انتشرت في الأسابيع الأخيرة على مواقع التواصل
الاجتماعي مقاطع فيديو لمصريين كثر، نساء ورجال، كبار وصغار، يشكون الفقر والجوع
وقلة الحيلة نتيجة تسونامي الغلاء الذي يجتاح
مصر إثر أزمة
اقتصادية ومالية عنيفة
لم يعد يجدي معها مفعول المسكّنات "المستوردة" ولا الإسعافات
"الخليجية"، بل وحتى جراحات التجميل عجزت عن إخفاء ملامحها.
قبل 7 سنوات اطلعت على دراسة علمية أجريت في جامعة
كولورادو بولدر الأمريكية (نشرها موقع "ساينس ديلي" المعني بالأبحاث
العلمية)، اكتشفت أن العلاج ببعض المسكنات التي من المفترض أن تخفف الألم، قد
تتسبب في إطالة الشعور بالألم، لأنها تصيب خلايا أخرى بآلام مزمنة يشعر بها
الإنسان لفترات طويلة (وقبل هذه الدراسة كان الأطباء ينصحون بتجنب الاستخدام
المفرط للمسكنات لأنه يؤذي الكلى والمعدة).
مصر أفرطت، على مدار السنوات العشر الماضية، في استخدام المسكنات لعلاج أزمتها الاقتصادية والمالية، فأدمنت القروض، واستساغت الإسعافات الخليجية، وركنت إلى الحلول السهلة بزيادة الضرائب وبيع الأصول المغرية ورفع الدعم وزيادة أسعار الخدمات، إلى أن دخلت فيما يسميها خبراء الاقتصاد بالدائرة الجهنمية
نتائج هذه الدراسة -وإن كانت في مجال الطب- فإنها ليست
ببعيدة عما يحدث في مجال الاقتصاد، فاستخدام بعض الأدوات لمعالجة أزمة في قطاع ما
قد يتسبب في حدوث أزمة بقطاعات أخرى، وأبسط مثال على ذلك هو أن زيادة أسعار
الفائدة كأداة رئيسية وحيدة لتسكين جموح التضخم يتسبب بطبيعة الحال في آلام أخرى،
ومنها على سبيل المثال ارتفاع تكاليف الاقتراض، وتراجع حجم الاستثمارات الجديدة،
وهبوط معدلات التوظيف، وارتفاع نسبة البطالة، وفي بعض البلدان يصاحب زيادة الفائدة
هبوط قيمة العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية وعودة معدلات التضخم للارتفاع
مجددا على المدى الطويل.
والحقيقة أن مصر أفرطت، على مدار السنوات العشر
الماضية، في استخدام المسكنات لعلاج أزمتها الاقتصادية والمالية، فأدمنت
القروض،
واستساغت الإسعافات الخليجية، وركنت إلى الحلول السهلة بزيادة الضرائب وبيع الأصول
المغرية ورفع الدعم وزيادة أسعار الخدمات، إلى أن دخلت فيما يسميها خبراء الاقتصاد
بالدائرة الجهنمية، وهي دائرة متصلة الحلقات من
الأزمات المتداخلة يتعذر الخلاص
منها. وقد يكون مصطلح الدائرة الجهنمية أقرب في التشبيه للمثل الشعبي "يطلع
من نُقرة يقع في دُحديرة".
لو نظرنا -على سبيل المثال- إلى حلقة الديون الخارجية
داخل هذه الدائرة الجهنمية، سنجد أن مصر اقترضت في العقد الأخير نحو ثلاثة أضعاف
ونصف حجم دينها الخارجي في 2014، ومع ذلك لا تزال تعاني من فجوة تمويلية ضخمة،
نتيجة لزيادة أقساط وفوائد الديون
الاقتصاد المصري الآن يرقد في العناية المركزة بسبب مجموعة من القرارات غير المدروسة طوال عشر سنوات أنهكت جسده واستنفذت مقدراته وضيعت أصوله، ويحتاج بشكل عاجل وسريع إلى علاج فعال وبرامج إصلاح حقيقية لضبط الأوضاع المالية وإعادة التوازن واستعادة الثقة في الاقتصاد قبل أن يزداد الوضع سوءا وتدهورا. والواقع أن العقبة الكبرى التي تحول دون التعافي الاقتصادي هي الاستمرار على نفس السياسيات
التي اقترضتها من مؤسسات التمويل الدولية وأسواق
الدين العالمية، وتتفاوض حاليا مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد بشروط
ربما تكون أكثر قسوة وإجحافا من اتفاقيات القروض السابقة، والتي سيتجرع مرارتها
ويتحمل الجزء الأكبر من أعبائها ملايين المصريين من الفقراء ومحدودي ومتوسطي
الدخل.
وبحسب البنك المركزي فإن إجمالي الالتزامات الخارجية
المطلوب من مصر سدادها خلال العام 2024 يبلغ 42.3 مليار دولار (32.8 مليار دولار
ديون متوسطة وطويلة الأجل، و9.5 مليار دولار أخرى من أقساط الديون والفوائد قصيرة
الأجل). أي أن حلقة الديون الخارجية وحدها ستبتلع هذا العام أكثر من نصف إيرادات
الدولة، وستساهم مع عوامل أخرى في اتساع وتزايد الحلقات المتصلة داخل الدائرة
الجهنمية، مثل تفاقم عجز الموازنة العامة، وارتفاع فاتورة النفقات العامة (مصروفات
الدولة)، وهبوط قيمة الجنيه، وزيادة الأسعار، وفرض ضرائب جديدة، وهكذا.
إن الاقتصاد المصري الآن يرقد في العناية المركزة بسبب
مجموعة من القرارات غير المدروسة طوال عشر سنوات أنهكت جسده واستنفذت مقدراته
وضيعت أصوله، ويحتاج بشكل عاجل وسريع إلى علاج فعال وبرامج إصلاح حقيقية لضبط
الأوضاع المالية وإعادة التوازن واستعادة الثقة في الاقتصاد قبل أن يزداد الوضع
سوءا وتدهورا. والواقع أن العقبة الكبرى التي تحول دون التعافي الاقتصادي هي الاستمرار
على نفس السياسيات والاعتماد على علاج صندوق النقد الدولي ومسكناته
"السامة" التي قد تؤدي إلى الموت البطيء للاقتصاد المصري.