أحدث اتفاق استثماري
مصري إماراتي جديد بقيمة 35 مليار دولار، دويا هائلا بالسوق المصرية التي تعاني من أزمات طاحنة، حيث ارتفعت قيمة السندات المصرية المقومة بالدولار، وتراجعت أسعار صرف العملات الصعبة بالسوق الموازية، ما يدعو للتساؤل حول دور تلك الصفقة بإنهاء أزمات أكبر بلد عربي سكانا.
والجمعة، أعلن رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، عن اتفاق مع
الإمارات على بيع مدينة مصرية، مقابل 35 مليار دولار تسددها أبوظبي خلال شهرين، بدفعة أولى 15 مليار دولار تسدد بعد أسبوع، ودفعة ثانية 20 مليار دولار تسدد بعد شهرين مع إسقاط ودائع قيمتها 11 مليار دولار مستحقة للإمارات، 5 منها بالدفعة الأولى، و6 بالدفعة الثانية.
"رأس الحكمة"، محل الاتفاق، تبعد 350 كيلومترا تقريبا شمال غربي القاهرة، ونحو 200 كيلومتر غربي الإسكندرية، وبين مدينتي الضبعة والعلمين الجديدة، وتمتد داخل البحر المتوسط كمنطقة منتجعات سياحية راقية وشواطئ تشتهر بالرمال البيضاء يقصدها الأثرياء، ولملك مصر السابق فاروق، ورؤسائها اللاحقين جمال عبدالناصر، وأنور السادات، وحسني مبارك، حضور بها.
واستحوذ صندوق الاستثمار السيادي في أبوظبي، (إيه.دي.كيو)، على مساحة نحو 40,600 فدان، (170 مليون متر مربع) بالمدينة، لبناء مناطق استثمارية ومواقع سكنية وتجارية ومشروعات سياحية وترفيهية، قد تدر في النهاية بـ 150 مليار دولار، فيما سيكون للدولة المصرية 35 بالمئة من أرباح المشروع، وللإمارات 65 بالمئة.
"دوي هائل"
ومع توقع البلدين صفقة مدينة "رأس الحكمة" والإعلان عن دخول البلاد 35 مليار دولار خلال شهرين، فإنه هوى سعر صرف الدولار الأمريكي بالسوق السوداء، من 64 إلى 52 جنيها بانخفاض قرابة 12 جنيها في 24 ساعة مع توقف البيع والشراء بشكل تام في السوق، بحسب موقع "اليوم السابع"، المحلي.
لكنّ تجارا ومتعاملين أوضحوا أن سعر صرف الدولار البالغ بالسوق الرسمية نحو 30.8 جنيه هوى بالسوق السوداء عصر السبت إلى 45 جنيها، مع هبوط سعر صرف اليورو من 63 جنيها الجمعة، إلى 50 جنيها، السبت.
وفي سوق الذهب الذي يعتبره المصريون إحدى الملاذات الآمنة مع الدولار والعقارات، حدث انهيار لافت بأسعاره في مصر، عقب إعلان الاتفاق، ومع انهيار سعر الدولار بالسوق السوداء.
والجمعة، افتتح المعدن الأصفر تداولاته عند 3430 جنيها قبل أن يخسر حوالي 170 جنيها من قيمته، ليبلغ سعر غرام عيار 21 الأكثر مبيعا في مصر نحو 3260 جنيها للغرام، الذي هوى السبت، لأقل مستوى خلال ثلاثة أشهر، ليسجل عيار 21 نحو 3 آلاف جنيه للغرام، بينما عالميا، استقر سعر الذهب السبت، عند 2036 دولارا.
وعلى الجانب الآخر، فقد قفزت السندات السيادية المصرية المقومة بالدولار مع الإعلان عن الاتفاق، حيث أظهرت بيانات "تريدويب ماركتس" أن السندات الأطول أجلا حققت أكبر مكاسب، وسط تأكيد محللين أن الصفقة خطوة لتقليل المخاطر المتعلقة بعوائد الاستثمار فى سندات مصر الدولارية.
