نشرت مجلة "
فورين أفيرز" الأمريكية، مقالا، لمديرة هيومان رايتس ووتش، سارة ياغر، ما بين 2016- 2018 والمستشارة لرئيس هيئة الأركان في وزارة الدفاع لشؤون
حقوق الإنسان سابقا، دعت فيه الولايات المتحدة لـ"وقف نفاقها بشأن
غزة وتقييم السلوك الإسرائيلي ومحاسبتها عليه".
وأشارت بداية إلى تداعيات الحرب الانتقامية التي شنتها دولة الاحتلال الإسرائيلي ضد غزة بعد عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، من ارتفاع عدد الشهداء إلى أزيد من 27,000 وجرح أكثر من 6,000 شخص، والتهجير القسري لمعظم سكان غزة البالغ عددهم 2,3 مليون نسمة إلى جانب معاناة أكثر من 400,000
فلسطيني من الجوع والمجاعة والمرض، بسبب حصار الاحتلال الإسرائيلي على القطاع والقيود على دخول المواد الإنسانية، وسيزيد العدد هذا لو تراجعت المساعدات الدولية.
وقالت ياغر، إن "الأرقام مذهلة ولا يمكن فهمها بدون البحث فيما إن كانت إسرائيل قد خرقت القانون الدولي أثناء الحملة العسكرية، وهناك الكثير من الأدلة المتوفرة والتي تقترح أن إسرائيل بالفعل خرقت القانون الدولي. ونشرت منظمات حقوق الإنسان تقارير أن العقاب الجماعي للمدنيين وتدمير المباني المدنية لا تشكل أي خطر عسكري ولكن الغارات أدت لمقتل المدنيين وبأعداد كبيرة".
ووثقت منظمة "هيومان رايتس ووتش"، حالات عدة من الغارات غير القانونية ضد المستشفيات في غزة، مثل المستشفى الإندونيسي والأهلي ومركز العيون الدولي ومستشفى الصداقة التركي- الفلسطيني ومستشفى القدس. وسجلت "أمنستي انترناشونال"، استهداف بيت مزدحم بالمدنيين في غزة بذخيرة أمريكية الصنع وقتلت 43 مدنيا منهم 19 طفلا.
كذلك، استخدمت دولة الاحتلال الإسرائيلي قنابل ضخمة في مناطق ذات كثافة سكانية، وعندما يتعلق الأمر بانتهاكها للقانون الدولي، تتوفر أدلة واسعة للتأكد من صحة الشكوك. كل هذا يضع الولايات المتحدة أمام منعطف، لأن واشنطن هي أهم حليف وأكبر مصدر للأسلحة والمعدات العسكرية المتقدمة.
وحصلت دولة الاحتلال الإسرائيلي ومنذ إنشائها على ما مجموعه: 300 مليار دولار، إضافة إلى 10 مليارات أخرى في الطريق، مع أن القانون الأمريكي يشترط عدم استخدام الدعم العسكري الأمريكي في عمليات أمنية تخرق القانون الأمريكي والدولي. ويشترط القانون الأمريكي على وزارة الخارجية تقييم فيما إن كانت المساعدة العسكرية "سوف تستخدم على الأرجح" لخرق القانون الدولي.
وحتى الآن، لا يبدو أن وزارة الخارجية قامت بهذه التقييمات، في وقت دفع فيه المسؤولون البارزون في إدارة الاحتلال الإسرائيلي لتقليل الضحايا المدنيين والسماح بمزيد من المساعدات الإنسانية. وكرر وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، من تحذيراته أن عددا كبيرا من المدنيين الفلسطينيين قتلوا وكرر كلامه في منتدى دافوس الشهر الماضي.
وتحدث وزير الدفاع، لويد أوستن، عن الموضوع نفسه وأرسل مستشارين لنصح قوات الاحتلال الإسرائيلية حول كيفية الحد من القتلى المدنيين في مناخ صعب. ومع ذلك فلم يصدر من المسؤولين باستثناء تصريح الرئيس، جو بايدن، في كانون الأول/ ديسمبر الذي خرج عفوا عن الثمن الذي سوف تدفعه دولة الاحتلال الإسرائيلي على سمعتها بسبب القتل العشوائي. وقضى المتحدثون باسم الإدارة، أياما وهم يبررون ويفسرون كلام بايدن.
وعندما كان الصحافيون يسألونهم عن سلوك دولة الاحتلال الإسرائيلي جاء الرد من المتحدث الإعلامي باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي "لن نحكم على كل عمل تكتيكي" وقال المتحدث الإعلامي باسم البنتاغون، جاك رايدر، "لن أتحدث نيابة عن الإسرائيليين وعملياتهم" وأضاف أن "القوات الأمريكية لا تشترك مع القوات الإسرائيلية ولا تدير الحملة معها، وعليكم معرفة هذا، وبوضوح أن هذه هي عمليتهم وهم يديرونها".
