهم يبيتون في العراء، ويتضورون جوعاً، وقد تحولوا إلى حطام بشري، وصارت أخبارهم مملة ومتعبة للنفسية.. خصوصاً أشد المتحمسين للمقاومة الآن، لأنهم لن يجدوا مثلثات وتفجيرات ترفع مستويات الأدرينالين وتسليهم في سهرات المساء.
(
الأيام الفلسطينية)