وارتفعت السندات المستحقة في 2047 أو ما بعدها بأكثر من ثلاثة سنتات ليجري تداولها بين 66.6 و70.2 سنت، كما ارتفعت السندات المقومة بالدولار "استحقاق 2050" بأكثر من سنتين، وهو أعلى مستوى لها في نحو عام.
وتعاني مصر من أزمة اقتصادية حادة، والمصريون من تضخم تاريخي، وتشهد سوقها نقصا مزمنا بالعملة الأجنبية مع دين يقدر بـ165 مليار دولار، ما أدى لضغط مستمر على الجنيه، وعلى الإنفاق الحكومي، والشركات المحلية، في وضع زاد تأزما بتراجع إيرادات قناة السويس بفعل التوترات الجيوسياسية جنوب البحر الأحمر.
لكن، مع صفقة رأس الحكمة وتوقع رئيس الوزراء المصري أن يحقق المشروع الاستقرار النقدي، ويكبح جماح التضخم، ويقضي على السوق السوداء؛ تثار التساؤلات حول إمكانية تقليل أزمة مصر مع العملات الصعبة، وانتهاء أزمات المستوردين والسلع الاستراتيجية الناقصة في السوق وتعوض نقص قطع الغيار والخامات الأولية بفعل نقص الدولار.
ماذا عن التعويم؟
وإلى جانب ذلك، فإن هناك سؤالا آخر يشغل بال المصريين العاديين قبل المستثمرين أو الخبراء والمحللين، الذين يأملون في أن توقف الصفقة أي قرار جديد لتحرير سعر صرف العملة المحلية، وسط مخاوف من أن تعجل الصفقة بالقرار، وما يتبع ذلك من انفجار في أسعار السلع.
وحول هذه النقطة توقع بنك "مورغان ستانلي" أن تكون الصفقة "تمهيدا لتعديل مصر سعر صرف الجنيه"، قائلا إنها "الخطوة التي نعتقد أنها ستكون الأخيرة قبل إتمام اتفاق مع صندوق النقد الدولي ببرنامج تمويل تتخطى قيمته الـ10 مليارات دولار قبل شهر رمضان على الأرجح".
وتوقع البنك أن يستمر انخفاض سعر صرف الجنيه في السوق الموازية خلال الأسبوع القادم، بعد تراجع العقود الآجلة للجنيه غير القابلة للتسليم لأجل 12 شهرا إلى مستويات 57.5 من 62 جنيها بعد الإعلان عن صفقة رأس الحكمة.
بل إن رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري، فخري الفقي، أشار إلى نقطة التعويم في حديثه لقناة "CNBC عربية"، بقوله إن "السعر الفعلي الحقيقي للدولار الأمريكي وفقا للمعادلات وحسابات دقيقة بين 35 إلى 40 جنيها في الأجل المتوسط".
ما يشير إلى احتمالات تخفض قيمة العملة بالبنك المركزي المصري من معدل 30.80 جنيه مقابل الدولار إلى نحو 40 جنيها رسميا.
ومنذ اتفاق مصر مع صندوق النقد الدولي نهاية العام 2022، للحصول على تمويل يساهم في حل أزمتها النقدية مع الدولار، يتخوف نحو 106 ملايين مصري يعيشون بالداخل من تبعات قرار حكومي جديد بتحرير سعر صرف العملة المحلية مقابل العملات الأجنبية
وخفض البنك المركزي المصري قيمة الجنيه بنحو النصف في الفترة من آذار/ مارس 2022 إلى كانون الثاني/ يناير 2023، قبل أن يثبته عند مستوى 30.95 للدولار، فيما جرى تداول الجنيه منذ مطلع العام الجاري عند معدل 70 جنيها للدولار في السوق الموازية.