وما هو غائب في هذه التصريحات والبيانات هو إن كانت دولة الاحتلال الإسرائيلي ملتزمة بالقانون الدولي في حربها على غزة، فلو كان المسؤولون الأمريكيون يعرفون أنها تفعل أو تقوم على الأقل بخطوات لتجنب الإضرار بالمدنيين في ظروف صعبة، لكانوا تحدثوا عن الأمر. لكنهم لم يفعلوا، رغم أن إدارة بايدن لم تتورع عن نقد المتحاربين وسلوكهم في نزاعات أخرى.
ولفت
المقال نفسه، الانتباه، إلى أن ما يحدث في غزة يحتاج من إدارة بايدن تغيير سياستها، ويضع إدارة الرئيس أمام خيارات صعبة تريد تجنبها، كما وستعقد من ديناميات العلاقات الأمريكية- الإسرائيلية المعقدة أصلا، وربما وضعت بايدن في موضع ضعف عام انتخابي. إلا أن الولايات المتحدة تجنبت مواجهة سلوك الاحتلال الإسرائيلي في غزة واكتفت بتطبيق قواعد الدعم العسكري وبطريقة انتقائية، فإنها تخسر موقفها الأخلاقي الذي تزعمه لنفسها.
وعلى مدى تاريخها، زعمت الولايات المتحدة أن الالتزام بقوانين الحرب هو ما يفرقها عن أعدائها. وقد شجبت إدارة بايدن، الجرائم التي ارتكبتها روسيا والنظام السوري، وعندما تعلق الأمر بدولة الاحتلال الإسرائيلي تظاهرت بأنها لا تستطيع الحكم على أفعالها، رغم تمويلها لهذه الأعمال. وما تحققه أمريكا من منافع قصيرة الأمد عبر هذه المواقف، يتقاصر أمام الأضرار على سمعتها ومصالحها بالمدى الطويل.
وعلى المسؤولين الحديث بصوت عال عما يرونه ويراه كل المراقبين للحرب في غزة وأن سلوك دولة الاحتلال الإسرائيلي غير مقبول. وربما كان ثمن الصدق غاليا إلا أن ثمن النفاق سيكون أعلى كلفة. وليس كل الوفيات والجراح بين المدنيين في وقت الحرب غير قانوني، فهي مقبولة لو تناسب عدد القتلى مع الهدف المشروع للضربة وتم التفريق بين المقاتلين والمدنيين، وكانت الضحايا متناسبة مع أهداف العملية العسكرية.
وفي بعض الأحيان، من السهل تحديد الضربة بأنها خرق للقانون لو لم يكن هناك هدف عسكري واضح. وفي حالات أخرى يصعب تقييم العملية بسبب عدد الضحايا غير المتناسب مع الهدف. ولهذا يحتاج الأمر لجمع المعلومات والتأكد من وجود عدو في المكان لتبرير الهجوم.
وأشارت
المجلة إلى أن جيش الاحتلال الإسرائيلي "يعمل في المنطقة الأكثر كثافة من ناحية السكان على وجه الأرض. وعادة ما يختفي مقاتلو حماس والفصائل الأخرى بين السكان أو في الأنفاق. وهذه الجماعات يطلب منها حماية المدنيين وعدم تعريضهم للخطر أو استخدامهم كدروع بشرية، إلا أن ما هو يفرضه القانون الدولي على حماس وغيرها، لا يعفي إسرائيل من مسؤوليتها بموجب القانون الدولي".
وتابع: "يفرض القانون الأمريكي على المسؤولين تقييم المساعدات العسكرية وطرق استخدامها من المتلقين الأجانب. وفي ضوء أعداد القتلى في غزة والدمار الشامل، فإن تقييما كهذا يصبح واجبا، لكن لا يوجد ما يشي بحدوثه".
وأضاف: "بحسب البند 502 بي من قانون المساعدة الأمريكية، يجب على وزارة الخارجية التأكد من عدم استخدام المساعدات في خروقات صارخة لحقوق الإنسان. إلى جانب هذا، فهناك قانون ليهي الذي مرره الكونغرس قبل عقود ويمنع إرسال الدعم العسكري الأمريكي إلى وحدات متهمة بانتهاكات حقوق الإنسان، وبموجبه منع إرسال الدعم لوحدات في الجيش النيجيري والنيبالي وهندوراس".
