يبدو أن الأزمة
الاقتصادية التي تعاني منها
مصر، مع تراجع قيمة العملة المحلية، واستمرار ارتفاع
أسعار جميع السلع، ووصول نسب التضخم إلى معدلات قياسية؛ أثرت بشكل مباشر على
صناعة العمل الخيري الذي يسبق شهر
رمضان في مصر، واعتاد
الفقراء انتظاره من العام
إلى العام.
وفي بلد يقطنه 106
ملايين نسمة، يقبع نحو 60 بالمئة منهم تحت خط الفقر، أو قريبون منه، بحسب تقرير
للبنك الدولي في أيار/ مايو 2019؛ تظل شنطة رمضان إحدى مساهمات الأغنياء والطبقة
الوسطى في إدخال الفرحة على الفقراء خلال الشهر الكريم، الذي يحل هذا العام في 10
أو 11 آذار/ مارس المقبل.
"لا سكر ولا
لحوم"
أسرة مصرية من
ميسوري الحال من الذين اعتادوا توزيع "شنط رمضان"، أكدت
لـ"عربي21"، أنهم يواجهون أزمات غير مسبوقة في توفير كرتونة رمضان
للفقراء ككل عام.
ولفتت إلى أن أزمتهم
كبيرة في توفير نفس العدد من الشنط التي اعتادوا عليها، وصعوبة توفير كم السلع
ونوعيتها التي كانوا يقدمونها في الأعوام الماضية، موضحة أن "من يبيعون تلك
الشنط جاهزة يغالون بشكل كبير في أسعارها".
وبينت أنها
"حاولت تعبئة الشنط عبر مجموعات أسرية ومجموعات نسائية وشبابية، وشراء السلع
من أماكن توفرها بمحلات الجملة، لكنها اصطدمت بارتفاع الأسعار أيضا، وندرة وشح بعض
السلع، بجانب جشع التجار وسياساتهم الاحتكارية".
وقالت إنها "حتى
الآن عاجزة عن توفير السكر، لعدم وجوده في الأسواق، مشيرة إلى أنه تم طرح كميات
كبيرة منه في كانون الثاني/ يناير الماضي، بسعر 27 جنيها، لكن التجار جمعوا أكبر
قدر، وقاموا بتخزينه وبيعه بـ37 جنيها بمكسب صافي 10 جنيهات، وهو الآن جملة بـ50
جنيه، ومررنا على الكثير من الموزعين الذين أكدوا عدم توفره".
وأوضحت أيضا أنه
"لا يمكننا توفير اللحوم ولا الدواجن كما اعتدنا سنويا، حيث إن سعر كيلو
اللحوم المستوردة بلغ 300 جنيها، بجانب أن اللحوم البلدية أغلى من ذلك
بكثير"، مبينة أنه "ورغم أهمية اللحوم في ظل هذا الغلاء لن نتمكن من
شرائها وتوزيعها".
وقالت: "كنا في
الأعوام الماضية، نضع نصف كيلو لحوم، وزجاجة زيت عبوة لتر، وكيلو أرز فاخر، وكيسي معكرونة 500 جرام، وعبوة سمن، وكيلو سكر، وباكو شاي ربع كيلو، و5 أكياس ملح صغيرة،
ونصف كيلو فاصوليا، ولوبيا وفول وعدس، وكيس تمر ولفة قمر الدين"، مضيفة: "لكن هذا العام لن تصل الشنطة للنصف".
ولفتت إلى أنها "نظرا لخبراتها السابقة في الأمر ومعرفتها بالعديد من التجار حصلت على عبوات
زيت سعة لتر بسعر العبوة 75 جنيها، بينما سعرها في السوبر ماركت نحو 100 جنيه،
مبينة أن سعر الكرتونة 880 جنيها، بينما تباع جملة بـ900 جنيه".
وعن المعكرونة بينت
أنها "حصلت على الكرتونة بـ200 جنيه بها 20 كيس عبوة 350 جرام، بسعر الكيس
10 جنيهات، رغم أنها تباع من المصنع بـ240 جنيها، والأرز الباكتة 10 أكياس بـ320
جنيها، وكيلو الشاي بـ230 جنيها، وعبوة سمنة بـ70 جنيه، (سعر الدولار رسميا 30.80
جنيها)".