"مسكن وخطوة نحو التعويم"
وفي رؤيته، قال رئيس الأكاديمية الأوروبية للتمويل والاقتصاد الإسلامي الدكتور أشرف دوابه: "أرى أن الأزمات الاقتصادية للدول لا تُحل أبدا ببيع الأصول، لأن مثل هذا التخصيص لأرض مدينة الحكمة إلى الإمارات هو عملية بيع عند وضع الاتفاق في مآله الصحيح حتى لو قيل إنها عملية تخصيص".
الأكاديمي المصري ورئيس التمويل والاقتصاد بجامعة "اسطنبول"، أشار في حديثه لـ"عربي21"، إلى اتساع حجم مساحة الأراضي بالصفقة، مبينا أن "اتفاق الساحل الشمالي ليس مرتبطا برأس الحكمة فقط، بل أنه ممتد حتى مدينة سيدي براني، بحسب ما قرأت في موقع صحيفة الأهرام الحكومية".
وحول الفرص المحتملة خلف ذلك الاتفاق وما يمكن أن يقدمه من حلول لأزمات الاقتصاد المصري، يرى دوابه، أن "الموضوع مجرد مسكن، وهو أيضا فرصة للحكومة المصرية بأن تقوم بعمل تسريع لعملية تعويم الجنيه مقابل العملات الأجنبية، ولو وصلت لها تلك المبالغ بالصورة المعلن عنها عندها فقد تتم عملية تعديل سعر الصرف".
ويعتقد أن "الأزمة لن تنتهي كلية، ولكنها ستُسكن ثم بعدها تعود لتستفحل"، مؤكدا أن "الحل ليس في تدشين مشروعات خدمية مثل تلك يستفيد منها علية القوم وباقي الشعب لا يجد، وليس معنى تشغيل عمالة في بناء إنشاءات أو غيره يحل المشكلة لشعب يصل تعداده بالداخل 106 ملايين نسمة".
وقال إنه "من المفترض أن تركز الحكومة على مشروعات لها دور كبير في تشغيل العمالة، وتكون إنتاجية، يحل إنتاجها محل الواردات لتحسن ميزان المدفوعات المصري، وتشجع الصادرات، وتقلل الفجوة بين الصادرات والواردات".
"لكنهم يتحدثون فقط عن قطاع السياحة، وإن كان لدينا سياحة لكن للأسف فالاستراتيجية القائمة غير صحيحة، كما أن هذا التوجه نحو السياحة له مخاطره الأخلاقية لاحقا بالنسبة لمصر".
"إلغاء إعلان الإفلاس"
ووفق قراءته لتفاصيل الاتفاق المصري الإماراتي ووضع الاقتصاد المصري، قال الخبير الاقتصادي والأكاديمي المصري الدكتور أحمد ذكرالله، لـ"عربي21"، إن "الصفقة الجديدة نوع من من أنواع مسكنات الألم الذي يعاني منه الاقتصاد المصري".
أستاذ الاقتصاد بكلية التجارة جامعة الأزهر، أضاف: "وبالتالي هذه المسكنات يمكن أن تخفض حدة الألم عن الاقتصاد، ولكن لا تنهيها بصورة كاملة"، مقللا من دور الصفقة في حل أزمات مصر "إذا لم يعقبها صفقات أخرى جديدة مكملة".
وأوضح أنها "لا تعدو أن تكون إلا جزءا من الأموال واجبة السداد العام الحالي"، مبينا أن "مصر عليها سداد 42 مليار دولار أقساطا وفوائد ديون خارجية في 2024، بالتالي فإن الحديث عن دخول 35 مليار دولار لمصر فهو مبلغ أقل من الواجب سداده، هذا من ناحية".
ولفت إلى أنه "من الناحية الأخرى فإن مبلغ 11 مليار دولار هي بالأساس ودائع إماراتية بالبنك المركزي المصري تم استلامها بفترات سابقة وجرى تحويلها من صورة ودائع لاستثمارات، وبهذا يصبح المبلغ الفعلي الذي ستتلمه مصر 24 مليار دولار ، وهو لا يكفي لسداد أقساط وفوائد ومتأخرات العام الحالي".