لكن قانون ليهي لا يطبق عندما يتعلق الأمر بدولة الاحتلال الإسرائيلي، حسب مدير مكتب الشؤون العسكرية والسياسية في وزارة الخارجية والذي استقال بعد 11 عاما كمدير له بسبب الحرب في غزة، جوش بول، وعادة ما يقدم المحامون وخبراء الجريمة في مكتب العدالة الجنائية الدولية بوازرة الخارجية تقييمات بشأن انتهاكات القانون الدولي في النزاعات.
وقدم فريق المجموعة تقييمات لبلينكن بشأن الحرب في إثيوبيا وانتهاكات الصين وميانمار والسودان، لكن لم يطلب من المجموعة أو مكتب آخر جمع الأدلة عن حملة الاحتلال الإسرائيلي في غزة.
وتفاقم فشل الإدارة الأمريكية بعدم التزامها بالمعايير التي وضعها بايدن بشأن حقوق الإنسان. ففي العام الماضي أعلنت وزارة الخارجية عن ميثاق نقل الأسلحة والذي يطالب المسؤولين بالنظر فيما إن كان الشريك المتلقي للأسلحة "سيقوم على الأرجح" باستخدام المساعدة الأمريكية في انتهاكات حقوق الإنسان، ولو كان الجواب نعم، فعندها يحظر إرسال المساعدات.
وقد وضعت السياسة موضع التطبيق في شباط/ فبراير عام 2023 لمنع الضحايا المدنيين وانتهاكات حقوق الإنسان. إلا أن الدعم الأمريكي لدولة الاحتلال الإسرائيلي في غزة يعني أن الإدارة خرقت سياستها بعد اندلاع الحرب مباشرة. وفي آب/ أغسطس قدمت إدارة بايدن سياسة جديدة وهي "تحقيقات الضرر بالمدنيين وإرشادات الرد" والتي تجبر وزارة الخارجية على التحقيق في مزاعم استخدام السلاح الأمريكي ضد المدنيين. ويقول المسؤولون في الخارجية إن "أولى التحقيقات جرت في سلوك إسرائيل بغزة، لكن النتائج ظلت سرية وهي ليست ملزمة في النهاية".
وفي الوقت الذي تدفن فيه الإدارة رأسها في الرمال، يتردد الكونغرس في اتخاذ إجراءات وقرارات تجبر المشرعين على النظر في سلوك الاحتلال الإسرائيلي بغزة. وتقدم بيرني ساندرز، السناتور المستقل عن فيرمونت، بمشروع قرار للنظر في المساعدات الأمريكية لدولة الاحتلال الإسرائيلي والتزام الأخيرة بحقوق الإنسان وحماية المدنيين، لكن القرار فشل، مع أنه لم يدع لوقف المساعدات عن إسرائيل.
وترى الكاتبة أن السبب وراء تردد الإدارة والكونغرس باستخدام ما لديهم من أدوات للضغط على دولة الاحتلال الإسرائيلي واشتراط استخدامها للسلاح الأمريكي معروف. فكل مساءلة تعني إجابة على أسئلة لاحقة وتغيير السياسة في المستقبل، كما ستكشف عن التواطؤ في جرائم دولة الاحتلال الإسرائيلي.
وفي النهاية، فرفض الإدارة الالتزام بروحية ونصوص القانون الأمريكي يعني أن واشنطن ترتكب خسارة فادحة بين المدنيين في غزة. والأسوأ هي خسارة المصداقية الأمريكية، وكمثال عن النفاق الأمريكي، علينا تذكر كيف شجبت أمريكا النظام السوري عام 2016 من أجل منعه الطعام والماء عن المدنيين في حلب. وقد فعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي نفس الأمر في غزة ومنذ أكثر من ثلاثة أشهر.
وشجب بايدن قصف روسيا المستشفيات والمدارس في أوكرانيا، وفعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي نفس الأمر في غزة وبدون أي شجب أو إشارة. وربما قال البعض إن "الولايات المتحدة تستطيع النفاق قليلا دعما لحليفتها الطويلة، لكن لعب هذا الدور سوف يؤدي لتآكل مصداقية أمريكا وبتداعيات أبعد من غزة".
كما أن تقارير وزارة الخارجية عن المذابح في السودان وأذربيجان ستكون جوفاء وبدون أي وزن. وسيصبح من السهل على العالم النظر لأمريكا بالبلد الذي يقوض القانون الدولي والنظام العالمي القائم على القواعد. ولمنع دولة الاحتلال الإسرائيلي من التأثير على مصداقية أمريكا، على إدارة بايدن تكليف مجموعة من المحامين بتقييم ما هو متوفر من معلومات، سرية وغير سرية، بشأن الحملة العسكرية للاحتلال الإسرائيلي في غزة وتحديد فيما إن خرقت قوات الاحتلال القانون الدولي ويجب أن تكون النتائج عامة وتقدم الأدلة للكونغرس وإعلام الاحتلال أن المساعدات في خطر.