"لهذا نرفض
الجمعيات"
وترى الأسرة، أنه
"برغم الصعوبة الشديدة في تحقيق نفس معدل التوزيع الذي اعتادت عليه والوصول
للعدد الذي دأبت على مساعدته كل عام قبل رمضان؛ إلا أنها لا تحبذ تقديم المبالغ
المالية للجمعيات الخيرية التي يمكنها الحصول على سلع بأسعار أقل والوصول لقاعدة
أكبر من الفقراء".
وقالت إن "الثقة
معدومة مع ما نسمعه عن تلك الجمعيات من حيث أن لديها كشوف توزع بينها أناس لا
يستحقون، أو أن بعضهم يحترفون الحصول على المساعدات، بينما هناك الكثير من
المحتاجين يتعففون، وهم من يمكننا الوصول إليهم".
وأكدت أنه "برغم
أن جمعيات كبيرة مثل الأورومان مثلا، تقدم كرتونة رمضانية فوق الممتازة، من حيث
نوعية السلع وكميتها، بجانب احتوائها على لحوم وكبدة، إلا أننا نسمع عن عمليات
فساد كبير في بعض الجمعيات".
وأوضحت الأسرة
المصرية، أن "بعض الجمعيات تمنح بعض المقربين من العاملين بها وأصحاب الحظوة
ورجال أعمال سيارات كاملة من الكراتين ليقوموا بتوزيعها هم في مناطقهم"،
ملمحة إلى أن "هؤلاء الأشخاص يقدمونها كرشى سياسية ويحصلون بها لاحقا على
مكاسب سياسية ويستغلون الأهالي والمحتاجين".
"تلاعب شركات
التوزيع"
أحد تجار الجملة،
الذين يقومون على تعبئة شنط رمضان، في حي "شبرا الخيمة" الشعبي شمال
القاهرة، قال إن "الأزمة تفاقمها شركات التعبئة والتوزيع وكبار التجار"،
موضحا أن "سلعة كالتمر مثلا يتم بيعها في أسوان (جنوب الصعيد) بسعر الكيلو
30 و35 جنيها، ليتم نقلها عبر شركات تعبئة وتوزيع لباقي الجمهورية ويبيعون جملتها
بـ65 و70 جنيها للأنواع الشعبية".
وأوضح أن الأمر ينطبق
كذلك على سلع مثل الأرز، أما عن السلع المستوردة مثل الزيت فلها أزماتها، وأزمة
الدولار هي ما تتحكم في ارتفاع سعرها وتوافرها من عدمه".
وحول غياب اللحوم عن
شنطة رمضان، قال إنه "أمر مستحيل، خاصة مع ارتفاع سعر اللحوم البلدية منذ
مطلع العام بنحو 10 جنيهات كل أسبوع، من نحو 260 جنيها إلى 320 جنيها بالمناطق
الشعبية، والأزمة إلى تفاقم حيث أن سعر اللحوم زاد بين يوم وليلة 50 جنيها دفعة
واحدة الخميس، ليصبح 370 جنيها في منطقتنا الشعبية".
وألمح التاجر، إلى أن
"قرار السيسي، رفع الرواتب والمعاشات ورفع الحد الأدنى للأجور 7 شباط/
فبراير الجاري كان سببا في استمرار رفع أسعار بعض السلع برغم ما حدث من تحسن
للجنيه مقابل الدولار"، مشيرا إلى أن "هذه الأزمة قائمة كل عام قبيل
رمضان، ولكنها هذا العام فاقت التوقعات".
والخميس، تقدمت عضو
لجنة الصناعة بمجلس النواب ايفلين متى، بطلب إحاطة لرئيس جهاز حماية المستهلك بشأن
ارتفاع الأسعار بشكل مستمر دون وجود رقابة من جانب الجهاز على أسعار السلع بجميع
القطاعات في الأسواق.
"موضة
وانتهت"
وفي حديث
"عربي21"، مع أحد أكبر محلات الجملة في مدينة منيا القمح بمحافظة
الشرقية، سخر بقوله: "كرتونة رمضان موضة وانتهت بسبب هذا الغلاء"،
متسائلا: "من لديه فلوس سيحافظ عليها ولن يقدم كراتين للفقراء".