وأشار إلى قول بعض الإعلاميين المصريين الجمعة، إن هناك صفقات أخرى في الطريق، موضحا أنه "في حال لم تتم تلك الصفقات فإن الأمور لن تتحسن كثيرا عن الوضع الحالي".
ومع ذلك فإنه يعتقد خبير واستشاري التدريب ودراسات الجدوى، أن صفقة رأس الحكمة، "ربما تعطي نفسا جديدا للاقتصاد المصري، وربما يعقبها نوع من أنواع الاقتراض الخارجي، وهو ما يفسره حرص الحكومة على اللجوء لصندوق النقد الدولي مرة أخرى لأخذ ورقة وصك اعتراف بقدرات الاقتصاد بعد تخفيض التصنيف الائتماني لمصر أكثر من مرة العام الماضي".
وتوقع بالتالي "اللجوء إلى سوق السندات الدولية للاقتراض لإكمال ما على مصر من ديون وفوائد وأقساط العام الحالي، وأيضا لسداد الفجوة التمويلية، وخاصة الجزء الأهم منها، وهو ما يتعلق بالميزان التجاري، ولعل ذلك يقول ببساطة إن ملف الاستيراد واستقرار أسعار الصرف كلها أمور مؤجلة".
وذهب ذكرالله، للاعتقاد بأن "هناك تعويما قادما، وربما يصل سعر الجنيه إلى 40 جنيها مقابل الدولار،"، مبينا أن "كل تأثير الصفقة الجديدة هو إلغاء إعلان الافلاس واستبداله بإمكانيات تمويلية جديدة تخفف حدة الآلام المبرحة التي كان يعاني منها الاقتصاد المصري ولكنها لا تعالجه بصورة مطلقة".
"مشروعات فنكوش"
وعبر صفحتها بموقع "فيسبوك"، كتبت الصحفية مي عزام تحت عنوان "الصفقة التي ستنقذ مصر"، قائلة: "خرج علينا رئيس الوزراء مهللا بأن الدولة قد أبرمت صفقة ستعيد العافية إلى الاقتصاد المصري المأزوم والمتعطش للعملة الخضراء، لدفع أقساط الديون، واستيراد السلع الضرورية، وهو ماسيخفف إلى حين أزمة الدولار".
وأضافت: "صفقة رأس الحكمة تدل على أن تفكير من يدير مقدرات مصر لم ولن يتغير، فدولة رئيس الوزراء يدير مصر بفكرة المقاول لا رجل الدولة، ولا حتى رجل الصناعة، والاكتفاء الذاتي، والرقم الذي يتحدثون عنه يعتبر قطرة في بحر الديون التي تثقل كاهلنا، وسيذوب خلال فترة وجيزة في شرايين الدولة التي تعاني من الجلطة".
وأكدت أن "المصريين فقدوا الثقة تماما بكلام الحكومة وتحمسهم لمشروعات ستدر علي مصر ريعا كبيرا، كما حدث من قبل مع حقل غاز ظُهر، وغيره من مشاريع مثل أكبر مزرعة سمكية وزراعة مليون فدان"، لافتة إلى "أننا اكتشفنا وقت الجد والحاجة أنها مشروعات فنكوش"، في إشارة إلى عدم جدواها.
وفي مقابل رؤية البعض لعدم فائدة ذلك الاتفاق للمصريين وأنه لا دور له في حل أزماتهم، فقد رصد الإعلامي أحمد سامح، فوائد الإمارات منه، قائلا عبر موقع "إكس"، إن رأس الحكمة ستصبح الإمارة الثامنة للإمارات ولكن على البحر المتوسط.
وتوقع أن تستغل الإمارات موقعها الجديد في رأس الحكمة لإدارة ملف غاز شرق المتوسط، في مساحة جغرافية محمية بالجيش والبوليس المصري خارج أي ضغط خليجي، بجانب علاقات مباشرة مع أوروبا، خاصة مع تدشين ميناء بحري، ومطار، ملمحا إلى أنها ستكون "موناكو خليجية على البحر المتوسط".