وأكد أنه "لم
يطلب منه أحد شنط رمضان، كما أنه لم يسأله أحد على كرتونة رمضان"، موضحا أن
"الأسعار لجميع السلع في كرتونة رمضان العام الماضي أصبحت أكثر من
الضعف".
أم متولي، ونجاح،
ووداد، الأولى طاعنة في السن وبلا عائل، والثانية تعول زوجها المسن، والثالثة
مطلقة بـ4 أولاد، أجمعن في حديثهن لـ"عربي21"، على أهمية شنطة رمضان
بالنسبة لهن.
وأكدن أنه موسم سنوي
يحصلن فيه على اللحوم والدواجن وباقي السلع، مشيرات إلى حصولهن على "أكثر من
شنطة من أكثر من جهة تكفي رمضان وما بعد رمضان وخاصة البقوليات من الفول والعدس
والفاصوليا واللوبيا"، معربات عن مخاوفهن من ألا يحصلن على ما كن يحصلن عليه
بالأعوام السابقة.
وأوضحت أم متولي، أن
"الجمعيات الحكومية التي تعطيهم شنطة رمضان يتعاملون معهم بكل غلظة وفظاظة،
وينهرونهم دائما، وقال أحد الموظفين: ألم تشبعي من الكراتين؟ ومتى ستموتي
وتريحينا؟".
ومنذ الانقلاب العسكري
الذي ضرب البلاد 3 تموز/ يوليو 2013، جرى تجميد أرصدة آلاف الجمعيات الأهلية في
مصر وحلها، واعتقال أصحابها ومصادرة أموالهم، ما حرم ملايين المصريين من خدمات
تلك الجمعيات التي كانت تمتلك قاعدة بيانات كاملة بالفقراء.
في أيلول/ سبتمبر 2013،
أصدرت وزارة العدل قرارا بحل جمعية الإخوان المسلمين والتحفظ على أموالها، في
تنفيذ لحكم صادر عن محكمة الأمور المستعجلة، طال حينها 1055 جمعية في القاهرة
والمحافظات، بينها الجمعية الشرعية، وجمعية أنصار السنة، وهو القرار الذي تكرر
لاحقا خلال السنوات الماضية بحق آلاف الجمعيات.
وأصدر نظام السيسي
قانون الجمعيات الأهلية عام 2017، الذي وصفته منظمة "هيومن رايتس
ووتش"، بأنه "بالغ القسوة"، ويهدد بسحق العمل المستقل لمنظمات
المجتمع المدني، ويقضي بحبس العاملين فيها، وفي 14 تموز/ يوليو 2019، أقر
البرلمان المصري قانونا جديدا فرض الكثير من القيود على عمل المنظمات.
وفي المقابل، أبقى
النظام على عدد من الجمعيات وأسند إداراتها إلى قادة سابقين في الجيش المصري،
وإلى وزراء سابقين، حيث يدير جمعية "الأورمان" اللواء ممدوح شعبان،
ويرأس مجلس أمناء "صناع الحياة"، و"مصر الخير"، وزير التنمية
المحلية الأسبق محسن النعماني، ومفتي مصر الأسبق علي جمعة.
فيما تعد أشهر
الجمعيات: "رسالة، والأورمان، ومرسال، وبنك الطعام المصري، وصناع الحياة،
ومصر الخير".
"تبعات
التجريف"
الكاتب والباحث المصري
مجدي الحداد، تحدث لـ"عربي21"، حول تأثير الحالة الاقتصادية على العمل
الخيري وعلى الفقراء في رمضان، منتقدا غياب الدولة عن دعم الفقراء وتركه في يد
الجمعيات الخيرية، وما يثار عن عمليات فساد في منظومات تلك الجمعيات.
وقال إن "الوضع
الاقتصادي بالغ الأهمية والخطورة، وبداية لم تكن شنط رمضان وغيرها من مساعدات
للمحتاجين، في رمضان وغير رمضان، وقفا على الطبقة الغنية وميسوري الحال، ولكنها
كادت أن تكون عادة لدى الطبقة المتوسطة".
وتساءل: "أين
ذهبت هذه الطبقة؟"، مبينا أن "الإجابة عن هذا السؤال تساعدنا على فهم
ندرة، أو حتى ربما اختفاء شنط رمضان هذا العام".
وأكد أن "هذا
النظام أولى هذه الطبقة ضمن ما أولى به من هدم وتجريف وتخريب وتدمير لكل مفيد
وحيوي بهذا البلد، حيث قضى على الطبقة المتوسطة، رمانة الميزان بأي مجتمع، والتي
لا يمكن لأي مجتمع النهوض بدونها".
ولفت إلى أنه "مع
تحول تلك الطبقة، وبفضل إجراءاته الاقتصادية الهدامة المعروفة، إلى طبقة دنيا، أو
فقيرة، أو حتى معوزة ومعدمة، كيف يمكن لها أن تقدم مساعدات أو شنط رمضان لغيرها،
في حين أصبحت هي فجأة محتاجة لمثل تلك المساعدات".
وخلص للقول إن
"هذا ربما يوضح حجم تأثير الحالة الاقتصادية وكذلك الاجتماعية على العمل
الخيري، والذي اعتاد عليه المصريون".
"تخل وليس
غياب"
وحول غياب دور الدولة
في دعم الفقراء قبل رمضان، قال إن "اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، لم
تكن متعلقة فقط بالصراع العربي الإسرائيلي، ولا بصلح مصر المنفرد مع الكيان
المحتل من خلال لعنة (كامب ديفيد) 1978، لكن كان من بين تفاصيلها، تركيز السلطة
والثروة بيد فئة قليلة من المجتمع فاسدة بالطبع، وربما عميلة أيضا، وترك بقية
الشعب يواجه مصيره بنفسه".
وأضاف: "وكذلك
تخلي الدولة وليس غياب الدولة عن شعبها، وليس فقرائها فقط، لصالح الطبقة الجديدة
التي تم اصطناعها لتكون سندا وظهيرا وظهرا للنظام، بل وكل نظام ترضى عنه فقط
واشنطن وتل أبيب".
ولفت إلى أنه
"أصبح لسان حال الوضع الراهن هنا الآن، وربما في كل مكان آخر من عالمنا
العربي يقول حرفيا: (السلطة والثروة والسلاح، منزوعة، ومستلبة من الشعب، وموجهة
ضده".
وأكد أن "عمليات
التجريف والهدم والتخريب طالت أيضا الجمعيات الأهلية، أو الخيرية الحقيقية، والتي
ربما تم تصفيتها، أو حتى أصحابها، وهي الجمعيات التي كانت تنفق سرا، عملا
بالقاعدة التي تقول: (لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه)".
وأشار إلى أن
"جمعية مثل جمعية الأورمان مثلا، أثار دهشتي أنه يترأس مجلس إدارتها لواء
جيش أيضا، والأغرب من ذلك أنها قد قامت بعمل دعائي مكلف مكتوب عليه عبارة:
(ممول)".
وأوضح أنها "صورت
حركة شاحنات تحمل اسمها وشعارها، تدخل معبر رفح صوب غزة، ثم صورتها وهي خارجة من
القطاع، مع عبارة تقول ما معناه: (حتى تطمئنوا على تبرعاتكم)".
وأوضح أنه "لما
صور بعض أهالي غزة محتويات بعض الشاحنات، وجدوا معظمها فارغا، وكان ببعضها بضعة
كراتين بسكويت، وشاحنات أخرى تحمل أكفانا، وربما كانت غير تابعة لتلك
الجمعية".
وأضاف: "لكن
السؤال: لماذا يُسمح مثلا بدخول تلك الشاحنات، وتمنع مئات الشاحنات الأخرى، وحتى
اللحظة، من الدخول لغزة؟"، مؤكدا أنه "بالطبع هناك فساد خلف سماح النظام
لجمعيات خيرية معينة بالبقاء والاستمرار".
وقال: "أخشى أن
يكون ما سبق هو كل مؤهلاتها وجواز مرورها، في الوقت الذي تمت فيه تصفية جمعيات أخرى،
وربما اعتقال أصحابها، إذا اعتبرنا بعض الجانب الحقوقي جزءا من نشاط الجمعيات
الأهلية، أو المنظمات غير الحكومية بمعناها الواسع".